تشكل الموسيقى الشعبية في كل المجتمعات إحدى مواد التلقي الفني والتذوق الجمالي. ويمكن القول إن الموسيقى الشعبية بتلوّنها وعراقتهـا تُعتبر مقياسًا للامتداد الحضاري القديم لهذا الشعب أو ذاك، كما تمثل هوية وتراثًا ثقافيًا في مجال السماع والنغم المليء بقصص كثيرة. وأكثر من ذلك، فهي تتصل مع الحاضر بأساليب تتكئ من خلالها الموسيقى الحديثة على التراث الموسيقي الشعبي العريق. فماذا إذًا عن علاقتها بالأدب الشعبي الذي يمثل قيمة مشابهة؟
تتقاطع الموسيقى الشعبية مع الأدب في عدد من العناصر. هذا إن لم تكن الموسيقى الشعبية من عناصر الأدب الشعبي العام، وجزءًا أساسيًا من تركيبة المجتمعات منذ قديم الزمن، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها التقاليد الشفاهية التي مرَّ بها الأدب القديم.
فالأدب الشعبي القديم شفاهي متوارث منذ مئات السنين من جيل إلى جيل. ومن أهم سمات الأدب الشفاهي التواصل من خلال الصوت والسماع، حيث الذاكرة هي وسيلة حفظ المنتجات الأدبية، الشعرية منها والنثرية والنغمية. فقد كان هذا هو الحال في كل المجتمعات قبل انتشار وسائل التدوين فيها.
وإضافة إلى ما تقدم، فإن من سمات الآداب الشفاهية أنها من إنتاج المجتمعات، ولا يكون فيها أدب المؤلف الواحد، فالمؤلف الواحد في الآداب الشفاهية غائب وغير معروف في معظم الأحيان. وينطبق هذا الأمر على الموسيقى الشعبية، فعندما نبحث عن أصولها نجدها قديمة، ودائمًا ما ترجع إلى التراث الشعبي العام لمجتمعاتها، وصلتنا بعد توارثها من جيل إلى آخر عن طريق السماع والمشافهة.
طروق الجزيرة العربية
من أهم فنون السماع والشفاهية الثقافية للموسيقى الشعبية، ما تعارف عليه الناس بشأن “الطُروق” أو “الطواريق”، وهي ألحان قديمة عرفها الناس في عموم الجزيرة العربية، وتوارثوها منذ زمن موغل في القِدم. وأحيانًا يطلق “الطاروق” على فن القلطة. والطروق في المملكة كثيرة جدًا، وتعد من التراث الثقافي للفنون الأدائية التقليدية. وقد ذكرها بعض الشعراء بالقول: “لو أمدحه ما يكفي المدح طاروق.”
تتأسس الطروق على بحور شعرية وألحان؛ بعضها يُؤدى على إيقاعات شعبية، وبعضها من دون إيقاعات. والطَرْق هو ما يتكون منه البحر الشعري وهو الحركات والسكنات، وقد اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سمع طَرق النحاسين والحدادين في السوق، فأسس لعروض الشعر العربي وطروقه. وعلى حد علمنا لا أحد يُطلق “طرق” أو “طروق” على ألحان الموسيقى الشعبية في أي مكان آخر غير المملكة، وهذا دليل على أصالة هذا المصطلح وتجذره في الثقافة الوطنية، وخصوصًا ثقافة الموسيقى الشعبية وممارسيها.
موسيقى الحياة اليومية
تعامل الناس مع الموسيقى الشعبية عزفًا وسماعًا في المملكة كما هو الحال عند غيرهم من شعوب العالم: في الأعمال اليومية والمناسبات الخاصة. ورددوا الألحان والطروق المختلفة في الأفراح، وأثناء بناء البيوت، وفي مواسم الحصاد، ومناسبات الزواج والختان، والأعمال والحِرف اليدوية المختلفة، ومناسبات التعلُم والتخرُج من كُتاب القرآن الكريم، وغير ذلك مما يصعب حصره.
وهذا الارتباط بين الأعمال والمواسم وبين الموسيقى الشعبية هو سر من أسرار ارتباط الشعوب بهويتها الشعرية والنغمية وقيم المجتمع وعاداته وتقاليده، إضافة إلى استلهام هذه الموسيقى من الأصوات الطبيعية المحلية في الأرياف والصحاري والجبال والبحار، وأصوات الحيوانات والطيور. وتبقى هذه الممارسة الثقافية ضمن دائرة متواصلة، يومية وشهرية وسنوية، تعود وتعود لتشكل طقسًا، بل طقوسَ عبور متعددة تمارسها المجتمعات طوال العمر.
وغالب موضوعات الموسيقى الشعبية هذه هي قيم الفخر والشجاعة والرجولة والأنوثة والمطاردات والغزوات وذكريات الصيد والرحلات القبلية والمجتمعية والغزل والحنين والرثاء، وتحضر هذه الموضوعات إما تلميحًا، وإما تصريحًا، وتُفسَّر من خلال إدراك المتلقي لعميق الثقافة الأنثربولوجية للمجتمع.
ابنة بيئتها الخاصة
تلتحم الموسيقى الشعبية بمجتمعاتها سواء أكانت ريفية زراعية أم جبلية أم صحراوية أم بحرية، وتأخذ سماتها من الحياة في هذه المجتمعات وخصائصها. ولو تناولنا مثالًا لموسيقى الأرياف في المملكة، وأخذنا واحة الأحساء نموذجًا لذلك، فسوف نجدها موسيقى تشيع فيها السهولة والحنين والغزل وحب الحياة. وتتأكد تلك الموضوعات مع فنون وطروق “الخمَّاري الحساوي”، و “دق الحب” ،و “الهيده” و “السامري”. كما أن مقاماتها هي تلك التي يشعر فيها الإنسان بالزهو والفخامة وعشق الجمال، كمقامات “الرست” و “البيات” و “السيكا” و “الهزام”. ونجد أيضًا أن كلمات الأغاني ومفرداتها الشعرية تربط بين الأرض والورود والأشجار والحنين إلى المرأة والتغزل بها، كما في هذا الموال الشهير:
بنيت الشوق قصر عالي من ورِدْ.. طينه من المسج ومعجونٍ على ماي الورد
أو كما في موال آخر يقول:
خدك من الوَرِدْ والا الورد من خدك؟
فمفردات الطبيعة، خضرتها وجمالها وبهجتها تمتزج بروح النغم الحساوي وموسيقاه الشعبية التقليدية القديمة والموسيقى الشعبية الحديثة.
ونجد الأمر نفسه في الفنون الجبلية من ناحية الموضوعات، لكنها تختلف في التلحين عن موسيقى الريف من ناحية طروقها ونغماتها وأشكال تفعيلاتها الشعرية، إذ أن لها نظامها الخاص وأساليبها المرتبطة بثقافة الجبال والقوة والفخامة. وفي الوقت نفسه فإنها لا تخلو أيضًا من الحنين والغزل كما في ألحان طروق “العشي” و “الخطوة” و “العزاوي”، وغير ذلك من تلك الألحان المغذية للموسيقى الشعبية الطبيعية لا في الريف والجبال فقط، بل في فنون البادية وفنون البحر والغوص على اللؤلؤ، حيث الحنين والغزل يشكلان أهم سمة لموضوعات الشعر. وهي مؤثرة تأثيرًا كبيرًا على أداء الطروق والألحان في الموسيقى الشعبية، ووجدان ومشاعر المؤدين لها.
الاتكاء على الشِعر
تتكئ الموسيقى الشعبية على ألوان مختلفة من الشعر، سواء أكان الشعر الغنائي، أم شعر القصيد، أم الشعر الخاص بفنون المقامات أو “المواويل”، وسواء في “المثولثات” أم “المروبعات” أم “المسودسات” أم “المسوبعات”، وذلك بحسب طبيعة كل بيئة وبحسب الممارسات المجتمعية وتخصصها في نوع من الشعر دون غيره.
ففي المملكة على سبيل المثال استخدامات كثيرة للشعر في الموسيقى الشعبية، ومنها: شعر “الزهيري” و “البوذيات” و “المروبعات”، وشعر القصيد وشعر “الكسرات”، وشعر البحور القصيرة والبحور الطويلة، و “المنكوس” و “الهجيني” و “السامري”، وغيرها… ما يؤكد ثراء تلك الأنواع ومتانة الأسس العميقة التي تأسست عليها الموسيقى الشعبية.
ويُروى أن بعض الممارسين القدامى وشعراء الثقافة الشفاهية كانوا لا ينظمون الشعر إلا من خلال الضرب على صندوق، أو أي أداة تظهر صوتًا إيقاعيًا ترتبط به تفاعيل الشعر مع الإيقاعات اللحنية. وكان الارتجال للشعر سمة أساسية، إضافة إلى ربط النظم الشعري باللحن والنغم الذي تمتلئ به روح الشاعر وعاطفته، فيفيض حبًا وشجنًا. ولذلك، فهو شاعر فنان، وفنان شاعر في الوقت ذاته.
وغالب ممارسي الموسيقى الشعبية تمتعوا بهذا التكامل في الفنون الأدبية الشعرية والروائية واللحنية النغمية.
من النظم إلى الانتشار عبر الرواة
وللموسيقى الشعبية ارتباط كبير بالقصص والحكايات، فغالب الشعر الغنائي مرتبط بقصص واقعية. كما أن كثيرًا من الشعراء والمطربين كانوا صادقين في تجاربهم الموسيقية والعاطفية. بل إن أحدهم، وقد كان موجودًا قبل سبعين سنة من يومنا هذا، كان يصطحب معه دائمًا اثنين من رفاقه ممن يحفظون الشعر حفظًا متقنًا، فيلازمانه في السفر أو في الإقامة. وكان كلما أنشأ أبياتًا وأشعارًا يسمعها هذان الراويان فيحفظانها ويرويانها لآخرين، جريًا على عادة في الشعر العربي القديم، حين كان لكل شاعر راوية أو أكثر. وكذلك الأمر بالنسبة للذين يمارسون فنون العزف على “السمسمية” أو “الربابة” أو العود أو الإيقاع، فإنهم يجالسون الممارسين المتقنين فيأخذون عنهم تلك الموسيقى عن طريق التلقي المباشر والسماع الدائم، وهذا من سمات الآداب الشفاهية وتقاليدها كما أشرنا سابقًا.
بساطة أدواتها
غالبًا ما تكون الموسيقى الشعبية صادرة عن أدوات بسيطة موجودة في الحياة اليومية. وهذه سمة تقليدية شعبية تختلف بها عن الموسيقى الحديثة، إذ يمكن للموسيقى الشعبية أن تصدر عن أي آلة من آلات الحياة اليومية. وكان الناس موهوبين في التقاط الأدوات والضرب عليها ألحانًا وإيقاعات.
وكانت الموسيقى الشعبية تعتمد على إيقاعات “القلن” و “القواطي” والعصي و “الجحال” (أواني فخارية) و “الكباريت”. وكانت أدواتها ومستلزماتها تُصنع من بقايا جلود الحيوانات، فقد كانت “الطبول” و “الطيران” تُرقم بجلود الغنم أو الإبل. وكانت أوتار السمسمية التقليدية تُصنع من الأسلاك النحاسية، وبعض أوتار الأعواد من “مصارين” الأغنام. كما أن صناعة الأدوات الموسيقية التقليدية كانت من الغايات التي أخذتها حرفة دبغ الجلود بعين الاعتبار، وبعضها لا يزال قائمًا، وبعضها اندثر مع الأسف.
الحاجة الماسة إلى حفظها
لقد كانت الموسيقى الشعبية في المملكة موسيقى جماعية، ترددها المجتمعات في المواسم والأحداث اليومية. وقد استوعبها عدد من الأعلام والموهوبين من ذوي الأصوات الجميلة، فقدموا تلك الموسيقى وفنونها من خلال عدد كبير من الحفلات وتسجيلات الأسطوانات ثم تسجيلات الكاسيت وأشرطة الفيديو. ولذلك، عندما يكتب التراث الثقافي عن أعلام الموسيقى الشعبية فلا نظنه سينسى جيلين من تلك الأجيال. الجيل الأول هو جيل الموسيقى التقليدية القديمة ويمثله: الشريف هاشم العبدلي والسيد عبدالرحمن مؤذن وسعيد أبو خشبة ومحسن شلبي وفهد بوناصر وأحمد الفارسي وإسماعيل كردوس وحسن جاوا. ولن ينسى أيضًا أعلام الموسيقى الشعبية الحديثة، من أمثال مطلق دخيل وطاهر الأحسائي وعيسى الأحسائي وعبدالرحمن الهبة وعبدالله بوخوه وسالم الحويل وفهد بن سعيد وبشير شنان وعايد عبدالله وسلامة العبدالله.. إلخ.
لقد شكلت تلك الأسماء ذاكرة الموسيقى الشعبية السعودية، وحفظت للذاكرة الثقافية جماليات رائعة من تاريخ الأغنية الشعبية في المملكة. وحتى الآن فإن تسجيلات هؤلاء الرواد وأسطواناتهم لا تزال مرغوبة في الحفظ والاقتناء وإعادة التسجيل والتطوير.
ويرى كثيرون أن مجمل أعلام الموسيقى الشعبية يحتاجون إلى مبادرة وطنية وفعاليات ومعارض وكتب تعرِّف بمنجزاتهم وتتيح منتجاتهم على منصات خاصة ومعتمدة، قد يكون أهمها “متحف الفنون والموسيقى الشعبية في المملكة العربية السعودية.”
اترك تعليقاً