للموسيقى أهمية خاصة في حياة الأفراد والأمم، فهي حاملة للهوية، وبالقدر نفسه تسهم في بنائها. ولطالما ارتبط النقاش حول الموسيقى بأسئلة أساسية حول الأصالة والتجديد. وكثيرًا ما يصل النقاش إلى قطيعة بين أنصار الطرفين، وهذا ما تعيشه الموسيقى العربية منذ عقود طويلة.
ولفهم تعقيدات هذا الواقع الموسيقي العربي، تطرح “القافلة” هذه القضية بكل ما يحيط بها من أسئلة: ما مدى الالتزام بالقواعد وحدود الحق في التجديد؟ وهل الموسيقى الشائعة اليوم هي قطيعة مع التراث، أم تطوير له؟ وما الذي يمكن أن تأتي به الأيام؟ أهناك إمكانية للبقاء على تواصل مع الإرث الموسيقي، أم أن الغلبة هي حتمًا للأشكال الجديدة؟ وهل يمكن التنبؤ بهذه الأشكال؟ وهل يمكن الحديث عن موسيقى عربية واحدة، أم أن هناك خصوصيات إقليمية هنا وهناك؟
يبدو الجدل حول الألوان الموسيقية العربية صعبًا لأسباب كثيرة، منها تنوع البيئات الموسيقية العربية، والطبيعة غير المحددة لمصطلح “الطرب” الذي يصعب وصفه وتتغير طبيعته طبقًا لذوق المتلقي. وثمة صعوبات أخرى تتعلق بمفاهيم أخرى مثل “الأصالة”، وإلى أي زمن يجب أن نعود عندما نتحدث عن الأصالة والهوية العربية في الموسيقى والغناء؟
فالواقع الموسيقي يبدو منذ عقود منقسمًا بين تيارين: أحدهما يتمسك بأصول الموسيقى التي سادت ثلاثة أرباع القرن العشرين، تبث تسجيلاته في الإذاعات الرسمية، ويعاد غناؤه بأصوات جديدة في حفلات الموسيقى العربية، بوصفه تراثًا. والتيار الثاني جديد يسيطر على القنوات الحديثة والأقل رسمية من حفلات ومنصات إلكترونية، ولأغنياته طابع الوسائل التي تقدمه من الانتشار والخبو السريع والتجديد المستمر. فهل نعيش دورة أخرى من دورات ميلاد الجديد من القديم، أم أن الخلاف يبلغ حدّ التحدي للهوية العربية؟
ثمّة اتفاق على أن الموسيقى العربية عرفت نهضتها التجديدية الكبرى في بداية القرن العشرين، حين انفصلت عن المؤثرات التركية. وللمفارقة، فإن ذلك التجديد لم يحدث بمعزل عن تأثير الموسيقى وألوان الغناء الغربية
وثمّة إجماع آخر على أن انغلاق قوس هذه النهضة كان عام 1975م، وهو تاريخ وفاة أم كلثوم، على الرغم من استمرار أساليب النهضة لسنوات إضافية مع المشروع الفيروزي وأصوات أخرى كثيرة مثل: عبدالحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وحتى عفاف راضي.
في التسعينيات من القرن العشرين، بدا أن هذا المشروع لفظ أنفاسه على الرغم من تجديد المشروع الفيروزي مع زياد رحباني ومحاولات وردة الجزائرية في أغنياتها الأخيرة وما شابه ذلك. وبرزت اتجاهات أشهرها البوب والراب والمهرجانات (الظاهرة المصرية الحديثة).
وبينما يرى البعض في هذه الظواهر تطورًا ضروريًّا خلقته ذائقة أجيال جديدة من حقها أن تختار موسيقاها وفنونها، هناك من يراها تدهورًا وانحطاطًا بالذوق الموسيقي وخروجًا على تقاليد الموسيقى العربية وهويتها. اتهامات طالت التجديديين في بداية القرن العشرين قبل أن يستسلم التيار القديم ويلفظ أنفاسه. فهل ما نعيشه الآن تكرار للتجربة الأولى؟
الكبار في الموسيقى العربية.. من هم؟
المشكلة هي أن الأساس الفكري في هذه الحرب ليس كبيرًا، لأن الكتابة النقدية عن الموسيقى قليلة؛ نظرًا لصعوبة شرح مصطلحاتها للقراء غير المتخصصين. وقد انقضت موجة التجديد في القرن العشرين من دون كتب يُعتد بها في نقد الموسيقى، باستثناء بعض المذكرات التي كتبها فنانون أو صحفيون بناء على محاوراتهم مع المطربين والملحنين ومتابعتهم للشأن الموسيقي في مجلاتهم، حتى ظهر كتاب الدكتور فكتور سحّاب “الأعمدة السبعة للموسيقى العربية”. وسرعان ما اتخذ الكتاب مكانة جعلته أرضية صلبة للنقاش العربي حول الموسيقى. يستقي منه المتحمسون لعصر النهضة الموسيقية حججهم ويناطحه المتحمسون للجديد.
فحسب سحّاب، السبعة الكبار هم: سيد درويش، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، ورياض السنباطي، وأسمهان. السبعة ولدوا في الفترة الواقعة بين الأعوام 1892م و1917م، وهي فترة “قلّما يولد لأمم الأرض نظير لهم في مثل هذا الزمن القصير”.
أقام سحّاب اختياره على معيارين: السبق في الولادة، والتجديد الذي قدمه كل من السبعة الذين اختارهم كبارًا للموسيقى العربية. وهكذا استبعد كبارًا قبلهم مثل عبده الحامولي وسلامة حجازي ومحمد عثمان باعتبارهم كبار موسيقيي القرن التاسع عشر من دون تجديد. كما استبعد كبارًا جاؤوا بعد السبعة المختارين من أمثال محمد فوزي وفريد الأطرش ومحمود الشريف؛ لأنهم ساروا في طرق فتحها السبعة الكبار، الذين يشتركون في أمر لا يشاركهم فيه الآخرون، وهو أن الموسيقى كانت قبلهم شيئًا وأصبحت من خلالهم شيئًا آخر.
وبحسب سحّاب أيضًا، فقد وضع سيد درويش أسس التعبير المسرحي والتمثيلي، ووضع القصبجي ملامح المونولوج الوجداني وثبَّت أصوله الموسيقية، وطوّر الشيخ زكريا الدور والطقطوقة، وطوّر عبدالوهاب القصيدة وأنشأ الموال في أغنية مستقلة ووضع ملامح الأغنية السينمائية، وثبَّت السنباطي ملامح الأغنية المسرحية وأضفى نفحة صوفية على الموسيقى العربية. وأمّا السيدتان، اللتان ضمتهما القائمة، فهما مغنيتان لا مؤلفتان موسيقيتان، ويَحسب سحّاب لأم كلثوم أنها عاندت أحكام الأسطوانة بشأن طول الأغنية، ويَحسب لأسمهان المزاوجة بين الموسيقى العربية وبعض أساليب الغرب وإنشاءها مفهومًا جديدًا للغناء النسائي العربي امتد تأثيره في الغناء العربي المعاصر.
أثر التطور الاجتماعي والتكنولوجي
لم يغفل سحّاب دور الظروف الاجتماعية والسياسية والتطور التكنولوجي الذي صادف السبعة الكبار وأثره في تطور الموسيقى العربية. سياسيًّا واجتماعيًّا، كانت القاهرة تمور بتغييرات كبيرة في سعيها للتحرر من الاستعمار، وقد أسفر سعيها عن ثورة 1919م. وتكنولوجيًّا، ظهر الفونوغراف عام 1904م، الذي تطلب أن تكون الأغنية قصيرة، فاختفت الوصلة الغنائية وظهرت مكوّناتها في أنواع غنائية مستقلة: الموال والموشح والدور. ثم ظهرت الأفلام الغنائية (كان أولها عام 1932م)، ثم جاءت الإذاعة عام 1943م لتعيد الاعتبار للأغنية الطويلة.
كما تأثرت الموسيقى بالغناء الأوبرالي الإيطالي الذي عرفه الجمهور منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان أثره واضحًا على أكبر السبعة الكبار سيد درويش، واقتضى المسرح الغنائي والسينما ابتكار المحاورات الغنائية، وعززت السينما على وجه الخصوص ظهور التعبير الوجداني والمحاورة والمضمون الاجتماعي.
الناقد الموسيقي إلياس سحّاب لم يخرج كثيرًا على رؤية شقيقه فكتور. في كتابه “الموسيقى العربية في القرن العشرين.. مشاهد ومحطات ووجوه” تناول تجربة تجديد القرن العشرين متوقفًا طويلًا أمام محمد عبدالوهاب مثلما توقف شقيقه أمام سيد درويش.
وبقدر رسوخ كتابي فكتور وإلياس سحّاب، بقدر ما تعرَّضا للنقد من ممثلي الجيل الجديد مثل فادي عبدالله الذي يرى أن إلياس لم يتمكن من تجاوز الفصل الشائع بين “قديم” و”جديد”. كما يأخذ على النقاش الدائر بشأن الموسيقى انحصاره في القاهرة وبيروت، ولا يتناول المشهد في المناطق العربية الأخرى. وهو اعتراض وجيه ينطبق على المملكة والخليج، وربَّما للمغرب العربي شأن مختلف أيضًا.
لايجوز استماع الموسيقى