مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2024

الميمات والجينات

أوجه الشبه بين الأفكار في الثقافة الرقمية والموروثات الجينية

د. غسان مراد

باتساع المجال لكل من يريد أن ينشر أفكاره على شبكة الإنترنت، برزت ابتكارات عديدة من أهمها الميمات التي تُثير أسئلة حول طبيعتها وشروط انتشارها من جهة، وتشابهها مع وظيفة الجينات من جهة أخرى. فهل الحضارة الرقمية الحديثة تتبع حركة الجينات البيولوجية التي نتوارثها مع الزمن؟ وهل تنتقل الأفكار، بوصفها موروثًا ثقافيًا، من شخص إلى آخر بنحو يتشابه مع حركة الجينات البشرية المكوّنة لشخصيته وهويته. هذه الحالة من التبادل بين الأشكال التعبيرية، تشكل مواضيع بحث مزدهرة في العلوم كافة. فهناك من يُقاربها بوصفها ظاهرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهناك أيضًا من يقاربها من زاوية العلوم الطبيعية وعِلم الأحياء.

برز مفهوم الميمات، وهي منشورات تبدأ من الفكاهة والسخرية وصولًا إلى أقصى درجات الجدية في الخطاب، بوصفها موضوعًا يُسهِّل فهم مسارات النشر الرقمي عبر الشبكة، ومجالًا لتحليل أثرها الثقافي؛ لفهم تأثيرها على سلوكيات الأفراد وإمكانية التلاعب بهم وتشرُّبهم بها، بحسب مصطلح الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو، واستكشاف ما إن كانت تُغيِّر في بنيتهم الفكرية كما تفعل الجينات عندما تنتشر وتتكاثر.

ميمات الإنترنت وعلاقتها بالجينات

تُحدَّد العلاقة بين الميمات والجينات في كيفية انتقال المعلومات وتطوُّرها في مجالات مختلفة. فالميمات مفهوم يُعبِّر عن وحدات من المعلومات تنتقل من شخص إلى آخر عبر التقليد والتكرار بواسطة شبكات التواصل والتفاعلات الاجتماعية، وبعضها عبر وسائل الإعلام؛ وهو ما قد يؤثر في معتقدات الأفراد والمجتمعات وسلوكياتهم. وهي تشمل كل أنماط التعبير عن الأفكار، من نص وصور وشعارات وهفوات، وغيرها. أمَّا الجينات، التي هي جزء من الحمض النووي (DNA) فهي وحدات من المعلومات البيولوجية التي تنتقل من جيل إلى جيل عبر التكاثر، وتحتوي على التعليمات اللازمة لتطوير الكائنات الحية، وتُحدِّد الخصائص الفيزيولوجية، مثل لون العينين وشكل الوجه، وتؤثر في القابلية للإصابة بأمراض معينة.

ويعود أصل مفهوم الميم إلى نظرية ريتشارد دوكينز حول التطوُّر الثقافي، التي طرحها في كتابه “الجين الأناني” عام 1976م، في فصل “الميمات.. المكررات الجديدة”. استوحى دوكينز كلمة “ميم” من الكلمة اليونانية “mímêma” التي تعني “شيئًا يُقلَّد”. ويجب عدم الخلط بينها وبين كلمة “même” الفرنسية التي تعني “الشيء نفسه”، على الرغم من أن المعنى قد يكون متسقًا مع المفهوم.

يُقدِّم دوكينز، في كتابه المذكور آنفًا، رؤية جديدة لعملية التطوُّر تُركِّز على الجين. وتكمن أهم نقاطها في استخدامه مصطلح “الجين الأناني” لوصف الجينات بأنها كيانات تتصرف بطريقة تزيد من فرص بقائها وتكاثرها. وهذا لا يعني أن الجينات لديها إرادة خاصة، بل إنه يمكن وصف تأثيراتها كما لو كانت أنانية. وبدلًا من التركيز على الكائنات الفردية أو المجموعات، يرى دوكينز أن الانتقاء الطبيعي يعمل بشكل رئيس على مستوى الجينات. فالجينات التي تنجح في التكاثر والانتشار هي تلك التي تؤثر في السلوكيات والصفات التي تعزِّز بقاءها.

وأهم من ذلك، يُعرِّف دوكينز “الميم” الذي هو “وحدة فكرية متميزة” تُحدد الثقافة، عن طريق القياس مع الجين البيولوجي؛ لأنه يتصرف مثل “الجين الأناني” ويعمل بطريقة معزولة ومتميزة ناشرًا الثقافة عن طريق التكرار.

وغالبًا ما يجري تمثيل هذا “التكرار الثقافي” بصورة الفيروس وفقًا لبعض العلماء، لقدرته على إعادة إنتاج نفسه والانتشار بسرعة من دماغ إلى آخر. والتكرار مع تغيرات معينة في بنية “الميم”، يُشبَّه بخصوبة الأفكار، وبذلك يكون امتدادًا كاملًا للحياة إلى ما هو أبعد من الحياة البيولوجية.

أمثلة واقعية

لتقريب الفكرة حول تطبيق نظرية دوكينز، يوجد عند النحل ما يُسمَّى “السلوك الإيثاري”، الذي يُعطي من دون حساب. فالنحل العامل لا يتكاثر ذاتيًا، بل يعمل على تغذية وحماية الملكة ويرقاتها. للوهلة الأولى، يبدو هذا سلوكًا إيثاريًا، حيث يُضحِّي “العمال” بتكاثرهم من أجل مصلحة الخلية. فوفقًا لنظرية دوكينز، يمكن تفسير هذا السلوك بأن العمال يشتركون في جزء كبير من جيناتهم مع الملكة ويرقاتها. وبمساعدة الملكة على التكاثر، يضمنون انتقال جيناتهم الخاصة. ومن ثَمَّ، فإن السلوك الإيثاري للعمال هو في الواقع إستراتيجية لزيادة انتشار جيناتهم.

وبتطبيق النظرية على انتشار الأفكار أو السلوكيات الثقافية (الميمات)، يمكن لأغنية شعبية، مثلًا، أن تنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأنها سهلة التذكر والمشاركة. وتتصرف الميمات بطريقة مشابهة للجينات من حيث قدرتها على الانتشار والتطوُّر بناءً على قدرتها على التذكُّر والنقل. فالأغنية التي تبقى في الذهن لديها فرص أكبر للانتشار، تمامًا مثل الجين المفيد الذي لديه فرص أكبر للتكاثر.

ويمكن تطبيق هذه النظرية على البشر بطرق متعددة لتفسير بعض السلوكيات والظواهر الاجتماعية. فالسلوكيات الإيثارية مثل التبرع بالدم أو العمل التطوعي، يمكن تفسيرها بنظرية “الجين الأناني”. وبحسب دوكينز، يمكن لهذه السلوكيات أن تزيد من بقاء الجينات المشتركة مع الآخرين. فعلى سبيل المثال، يمكن لمساعدة أحد أفراد العائلة أن تزيد من فرص بقاء جينات مشابهة.

تتبع الميمات إستراتيجيات التكاثر البشرية، مثل اختيار الشركاء بناءً على صفات معينة مثل القوة والذكاء وغيرهما، ويمكن رؤيتها من خلال منظور الجين الأناني لزيادة انتقال جيناتها من خلال اختيار شركاء يزيدون من فرص بقاء وتكاثر ذريتهم، أو من خلال ما يُسمَّى “سلوكيات المجموعة” مثل التعاون وتشكيل التحالفات مع أولئك الذين يشتركون في جينات مشابهة لزيادة فرص بقاء هذه الجينات.

كما يُمكن تطبيق مفهوم الميمات بشكل مثير للاهتمام على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُشارك هذه الميمات غالبًاؤوتُعدَّل ويُعاد استخدامها، وهو ما يسمح لها بالانتشار على نطاق واسع وبسرعة، ويساعد على انتشارها. وإضافة إلى ذلك، فإن خوارزميات هذه المنصات تُفضِّل المحتوى الذي يولّد كثيرًا من التفاعلات مثل: الإعجابات والمشاركات والتعليقات؛ وهو ما يسمح للميمات الشعبية بمزيد من الانتشار.

من منظور موازٍ، تستخدم الشركات غالبًا الميمات الشعبية لإنشاء حملات تسويقية ودعائية؛ إذ تُمكِّنها من الوصول إلى جمهور واسع بطريقة فعَّالة. فعلى سبيل المثال، يمكن للعلامة التجارية إنشاء “ميم” حول منتجها لجذب الانتباه وتشجيع المشاركة. كما وجدت الحركات الاجتماعية والسياسية أن الميمات تؤدي من جهة دورًا في نشر الشعارات والصور والفيديوهات بوصفها رموزًا لحشد الناس، ومن جهة أخرى يمكن استغلالها في منشوراتٍ لطرح قضايا مثل تغيّر المناخ أو الحقوق المدنية، أو للاستهزاء ببعض السياسيين خاصة خلال الحملات الانتخابية. كما يمكن استخدام الميمات لتعليم الجمهور وتوعيتهم حول مواضيع مختلفة.

الثقافة الرقمية

انتشرت هذه الظاهرة لأسباب عديدة حتى باتت تُشكِّل عنصرًا رئيسًا من عناصر الثقافة الرقمية. فالميمات هي انعكاس للثقافة الشعبية ولاهتمامات جيل معين، وغالبًا ما تتضمن إشارات إلى الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وألعاب الفيديو. كما أنها تتفاعل مع الأحداث الآنية، وهو ما يزيد من انتشارها. وبفضل تطوُّر التطبيقات مثل الفوتوشوب وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أصبح إنشاء الميمات وتعديلها أمرًا سهلًا ومُتاحًا للجميع. هذا التطوُّر أدى إلى ديمقراطية إنشاء المحتوى والسماح لمجموعة متنوعة من المستخدمين بالمشاركة في ثقافة الميمات.

تتمتع أكثر الميمات رواجًا بثلاث خصائص مشتركة: الفكاهة، حيث يجب أن يكون للميم بُعد كوميدي وجذَّاب؛ والتناص، أي أن يتضمن الميم إشارة واحدة أو أكثر إلى عناصر ثقافية أو نصية أخرى، غالبًا ما تكون ضمنية؛ والتقارب غير النمطي، أي اتصال عدة كائنات بصرية أو دلالية من دون ارتباطات واضحة مما يجعل الميم كائنًا مثيرًا للاهتمام.

التأثير على المستخدمين وخاصة الشباب

من الممكن أن يؤثر انتشار الميمات في المستخدمين، وخاصة جيل الشباب، من جوانب مختلفة من حياتهم الاجتماعية والعاطفية والثقافية. ويُمكن لهذا التأثير أن يكون إيجابيًا من خلال التعبير عن الهوية؛ إذ تتيح الميمات للشباب التعبير عن مشاعرهم وآرائهم وهويتهم بطريقة إبداعية وفكاهية. كما يمكنهم التعرُّف على أنفسهم في بعض الميمات واستخدامها للتواصل مع أقرانهم. وعمليًا، يشارك الشباب الميمات التي تعكس تجارب مشتركة، وهو ما يعزِّز الروابط الاجتماعية والشعور بالانتماء إلى مجموعة. إضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الميمات لتوعية الشباب بالقضايا الاجتماعية مثل الحقوق المدنية، أو البيئية مثل تغيُّر المناخ، وتحفيزهم على المشاركة فيها. وبالنسبة إلى المستخدم المحترس رقميًا؛ أي المستخدم الواعي رقميًا، ويعرف كيف يتحكم في وقته ولا يتأثر بالتقنيات، فإن الميمات تصبح مصدرًا للترفيه، وهو ما قد يساعد في تقليل التوتر وتحسين المزاج.

ولكن ككلِّ مكون فكري ثقافي منتشر، مع الاستخدام الكثيف للتقنيات، توجد دائمًا جوانب سلبية جرّاء تعرُّض الشباب لها، تتمثَّل أولًا في التنمر الإلكتروني ومضايقة الآخرين، وهو ما قد يؤثر في الصحة العقلية للشباب. وثانيًا، التعرُّض لمحتوى غير لائق ومُسيء وضار. ثم يمكن لمقارنة الحياة بالميمات المثالية أو الفكاهية أحيانًا، أن تؤثر سلبًا في تقدير الذات، وهذا ما قد يُسبِّب القلق والاكتئاب. وإلى ذلك، هناك خطر الإدمان وإضاعة الوقت من خلال استهلاك الميمات أو إنشائها، وهو ما يؤدي إلى فقدان الإنتاجية. كما يمكن للميمات، التي تطبع بعض السلوكيات الخطرة أو غير المناسبة، أن تُشجِّع الشباب على تبنيها. وأخطر من كل ذلك هو انتشار ما بات يُعرف بـ”تعفُّن الدماغ”، وهو مصطلح ناشئ يشير إلى ما يتسبب به فرط استهلاك التقنيات والميمات منخفضة الجودة وغير المفيدة، إذ يؤدي ذلك إلى فقدان التركيز وانعدام التفكير النقدي نتيجة الإفراط في متابعة هذه الميمات السلبية، سواء كان ذلك على شكل صور أو فيديوهات أو غيرها.

نقد نظرية دوكينز

يرى بعض النقَّاد أن نظرية دوكينز تبسّط بشكل مفرط السلوكيات المعقدة للكائنات الحية إلى مجرد بقاء الجينات، التي يعدُّها المحرك الرئيس للسلوكيات والتطوُّر. ويعتقدون أن هذا النهج يتجاهل مستويات التنظيم العليا، مثل الأفراد والمجموعات، التي هي عبارة عن كيانات لها تأثير على التطوُّر، مثل: السلوكيات الاجتماعية والتعاون والتفاعلات بين الناس في بيئة معينة والتنظيم المجتمعي. كما يرى آخرون أنها تفتقر إلى الصرامة العلمية والتحقق التجريبي لدعم ادعاءاته، وبخاصة المتعلقة بالميمات.

كما نُقِدت هذه النظرية من قِبل علماء الأحياء التطوُّرية الآخرين، على أساس أن التطوُّر لا يحدث بشكل مستمر وتدريجي كما يقترح، بل من خلال فترات من الاستقرار تتخللها فترات من التغيّر السريع. ويتهمه البعض بالتشبيه البشري؛ أي نسب خصائص بشرية إلى الجينات بوصفها “أنانية”. ويعتقدون أن هذا يمكن أن يكون مضللًا ويبسط بشكل مفرط فهم البيولوجيا التطوُّرية. كما يعتقد بعض النقَّاد أن نظرية “الجين الأناني” يمكن أن تؤثر سلبًا في الإدراك العام من خلال تعزيز أفكار المنافسة والأنانية على حساب التعاون والإيثار، وهي أيضًا جوانب مهمة من التطوُّر.

التشابه مع النظريات اللغوية

في علم اللغة المعرفي، تتطور الهياكل اللغوية، التي يمكن تشبيهها بالنمط الجيني، ومظاهرها التي يمكن تشبيهها بالنمط الجيني الظاهري، بمرور الوقت ومن خلال التفاعلات الاجتماعية. فالوحدات الأساسية أو الهياكل العميقة في علم اللغة المعرفي هي القواعد النحوية. من ناحية تأثير التفاعلات، تتأثر السلوكيات والميمات بالتفاعلات الاجتماعية. أمَّا في علم اللغة المعرفي، فالهياكل اللغوية ومظاهرها تتأثر أيضًا بالتفاعلات الاجتماعية والثقافية.

وأخيرًا، إذا كان البناء النظري حول النقل الثقافي والنظريات التطوُّرية يبدو جذابًا، فإن مفهوم الميم يظل مع ذلك غير قادر على تأسيس شرعية علمية حقيقية، ولا سيَّما بسبب غياب دراسات الحالة كاملةً، وما يمنعها من تجاوز القياس البسيط. ومع أن هذا المصطلح هامشي إلى حدٍّ بعيد في المجال العلمي، فقد اعتُمِد لوصف نمط رقمي ينتشر بسرعة كبيرة على الإنترنت. وهكذا دخلت “ميمات الإنترنت” إلى القواميس الأنجلوسكسونية، وصُنِّفت ضمن الكلمات العشر البارزة في عام 2012م.

ففي النهاية، ليس المهم أن نعرف ماذا نفعل بالتقنيات، الأهم أن نعرف ما تفعله التقنيات بنا!


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


2 تعليقات على “الميمات والجينات”

  • مقال يستحق ان يعاد كتابته لاهميته في طرح موضوع اصبح وان كان للعين المجردة مجرد صور كرتونية لكن هناك تحدي بان تكون الحضارة الرقيمة الحديثة دعم لتطوير المهارات البشرية والمعرفية
    ايضا اتمنى ان نرا ما هي الحلول المستخدمة في تقليل الاثار السلبية

  • المقال رائع والموضوع مميز ولكن لا توجد سلاسه في الطرح والكثير من الافكار والجمل مكرره على مدار المقال; على ما يمدو لم يتم التقيح. مما جعل القارئ يمل ويفقد اهتمامه في القراءه.
    وتم لفت الانتباه الى تأثير الميمات على تعفن الدماغ فوجب تضمين المقال بذلك.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *