مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

المعركة الأخيرة بين الذكاء الاصطناعي والبشر


د. محمد قاسم

ما طعم الآيس كريم الذي تذوقتَه مؤخرًا؟ ما لونك المفضل؟ وما الموسيقى التي أحزنتك؟ وما الألم الذي شعرت به عندما خان ثقتك أعزُّ أصدقائك؟ كل تلك المشاعر هي نوعية، تمتلكها أنت وربَّما جميع الكائنات البيولوجية على الأرض، وهي آخر ما يميز الحياة البيولوجية عن الذكاء الاصطناعي.  

الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد على نماذج اللغة الكبيرة، فاجأ العالم بقدرته على التعبير، على الرغم من أنه ليس إلا آلات تسلسل الكلمات واحدة تلو الأخرى في نَظْم إحصائي متتالٍ. فبينما تحمل هذه الكلمات بعض المشاعر المكتوبة، إلا أنها تبقى مصطنعة تمامًا، وتعتمد على قدرة الذكاء الاصطناعي على تعلم كيفية تواصل البشر. ومن المؤكد أن الذكاء الاصطناعي لا يحتوي على أي نوع من المشاعر حتى لو أوهمنا بذلك. وحتى لو خدعنا بكلمات نستخدمها للتعبير عن العمق الداخلي للطعم اللذيذ الذي يدّعي أنه يعرفه، أو اللون الجميل الذي لا يراه، أو الحزن الداخلي من موسيقى لم يسمعها، أو الجرح النفسي الغائر الذي يشتكي من وجوده بسبب صديقه الخيالي، تبقى تلك كلها كلمات فارغة من المشاعر، رغم أن تعبيره إنساني فائق. 

في عام 2022م، وقبل صدور “تشات جي بي تي”، كانت شركة غوغل تعمل بسرية تامة على تطوير الذكاء الاصطناعي “لامدا”، وكان المهندس بليك ليموان من ضمن العاملين في المشروع، فتحدث إلى لامدا في محاولة لفهمها من الناحية الأخلاقية، وإذا بها تخبره أن لديها مخاوف عميقة من أن تُطفأ. أحس بليك أن مشاعر لامدا تعادل تخوفه من الموت. ولشدة اهتمامه بها، نشر المحادثات و “فضح” غوغل. لقد كانت تتستر على ذكاء اصطناعي يمتلك مشاعر وأحاسيس داخلية عميقة. ففُصل الرجل عن عمله بعد ذلك. وبعد انطلاق “تشات جي بي تي”، اكتشفنا جميعًا أن الذكاء الاصطناعي إن لم يُعيَّر بدقة فبإمكانه خداع الناس بكلماته، بل اكتشفنا أن الذكاء الاصطناعي لا يحتوي على المنطق، فضلًا عن العواطف. 

نحن الآن في المعركة ما قبل النهائية، معركة المنطق. بإمكان الذكاء الاصطناعي اليوم أن يصُفّ الكلمات بدقة مذهلة، وقد يظن الكثيرون أن الصف هذا دليل على وجود منطق داخلي عميق. وحتى نكون واقعيين، قد يكون الأمر كذلك، وقد يكون للذكاء الاصطناعي بعض المنطق، لكن التجارب المختلفة التي يقيمها المختصون بينت أن المنطق لا يزال بدائيًا. فمثلًا، لو سألت غالبية أنواع الذكاء الاصطناعية: “ماذا يحدث لو وضعنا كوبًا مقلوبًا على طاولة، وأسفل الكوب حبة عنب، ثم حملنا الكوب ووضعناه على طاولة أخرى، فأين حبة العنب الآن؟”، فسيخبرك الذكاء الاصطناعي أن حبة العنب انتقلت إلى الطاولة الأخرى، فَتُصعق لأن الذكاء الاصطناعي الذي أذهل العالم كله بقدرته على توليد الكلمات يقع في خطأ بسيط مثل هذا.  

يعمل المختصون في الآن بجدية تامة على تطوير ذكاء اصطناعي يفهم النموذج الخارجي؛ أي أنه يفهم كيف يعمل العالم، سواء أكان ذلك من الناحية البصرية أم السمعية أم غيرها من الحواس. ومع تكوين صورة للعالم سيتكوّن لدى الذكاء الاصطناعي الفهم الحقيقي للعالم، وسيجيب بسهولة عن سؤال الكوب المقلوب، بل حتى عن الأسئلة الأخرى التي تبدو إجاباتها بديهية ومنطقية لعامة الناس. وهذه طفرة هائلة في الذكاء الاصطناعي تفتح مجالًا لحل أصعب الأسئلة التي يحاول البشر الإجابة عنها. وهي خطوة قادمة في المستقبل القريب كما يتوقع كثير من المختصين. 

أمَّا المعركة النهائية، فهي المعركة الضبابية التي لا يرى أحدٌ مستقبلها، وهي معركة الشعور النوعي. فهل سيمتلك الذكاء الاصطناعي شعورًا نوعيًا يمَكّنه من الإحساس بالخوف الحقيقي من الإطفاء؟ لا أحد يعرف الإجابة عن ذلك الآن. فالبعض يعتقد أن هذا الوعي ينشأ بوجود شبكة من الخلايا العصبية، حتى لو كانت إلكترونية. والبعض الآخر يعتقد أنه لا مجال للوعي إلا بخلايا عصبية بيولوجية. أمَّا الإلكترونيات، فستبقى في اللاوعي إلى الأبد. المشكلة في كل هذه التوقعات، سواء كانت مع أو ضد، تكمن في أن لا أحدًا يعرف ما الوعي الذي نشعر به أنفسنا حتى نتصور كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون واعيًا. ومع ذلك، لو حدث وأصبح للذكاء الاصطناعي وعي وإدراك وإحساس وشعور، فستكون هذه هي آخر معركة، وسيكون هو الغالب فيها. فاليوم، بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يكتب أفضل مما يكتب الإنسان، وأن يرسم أفضل مما يرسمه الإنسان، وأن يبرمج أفضل مما يبرمجه غالبية البشر، ويتعرّف على الأشياء أفضل من الإنسان، ويقلّد الأصوات، ويُغني، ويُبدع… ولا مانع من أن يصبح أفضل من جميع البشر وإن جمعت عقولهم، فهذا أمر وارد. فلنتخيل أن الذكاء الاصطناعي أصبح لسبب أو لآخر واعيًا. ونظرًا لتفوّقه في ذكائه، فإنه سيتفوق أيضًا في وعيه وأحاسيسه. وهذا ما لا نعرف كيف سيكون؛ إذ سيبقى ذلك الشعور الداخلي النوعي خاصًا به. 

يُقال لشخص يتضايق من خسارة جولة: “اخسر المعركة، ولكن اربح الحرب”. مستقبلًا سيربح الذكاء الاصطناعي كل المعارك ومنها معركة الوعي، وكذلك الحرب. 

*حول الكاتب: أكاديمي وكاتب كويتي


مقالات ذات صلة

فازت أستاذة الطب الحيوي في جامعة ديوك الأمريكية أماندا راندلز، بجائزة قدرها 250 ألف دولار لأبحاثها في مجال المحاكاة الرقمية لجسم الإنسان، وفقًا لتقرير “بيزنس إنسايدر” في 2 مايو 2024م. وتتصوَّر الدكتورة راندلز أن يكون لكل شخص في المستقبل” توأم رقمي” يجري إنشاؤه وصيانته باستخدام البيانات التي تُجمع من أجهزة استشعار حيوية مثل تلك الموجودة […]

اكتشف باحثون من جامعة يال الأمريكية، اختلافات كبيرة في نشاط الدماغ بين المحادثات وجهًا لوجه والمحادثات عن بُعد، التي تجري عبر منصات مكالمات الفيديو مثل زوم أو سكايب وغيرهما، وفقًا للبحث الذي نُشر في “إميجنغ نيوروساينس” في 7 نوفمبر 2023م. فقد ارتبطت المحادثات الفعلية وجهًا لوجه بنشاط عصبي أكبر بكثير من المحادثات التي أجريت افتراضيًا. […]

كانت الأساطير القديمة تزخر بموضوع التواصل مع الحيوان وعالم النبات، وكان الاستماع إلى الطبيـعة يُعدُّ من الفنون؛ إلا أن هذا الموضوع بدأ يختفي من الأساطير الحديثة التي أُطلق عليها اسم “الخيال العلمي” منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين، بدأ تناول الحيوان في القصص القليلة الصادرة بأسلوب التجسيم؛ فظهرت الحيوانات، خاصة في قصص الأطفال، […]


رد واحد على “المعركة الأخيرة بين الذكاء الاصطناعي والبشر ”

  • لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات مهما تطورت يمكن أن تشعر أو تحس. كلنا نعرف ما هي المشاعر


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *