تحدث عالم الاجتماع الأمريكي راي أولدنبرغ، عن مفهوم “المكان الثالث” الذي يقع بين المنزل (المكان الأول) والعمل (المكان الثاني)، حيث يمكن للأفراد الاجتماع والتفاعل بحرية وتبادل الأفكار، وهو ما يُسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وبناء المجتمعات والإحساس بالهوية المشتركة. ومن الأمثلة على المكان الثالث المكتبات العامة والحدائق، والأسواق. ولكن، لعل أبرزها على الإطلاق المقاهي التي تعد ملاذًا لكل من يبحث عن فرصة للتواصل مع الآخرين في جو مريح بعيد عن القيود الرسمية . فالمقاهي ليست مجرد أماكن لتناول فنجان من القهوة أو الشاي أو قطعة حلوى، بل هي أماكن حيوية تعكس ثقافة المجتمعات وتاريخها، وقد تطورت مع الوقت لتصبح فضاءات للإبداع والنقاشات الفكرية والفعاليات الثقافية لمختلفة. وإذا ما أردنا التركيز على المقاهي في المملكة، فسنجد أنها تتحول بالفعل إلى مساحات ثقافية نابضة بالحياة.
لا يمكننا فهم وظيفة المقهى من دون العودة إلى نشأته التاريخية واستكشاف مراحل تطوُّره في رحلة تمتد من الشرق الأوسط إلى أوروبا، ثم إلى كافة أنحاء العالم. ترجع ملكية أول مقهى سُجِّل بشكل رسمي، وعلى مستوى العالم، إلى تاجرين سوريين، هما شمس الدين الحلبي وعلي أفندي، اللذين أسَّسا أول متجر لبيع القهوة في مدينة إسطنبول، حين كانت عاصمةً للدولة العثمانية عام 1554م. وأطلق التاجران اسم “قهوة الكيف” على متجرهما، وكأن في ذلك تأكيدًا على عمق ارتباط القهوة بالكيف والمزاج. بعد ذلك بنحو قرن من الزمن بدأت المقاهي تنتشر في أوروبا، فظهر أولها في البندقية عام 1645م، تبعه افتتاح مقهى في لندن عام 1652م، ثم في باريس عام 1686م. ومع ذلك، وعلى الرغم من تأخر ظهور المقاهي في باريس، فإنه غالبًا ما يتبادر إلى الأذهان أن مقاهي العاصمة الفرنسية هي الأشهر في العالم. ولعلَّ ذلك يعود إلى شهرة مقاهي مونمارتر، التي عُدَّت ملاذًا للأدباء والفنانين. فكانت لا تكتفي بعرض الأعمال الفنية، بل تُسهم في تشكيل حركات فنية كاملة من خلال الحياة الثقافية التي تمنحها. ويكفي أن يكون من روَّاد تلك المقاهي معظم الانطباعيين، ولاحقًا بيكاسو وماتيس وهيمنغواي؛ لنعلم حجم الدور الثقافي الذي أدَّته المقاهي في حياة المدينة، وهذا ما دفع فينسنت فان جوخ ليرسم لوحته الشهيرة “شرفة مقهى في الليل” (Café Terrace at Night)، مبرزًا الحالة الشاعرية للمقاهي في المساء حين يختفي روادها.
الموجات التاريخية الأربع
ارتبطت الحياة الفنية والأدبية الصاخبة التي عاشتها مقاهي أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بالموجة الأولى من صناعة القهوة التي تميزت بنشوء شركات متعددة لإنتاج القهوة بشكل أسرع، وهو ما قلل تكلفتها ووسَّع من انتشارها؛ لتصبح القهوة جزءًا من طقوس الحياة اليومية. وبعد ذلك ظهرت الموجة الثانية في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، التي ركَّزت على جودة القهوة، فلم تعد مجرد مشروب للتلذذ به، بل أصبحت تجربة لتعاش. من هنا بدأت تظهر مشروبات متنوعة مثل: اللاتيه بأنواعه، والقهوة الساخنة، والقهوة الباردة.
أمَّا الموجة الثالثة، فظهرت نتيجة لما أحدثته سلاسل المقاهي الحديثة في إعادة تشكيل ديناميات المدينة وحركة الناس وتفاصيل يومهم. وقد بدأت هذه الموجة مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وهي التي أنتجت مفهوم المقهى المختص. في هذه المرحلة، أصبح الاهتمام منصبًا أكثر على أهمية مصدر الحبوب، وطريقة زراعتها، ودقة التحميص، والتحضير. وقد ظهرت منظمات مثل جمعية القهوة المختصة (SCA) التي وضعت معايير صارمة لجودة الحبوب وطرق التحضير. كما وُجدت مسابقات عالمية، مثل “بطولة الباريستا العالمية”، تسلِّط الضوء على تعقيد عملية صناعة القهوة والمهارات المتعددة المطلوبة لتحضيرها بشكل محترف. ووصلت هذه الموجة الثالثة بقوة إلى المملكة بين عامي 2010م و2015م، حين ظهر عدد من المقاهي المختصة التي تركَّزت بداية في المدن الرئيسة مثل الرياض وجدة، لتنتشر بعد ذلك في بقية المدن السعودية.
حاليًا، هناك مَن يتحدَّث عن موجة رابعة تتميز بحضور التقنية عاملًا فاعلًا في تحضير القهوة وإدارة المقهى، بما قد يؤدي إلى اختفاء مصطلح “باريستا”، وهو أشهر مفردات الموجة الثالثة. على أي حال، لم تتحدد معالم هذه الموجة بشكل دقيق بعدُ؛ إذ ما زالت في طور التشكُّل. غير أن الملاحظ أن تصنيف هذه الموجات التاريخية الأربع اعتمد على اختلاف عملية تصنيع القهوة أكثر من طريقة استهلاكها! فهل اختلفت طريقة استهلاكها؟ أو بصورة أخرى، هل اختلفت الوظائف التي يقدِّمها المقهى في حياتنا الحالية؟
للمقهى دور ثقافي مميز
كانت المقاهي في السابق، وتحديدًا عند بدايات القرن الماضي، أشبه بصالات عرض غير تقليدية للفنانين؛ حيث تزيَّنت جدرانها باللوحات الفنية التي أضافت إليها بُعدًا جماليًا أسهم في نشر الثقافة الفنية بين الجمهور. وقد جعل هذا الأمر للمقاهي وظيفة أخرى تتمثَّل في أنها منصة غير رسمية لترويج أعمال الفنانين. ولم تكن هذه الظاهرة محصورة في مقهى واحد شهير، بل كانت حركة ثقافية عارمة يُمكننا تخيل زخمها بما أنتجته من أثر. فعلى سبيل المثال، نجد أن مقاهي باريس كانت مقرًا لنشوء حركات فنية وفكرية مثل السريالية والدادائية، وهو ما يكشف قوة حضور المقاهي ودورها في تلك الفترة.
تُقدم المقاهي إضافة إلى المشروبات الباردة والساخنة: ندوة ثقافية، أو عزفًا موسيقيًا أو ورشة فنية، أو أمسية شعرية، أو قراءة، أو حتى مسابقات في الألعاب الذهنية كالشطرنج وغيره.
إضافة إلى هذا، استُخدمت المقاهي بوصفها قاعات لعروض موسيقية صغيرة حية وارتجالية أيضًا. كما استخدمها الشعراء والأدباء لقراءة نصوصهم الفنية للحصول على انطباعات مباشرة وعفوية من الجماهير. وهناك من استخدم المقاهي لممارسة الكتابة. فكانت المقاهي لبعض الكتَّاب بيئة مناسبة للعمل بهدوء بعيدًا عن ضوضاء البيت بتفاصيله اليومية. ولعلَّ الجمع بين القهوة والأجواء الفنية والفكرية في المكان نفسه، قد يكون عاملًا محفزًا على الإبداع.
وظيفة المقهى في الزمن الحالي
يجد المتأمل للمقاهي في المملكة أن تصاميمها المعمارية تندرج تحت خانتين متمايزتين: تصميم عملي وتصميم جمالي. في الخانة الأولى، نجد التصميم الإسكندنافي هو الطاغي، ونجد الخشب بوصفه أحد أهم مكونات هذا التصميم بلونه البيج، كما يغلب عليه البساطة والانسيابية من دون الإخلال بجماليته. والملاحظ أن روَّاد هذه الفئة من المقاهي هم من الشباب الذين يقصدون المقهى مع الكومبيوتر المحمول وأوراق العمل لأداء مهمات محددة، يساعدهم فيها فضاء المقهى المميز. فنجدهم منكبين على الأجهزة الإلكترونية أو منهمكين في اجتماع عمل عن بُعد، أو يعملون على تقارير مهنية. وإن ابتعدت أعينهم عن الشاشات، نجدهم مع آخرين يعقدون اجتماعات عمل رسمية وغير رسمية. بهذا، تصبح إحدى وظائف هذا النمط من المقاهي امتدادًا لوظيفة المكتب في العمل، ولكن في أجواء أكثر استرخاء.
في المقابل، نجد أن التصميم الآخر؛ أي التصميم الجمالي، يمنح المقاهي وظيفة أخرى. في هذا النمط من التصميم يكون التركيز على خلق حالة جمالية لدى مرتادي المقهى. وهذا يتمثَّل في استخدام الفنون في تصميم الجدران والأثاث والإضاءة لخلق بيئة بصرية جاذبة. فنجد في المقهى بعض القطع الفنية المعروضة مثل: اللوحات الزيتية، أو المجسمات الفنية، أو بعض الأدوات الموسيقية، أو كل هذا مجتمعًا. وكأن المقهى بهذا التصميم يُخبر زبائنه أنه يسعى لتوفير أجواء تُلهمهم الإبداع أو تدعوهم إلى الاستمتاع بالفنون. وفي هذا النوع من المقاهي تتعدد التصاميم وتتنوع، فبعضها يعتمد تصميمًا مُستوحى من نمط فني محدد، أو يحاول استيحاء ثقافة معينة، سواء محلية أو غير محلية، أو حقبة زمنية معينة؛ وبعضها قد يستسهل ذلك فيعلق عدة لوحات على الجدران ليعلن عن نفسه بأنه مقهى “ثقافي” بأبسط طريقة ممكنة.
في جدة والشرقية والرياض فضاءات لممارسات ثقافية متعددة
بهذا، تحدد المقاهي الثقافية وظيفتها لا بوصفها فضاء لتناول القهوة، بل فضاء لممارسات ثقافية متعددة، تتمثَّل في إقامة الندوات الثقافية والمعارض الفنية والعروض الموسيقية، بل وإقامة دورات فنية في الرسم والنحت. وقد جعل هذا الأمر مرتادي هذه المقاهي يلتقون كثيرًا من المهتمين بالفنون. فحتى خارج أوقات العروض الفنية والندوات المجدولة، قد تُصادف في هذه المقاهي أحدهم وهو يجلس إلى طاولة وأمامه لوحة بيضاء يُشكِّل عليها ألوانًا وخطوطًا متداخلة. فما الذي يجعل هذا الشخص يخرج من بيته ويحمل كل أدواته ليقوم بذلك في هذا المكان؛ المكان الذي لا يملكه؟ إنه الفن. فالفن، بحسب تعريفه، ليس إلا أداة للتعبير، فكيف يكون التعبير بلا فضاء مشترك يجمع المهتمين بهذا الأمر؟
ولتوضيح صورة العلاقة بين المقاهي والفنون أو النشاط الثقافي بعامة، في أي مدينة، يُمكننا أن نذكر مدينة جدة، على سبيل المثال. فقد ظهرت المقاهي المختصة في جدة بافتتاح مقهى “مد” عام 2015م، فشكَّل وجوده حراكًا ثقافيًا ملهمًا خاصة لدى الجيل الشاب؛ إذ كانت تُعقد فيه جلسات أندية لقراءة الكتب، وتُقام فيه عروض فنية لأعمال بعض الفنانين من رسَّامين ومصوِّرين، إضافة إلى إقامة ورش فنية متعددة داخل المقهى لتستقطب مزيدًا من الفنانين. بعد ذلك، افتُتح مقهى “بوهو” عام 2017م، الذي اشتهر بحفلاته الموسيقية الأسبوعية التي تستقطب الهواة عبر مسابقات يختار فيها الجمهور الفنان الأفضل؛ ليصبح بعض هؤلاء الهواة محترفين. كما أقِيمت في مقهى “بوهو” ندوات ثقافية ومعارض فنية وورش للنحت والفخار والرسم والأعمال اليدوية، توجه بعضها إلى الكبار وبعضها إلى الأطفال. وكان مقهى “أرباب الحرف” من المقاهي التي حدَّدت هويتها بوصفها مقاهي ثقافية؛ إذ كانت تُعقد الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية والصالونات الأدبية بشكل مكثف.
النجاح الذي حققته المقاهي، بوصفها فضاءات ثقافية، أغرى عددًا كبيرًا غيرها في المُضي قُدمًا في هذا الاتجاه. فتوجَّهت إلى إقامة فعاليات جاذبة لجمهور يريد أكثر من كوب القهوة.
ومقاهي المنطقة الشرقية ليست بعيدة كذلك عن أجواء هذا التوجه الفني والثقافي. نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، مقهى “موعود” في الخبر الذي ينظم أمسيات موسيقية، وهناك أيضًا مقهى “ترفي” الذي لا يكتفي ببيع القهوة ومشتقاتها فحسب، بل يُضيف لمسة فنية مميزة من خلال تصميم أدوات قهوة مُستوحاة من تراث المنطقة الشرقية والتراث السعودي بشكل عام. فعلى سبيل المثال صمّم طاقم المقهى خلال أزمة كورونا عام كمامات مستوحاة في أشكالها من تراث الدرعية. كما أن لديه ملاعق مصممة يدويًا من النحاس تتضمن في مقبضها شكل ناقة، فضلًا عن إقامته الفعاليات الفنية وورش العمل ، مثل ورشة تنسيق طاولة قهوة تحاكي تراث المنطقة ضمن فعاليات “الشرقية تبدع” لعام 2022م، وفعالية “سكتش الشرقية” وغيرها. وفي الخبر أيضًا ينظّم مقهى “شارك” أمسيات أدبية وثقافية، إلى جانب مشاركته في مهرجان “الشرقية تبدع” لهذا العام 2024م بعدة فعاليات منها ورشة “صناعة الشموع” وندوة “مكاتيب.. في أدب كتابة الرسائل”.
وهناك كذلك “كوب وكتاب” في الأحساء الذي يجمع بين المكتبة والمقهى، حيث يقيم القائمون عليه كثيرًا من الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية وجلسات مناقشة الكتب بشكل دوري، بالإضافة إلى تنظيمهم بعض الفعاليات والمسابقات المحفزة على الإبداع الأدبي والفني بين الفينة والأخرى، مثل احتفائية اليوم الوطني السعودي “وطني بقلمي وريشتي” التي احتضنت فعاليات توقيع الكتب والرسم مثل “ارسم قصتك المصورة” وبعض المسابقات المتنوعة. والأمثلة المشابهة لهذه النماذج في المنطقة الشرقية كثيرة.
وفي الرياض تكاثرت المقاهي ذات الطابع الثقافي، نذكر منها: “هُنا مجتمع الفن”، و”كريف سبيس”، و”مساحة المشتل الإبداعية”، و”مساحة لكم الفنية”، و”مقهى تشكيل”، و”مكتبة صوفيا”، و”مكتبة نادي الكتاب”، وغيرها الكثير.
النجاح الذي حققته المقاهي، بوصفها فضاءات ثقافية، أغرى عددًا كبيرًا غيرها في المُضي قُدمًا في هذا الاتجاه. فتوجَّه بعض المقاهي إلى إقامة فعاليات متعددة لجذب جمهور يريد أكثر من كوب القهوة، فيما عمدت مقاهٍ أخرى إلى تخصيص أنشطتها الفنية في مجال فني محدد راغبة في أن تكون ملاذًا للمهتمين بهذا الفن من المبدعين أو المتذوقين. فلم يعد يمضي يوم في المدينة من دون نشاط ثقافي في أحد المقـاهي ويمكنه أن يكون: ندوة ثقافية، أو حلقة نقاش فلسفية، أو عزفًا موسيقيًا، أو فعالية فنية، أو ورشة فنية، أو أمسية شعرية، أو قراءة، أو حتى مسابقات في الألعاب الذهنية كالشطرنج مثلًا.
لم يؤثر هذا في وظيفة المقاهي ويوسِّع منها فقط، بل غيَّر من بنيتها وطريقة تصميمها وعلاقة جمهورها بها. فقد أصبح من الشائع أن تجد في المقهى ركنًا للكتب مثل مكتبة صغيرة، أو أرففًا عليها مجموعة ألعاب ذهنية، أو غرفة تحتوي على ألوان و”كانفس” لمن يرغب في الرسم. وقد جعل هذا الأمر الروَّاد يأتون للمقهى لا لتناول قهوة لذيذة مع قطعة كرواسان ساخنة، كما يحدث عادة في المقاهي، بل يأتون إمِّا مصطحبين أدواتهم للعمل، أو لاستعارة أدوات المقهى من كتب وألوان للعمل عليها، أو لتذوق نشاط فني يُقدَّم في المقهى. وكأن المقهى بذلك حوَّل مرتاديه من مستهلكين للقهوة إلى فاعلين في الحياة الثقافية بوصفهم منتجين أو متذوقين.
لقد بدأ هذا الأمر من خلال مبادراتٍ فرديةً غلب عليها الحماس، وأربكتها العشوائية أحيانًا وصعوبات لوجستية في أحيانٍ أخرى. غير أنه مهَّد لظهور فكرة “الشريك الأدبي”، حيث تنتظم الأنشطة الثقافية المُقامة في المقاهي تحت مظلة وزارة الثقافة بما يُسهم في ضمان انسيابية العملية واستمرارها. وهي استمرارية ستسـهم في خلق شيء مختلف ما زال من المبكر توقُّع حصيلته.
اترك تعليقاً