Hero image

الموسيقى الشعبية والأدب: ‭"‬الطروق‭ "‬السعودية‭ ‬مثالًا

مايو - يونيو 2023

يوليو 20, 2023

شارك

تشكل‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬إحدى‭ ‬مواد‭ ‬التلقي‭ ‬الفني‭ ‬والتذوق‭ ‬الجمالي. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬بتلوّنها‭ ‬وعراقتهـا‭ ‬تُعتبر‭ ‬مقياسًا‭ ‬للامتداد‭ ‬الحضاري‭ ‬القديم‭ ‬لهذا‭ ‬الشعب‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬كما‭ ‬تمثل‭ ‬هوية‭ ‬وتراثًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السماع‭ ‬والنغم‭ ‬المليء‭ ‬بقصص‭ ‬كثيرة. ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬تتصل‭ ‬مع‭ ‬الحاضر‭  ‬بأساليب‭ ‬تتكئ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الموسيقى‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الموسيقي‭ ‬الشعبي‭ ‬العريق. ‬فماذا‭ ‬إذًا‭ ‬عن‭ ‬علاقتها‭ ‬بالأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬قيمة‭ ‬مشابهة؟

تتقاطع‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬مع‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العناصر. ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬العام،‭ ‬وجزءًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬من‭ ‬تركيبة‭ ‬المجتمعات‭ ‬منذ‭ ‬قديم‭ ‬الزمن،‭ ‬وذلك‭ ‬لعدة‭ ‬اعتبارات،‭ ‬أهمها‭ ‬التقاليد‭ ‬الشفاهية‭ ‬التي‭ ‬مرَّ‭ ‬بها‭ ‬الأدب‭ ‬القديم‭.‬

فالأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬القديم‭ ‬شفاهي‭ ‬متوارث‭ ‬منذ‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬جيل. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬سمات‭ ‬الأدب‭ ‬الشفاهي‭ ‬التواصل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصوت‭ ‬والسماع،‭ ‬حيث‭ ‬الذاكرة‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬حفظ‭ ‬المنتجات‭ ‬الأدبية،‭ ‬الشعرية‭ ‬منها‭ ‬والنثرية‭ ‬والنغمية. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬قبل‭ ‬انتشار‭ ‬وسائل‭ ‬التدوين‭ ‬فيها‭.‬

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدم،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬الآداب‭ ‬الشفاهية‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬أدب‭ ‬المؤلف‭ ‬الواحد،‭ ‬فالمؤلف‭ ‬الواحد‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬الشفاهية‭ ‬غائب‭ ‬وغير‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان. ‬وينطبق‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية،‭ ‬فعندما‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬أصولها‭ ‬نجدها‭ ‬قديمة،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬العام‭ ‬لمجتمعاتها،‭ ‬وصلتنا‭ ‬بعد‭ ‬توارثها‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬السماع‭ ‬والمشافهة‭.‬

طروق‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية

من‭ ‬أهم‭ ‬فنون‭ ‬السماع‭ ‬والشفاهية‭ ‬الثقافية‭ ‬للموسيقى‭ ‬الشعبية،‭ ‬ما‭ ‬تعارف‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬بشأن “الطُروق‭”‬ أو “الطواريق‭”‬‬، وهي‭ ‬ألحان‭ ‬قديمة‭ ‬عرفها‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وتوارثوها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬موغل‭ ‬في‭ ‬القِدم. ‬وأحيانًا‭ ‬يطلق “الطاروق‭”‬ على‭ ‬فن‭ ‬القلطة. ‬والطروق‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬كثيرة‭ ‬جدًا،‭ ‬وتعد‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬للفنون‭ ‬الأدائية‭ ‬التقليدية. ‬وقد‭ ‬ذكرها‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬بالقول: “‬لو‭ ‬أمدحه‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬المدح‭ ‬طاروق‭.”‬

تتأسس‭ ‬الطروق‭ ‬على‭ ‬بحور‭ ‬شعرية‭ ‬وألحان؛‭ ‬بعضها‭ ‬يُؤدى‭ ‬على‭ ‬إيقاعات‭ ‬شعبية،‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إيقاعات. ‬والطَرْق‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يتكون‭ ‬منه‭ ‬البحر‭ ‬الشعري‭ ‬وهو‭ ‬الحركات‭ ‬والسكنات،‭ ‬وقد‭ ‬اكتشفها‭ ‬الخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الفراهيدي‭ ‬عندما‭ ‬سمع‭ ‬طَرق‭ ‬النحاسين‭ ‬والحدادين‭ ‬في‭ ‬السوق،‭ ‬فأسس‭ ‬لعروض‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬وطروقه. ‬وعلى‭ ‬حد‭ ‬علمنا‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يُطلق “طرق” ‬أو “طروق” ‬على‭ ‬ألحان‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬المملكة،‭ ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أصالة‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬وتجذره‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬ثقافة‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬وممارسيها‭.‬

موسيقى‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية

تعامل‭ ‬الناس‭ ‬مع‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬عزفًا‭ ‬وسماعًا‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬عند‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬العالم: ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬اليومية‭ ‬والمناسبات‭ ‬الخاصة. ‬ورددوا‭ ‬الألحان‭ ‬والطروق‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬الأفراح،‭ ‬وأثناء‭ ‬بناء‭ ‬البيوت،‭ ‬وفي‭ ‬مواسم‭ ‬الحصاد،‭ ‬ومناسبات‭ ‬الزواج‭ ‬والختان،‭ ‬والأعمال‭ ‬والحِرف‭ ‬اليدوية‭ ‬المختلفة،‭ ‬ومناسبات‭ ‬التعلُم‭ ‬والتخرُج‭ ‬من‭ ‬كُتاب‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يصعب‭ ‬حصره‭.‬

وهذا‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬الأعمال‭ ‬والمواسم‭ ‬وبين‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬ارتباط‭ ‬الشعوب‭ ‬بهويتها‭ ‬الشعرية‭ ‬والنغمية‭ ‬وقيم‭ ‬المجتمع‭ ‬وعاداته‭ ‬وتقاليده،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬استلهام‭ ‬هذه‭ ‬الموسيقى‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬الطبيعية‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والصحاري‭ ‬والجبال‭ ‬والبحار،‭ ‬وأصوات‭ ‬الحيوانات‭ ‬والطيور. ‬وتبقى‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة‭ ‬الثقافية‭ ‬ضمن‭ ‬دائرة‭ ‬متواصلة،‭ ‬يومية‭ ‬وشهرية‭ ‬وسنوية،‭ ‬تعود‭ ‬وتعود‭ ‬لتشكل‭ ‬طقسًا،‭ ‬بل‭ ‬طقوسَ‭ ‬عبور‭ ‬متعددة‭ ‬تمارسها‭ ‬المجتمعات‭ ‬طوال‭ ‬العمر‭.‬

وغالب‭ ‬موضوعات‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬قيم‭ ‬الفخر‭ ‬والشجاعة‭ ‬والرجولة‭ ‬والأنوثة‭ ‬والمطاردات‭ ‬والغزوات‭ ‬وذكريات‭ ‬الصيد‭ ‬والرحلات‭ ‬القبلية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬والغزل‭ ‬والحنين‭ ‬والرثاء،‭ ‬وتحضر‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬إما‭ ‬تلميحًا،‭ ‬وإما‭ ‬تصريحًا،‭ ‬وتُفسَّر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدراك‭ ‬المتلقي‭ ‬لعميق‭ ‬الثقافة‭ ‬الأنثربولوجية‭ ‬للمجتمع‭.‬

ابنة‭ ‬بيئتها‭ ‬الخاصة

تلتحم‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬بمجتمعاتها‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬ريفية‭ ‬زراعية‭ ‬أم‭ ‬جبلية‭ ‬أم‭ ‬صحراوية‭ ‬أم‭ ‬بحرية،‭ ‬وتأخذ‭ ‬سماتها‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬وخصائصها. ‬ولو‭ ‬تناولنا‭ ‬مثالًا‭ ‬لموسيقى‭ ‬الأرياف‭ ‬في‭ ‬المملكة،‭ ‬وأخذنا‭ ‬واحة‭ ‬الأحساء‭ ‬نموذجًا‭ ‬لذلك،‭ ‬فسوف‭ ‬نجدها‭ ‬موسيقى‭ ‬تشيع‭ ‬فيها‭ ‬السهولة‭ ‬والحنين‭ ‬والغزل‭ ‬وحب‭ ‬الحياة. ‬وتتأكد‭ ‬تلك‭ ‬الموضوعات‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬وطروق “الخمَّاري‭ ‬الحساوي”‬، و “دق‭ ‬الحب” ،و “الهيده” ‬و “‬السامري”. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مقاماتها‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يشعر‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬بالزهو‭ ‬والفخامة‭ ‬وعشق‭ ‬الجمال،‭ ‬كمقامات “الرست” ‬و “البيات” ‬و “السيكا” ‬و “الهزام”. ‬ونجد‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬كلمات‭ ‬الأغاني‭ ‬ومفرداتها‭ ‬الشعرية‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬الأرض‭ ‬والورود‭ ‬والأشجار‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬والتغزل‭ ‬بها،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموال‭ ‬الشهير‭:‬

‭‬بنيت‭ ‬الشوق‭ ‬قصر‭ ‬عالي‭ ‬من‭ ‬ورِدْ‭..‬

طينه‭ ‬من‭ ‬المسج‭ ‬ومعجونٍ‭ ‬على‭ ‬ماي‭ ‬الورد‭

أو‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬موال‭ ‬آخر‭ ‬يقول:‬

خدك‭ ‬من‭ ‬الوَرِدْ‭ ‬والا‭ ‬الورد‭ ‬من‭ ‬خدك؟‭

فمفردات‭ ‬الطبيعة،‭ ‬خضرتها‭ ‬وجمالها‭ ‬وبهجتها‭ ‬تمتزج‭ ‬بروح‭ ‬النغم‭ ‬الحساوي‭ ‬وموسيقاه‭ ‬الشعبية‭ ‬التقليدية‭ ‬القديمة‭ ‬والموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬الحديثة‭.‬

ونجد‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬الجبلية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الموضوعات،‭ ‬لكنها‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬التلحين‭ ‬عن‭ ‬موسيقى‭ ‬الريف‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬طروقها‭ ‬ونغماتها‭ ‬وأشكال‭ ‬تفعيلاتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬نظامها‭ ‬الخاص‭ ‬وأساليبها‭ ‬المرتبطة‭ ‬بثقافة‭ ‬الجبال‭ ‬والقوة‭ ‬والفخامة. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬والغزل‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬ألحان‭ ‬طروق “العشي” ‬و “الخطوة” ‬و “العزاوي”‬،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الألحان‭ ‬المغذية‭ ‬للموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬الطبيعية‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬والجبال‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬البادية‭ ‬وفنون‭ ‬البحر‭ ‬والغوص‭ ‬على‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬حيث‭ ‬الحنين‭ ‬والغزل‭ ‬يشكلان‭ ‬أهم‭ ‬سمة‭ ‬لموضوعات‭ ‬الشعر. ‬وهي‭ ‬مؤثرة‭ ‬تأثيرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬الطروق‭ ‬والألحان‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية،‭ ‬ووجدان‭ ‬ومشاعر‭ ‬المؤدين‭ ‬لها‭.‬

الاتكاء‭ ‬على‭ ‬الشِعر

تتكئ‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي،‭ ‬أم‭ ‬شعر‭ ‬القصيد،‭ ‬أم‭ ‬الشعر‭ ‬الخاص‭ ‬بفنون‭ ‬المقامات‭ ‬أو “المواويل”‬،‭ ‬وسواء‭ ‬في “المثولثات” ‬أم “المروبعات” ‬أم “المسودسات” ‬أم “المسوبعات”‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بحسب‭ ‬طبيعة‭ ‬كل‭ ‬بيئة‭ ‬وبحسب‭ ‬الممارسات‭ ‬المجتمعية‭ ‬وتخصصها‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬دون‭ ‬غيره‭.‬

ففي‭ ‬المملكة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬استخدامات‭ ‬كثيرة‭ ‬للشعر‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية،‭ ‬ومنها: ‬شعر “الزهيري” ‬و “البوذيات” ‬و “المروبعات”‬،‭ ‬وشعر‭ ‬القصيد‭ ‬وشعر “الكسرات”‬،‭ ‬وشعر‭ ‬البحور‭ ‬القصيرة‭ ‬والبحور‭ ‬الطويلة،‭ ‬و “المنكوس” ‬و “الهجيني” ‬و “السامري”‬،‭ ‬وغيرها… ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬ثراء‭ ‬تلك‭ ‬الأنواع‭ ‬ومتانة‭ ‬الأسس‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬عليها‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭.‬

ويُروى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الممارسين‭ ‬القدامى‭ ‬وشعراء‭ ‬الثقافة‭ ‬الشفاهية‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬ينظمون‭ ‬الشعر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الضرب‭ ‬على‭ ‬صندوق،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬أداة‭ ‬تظهر‭ ‬صوتًا‭ ‬إيقاعيًا‭ ‬ترتبط‭ ‬به‭ ‬تفاعيل‭ ‬الشعر‭ ‬مع‭ ‬الإيقاعات‭ ‬اللحنية. ‬وكان‭ ‬الارتجال‭ ‬للشعر‭ ‬سمة‭ ‬أساسية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ربط‭ ‬النظم‭ ‬الشعري‭ ‬باللحن‭ ‬والنغم‭ ‬الذي‭ ‬تمتلئ‭ ‬به‭ ‬روح‭ ‬الشاعر‭ ‬وعاطفته،‭ ‬فيفيض‭ ‬حبًا‭ ‬وشجنًا. ‬ولذلك،‭ ‬فهو‭ ‬شاعر‭ ‬فنان،‭ ‬وفنان‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭.‬

وغالب‭ ‬ممارسي‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬تمتعوا‭ ‬بهذا‭ ‬التكامل‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‭ ‬الشعرية‭ ‬والروائية‭ ‬واللحنية‭ ‬النغمية‭.‬

من‭ ‬النظم‭ ‬إلى‭ ‬الانتشار‭ ‬عبر‭ ‬الرواة

وللموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬ارتباط‭ ‬كبير‭ ‬بالقصص‭ ‬والحكايات،‭ ‬فغالب‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬مرتبط‭ ‬بقصص‭ ‬واقعية. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والمطربين‭ ‬كانوا‭ ‬صادقين‭ ‬في‭ ‬تجاربهم‭ ‬الموسيقية‭ ‬والعاطفية. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أحدهم،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬موجودًا‭ ‬قبل‭ ‬سبعين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬كان‭ ‬يصطحب‭ ‬معه‭ ‬دائمًا‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬رفاقه‭ ‬ممن‭ ‬يحفظون‭ ‬الشعر‭ ‬حفظًا‭ ‬متقنًا،‭ ‬فيلازمانه‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الإقامة. ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬أنشأ‭ ‬أبياتًا‭ ‬وأشعارًا‭ ‬يسمعها‭ ‬هذان‭ ‬الراويان‭ ‬فيحفظانها‭ ‬ويرويانها‭ ‬لآخرين،‭ ‬جريًا‭ ‬على‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬شاعر‭ ‬راوية‭ ‬أو‭ ‬أكثر. ‬وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬للذين‭ ‬يمارسون‭ ‬فنون‭ ‬العزف‭ ‬على “السمسمية” ‬أو “‬الربابة” ‬أو‭ ‬العود‭ ‬أو‭ ‬الإيقاع،‭ ‬فإنهم‭ ‬يجالسون‭ ‬الممارسين‭ ‬المتقنين‭ ‬فيأخذون‭ ‬عنهم‭ ‬تلك‭ ‬الموسيقى‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التلقي‭ ‬المباشر‭ ‬والسماع‭ ‬الدائم،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬الآداب‭ ‬الشفاهية‭ ‬وتقاليدها‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬سابقًا‭.‬

بساطة‭ ‬أدواتها

غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬أدوات‭ ‬بسيطة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية. ‬وهذه‭ ‬سمة‭ ‬تقليدية‭ ‬شعبية‭ ‬تختلف‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الموسيقى‭ ‬الحديثة،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬للموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬أن‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬آلة‭ ‬من‭ ‬آلات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية. ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬موهوبين‭ ‬في‭ ‬التقاط‭ ‬الأدوات‭ ‬والضرب‭ ‬عليها‭ ‬ألحانًا‭ ‬وإيقاعات‭. ‬

وكانت‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬إيقاعات “القلن” ‬و “القواطي” ‬والعصي‭ ‬و “الجحال” (‬أواني‭ ‬فخارية) ‬و “الكباريت”. ‬وكانت‭ ‬أدواتها‭ ‬ومستلزماتها‭ ‬تُصنع‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬جلود‭ ‬الحيوانات،‭ ‬فقد‭ ‬كانت “الطبول” ‬و “الطيران” ‬تُرقم‭ ‬بجلود‭ ‬الغنم‭ ‬أو‭ ‬الإبل. ‬وكانت‭ ‬أوتار‭ ‬السمسمية‭ ‬التقليدية‭ ‬تُصنع‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭ ‬النحاسية،‭ ‬وبعض‭ ‬أوتار‭ ‬الأعواد‭ ‬من “مصارين” ‬الأغنام. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوات‭ ‬الموسيقية‭ ‬التقليدية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الغايات‭ ‬التي‭ ‬أخذتها‭ ‬حرفة‭ ‬دبغ‭ ‬الجلود‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار،‭ ‬وبعضها‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قائمًا،‭ ‬وبعضها‭ ‬اندثر‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭.‬

الحاجة‭ ‬الماسة‭ ‬إلى‭ ‬حفظها

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬موسيقى‭ ‬جماعية،‭ ‬ترددها‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬المواسم‭ ‬والأحداث‭ ‬اليومية. ‬وقد‭ ‬استوعبها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأعلام‭ ‬والموهوبين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الأصوات‭ ‬الجميلة،‭ ‬فقدموا‭ ‬تلك‭ ‬الموسيقى‭ ‬وفنونها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الحفلات‭ ‬وتسجيلات‭ ‬الأسطوانات‭ ‬ثم‭ ‬تسجيلات‭ ‬الكاسيت‭ ‬وأشرطة‭ ‬الفيديو. ‬ولذلك،‭ ‬عندما‭ ‬يكتب‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬عن‭ ‬أعلام‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬فلا‭ ‬نظنه‭ ‬سينسى‭ ‬جيلين‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأجيال. ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬جيل‭ ‬الموسيقى‭ ‬التقليدية‭ ‬القديمة‭ ‬ويمثله: ‬الشريف‭ ‬هاشم‭ ‬العبدلي‭ ‬والسيد‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬مؤذن‭ ‬وسعيد‭ ‬أبو‭ ‬خشبة‭ ‬ومحسن‭ ‬شلبي‭ ‬وفهد‭ ‬بوناصر‭ ‬وأحمد‭ ‬الفارسي‭ ‬وإسماعيل‭ ‬كردوس‭ ‬وحسن‭ ‬جاوا. ‬ولن‭ ‬ينسى‭ ‬أيضًا‭ ‬أعلام‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬الحديثة،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬مطلق‭ ‬دخيل‭ ‬وطاهر‭ ‬الأحسائي‭ ‬وعيسى‭ ‬الأحسائي‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الهبة‭ ‬وعبدالله‭ ‬بوخوه‭ ‬وسالم‭ ‬الحويل‭ ‬وفهد‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭ ‬وبشير‭ ‬شنان‭ ‬وعايد‭ ‬عبدالله‭ ‬وسلامة‭ ‬العبدالله.. ‬إلخ‭.‬

لقد‭ ‬شكلت‭ ‬تلك‭ ‬الأسماء‭ ‬ذاكرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬السعودية،‭ ‬وحفظت‭ ‬للذاكرة‭ ‬الثقافية‭ ‬جماليات‭ ‬رائعة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الأغنية‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬المملكة. ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬فإن‭ ‬تسجيلات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرواد‭ ‬وأسطواناتهم‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مرغوبة‭ ‬في‭ ‬الحفظ‭ ‬والاقتناء‭ ‬وإعادة‭ ‬التسجيل‭ ‬والتطوير‭.‬

ويرى‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬مجمل‭ ‬أعلام‭ ‬الموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬مبادرة‭ ‬وطنية‭ ‬وفعاليات‭ ‬ومعارض‭ ‬وكتب‭ ‬تعرِّف‭ ‬بمنجزاتهم‭ ‬وتتيح‭ ‬منتجاتهم‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬خاصة‭ ‬ومعتمدة،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أهمها “متحف‭ ‬الفنون‭ ‬والموسيقى‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭.”