لا ينحصر معنى التحول من الكتابة بالقلم إلى الكتابة على الحاسوب بلوحة المفاتيح (الكيبورد)، في استبدال أداة بأداة للكتابة. فالمسافة بينهما مسافة تحول تاريخي وثقافي وعقلي هائل. وتستثير هذه المسافة، أول ما تستثير، سؤال الأداة نفسها في فعل الكتابة والتأليف، فأداة الكتابة جزء جوهري من الكتابة يتوسط بين الكاتب والمكتوب، أو بين الإنسان في الصفة التي يكتب بها، باحثًا أو أديبًا أو فيلسوفًا أو صحفيًا، وما يكتبه.
وهذا يعني، من منظور الدراسات الإدراكية، أن أدوات الكتابة جزء من العملية الإدراكية للكاتب؛ فالعقل، وفقًا لنظرية “التفاعلية” في العلوم الإدراكية، لا يقتصر على الدماغ، بل هو تفاعل بين الكاتب وبيئته المادية والثقافية، وأدوات الكتابة أبرز عناصرها، أي أنها شكل من أشكل الارتباط المادي، ومن ثم جزء من مكونات العقل يُسهم في تشكيل المؤلفات المكتوبة. ولذلك يغدو التغيُّر في وسائل الكتابة وأدواتها تغيُّرًا في قدراتنا الإدراكية.
وفي هذا الصدد يذكر ديرك فان هول، الأستاذ بجامعة أوكسفورد وأحد النقاد المهتمين بالنقد التكويني والدراسات الإدراكية، أن معرضًا متحفيًا في بلجيكا لأدوات الأدباء ومخطوطاتهم سأل الروائي والشاعر بيتر فيرهيلست أن يعرض شيئًا من عمله في المتحف، فأعطاهم زر “الحذف” (delete) من لوحة مفاتيح حاسوبه. ويعقِّب فان هول على ذلك بقوله: “حتى زر الحذف هو أحد الأشياء التي تشكِّل العقل”. وهو المعنى نفسه الذي يمكن لنا أن نشعر به في الحفاوة بالقلم الذي كان يكتب به أحد الفلاسفة أو الأدباء، أو باتخاذ صورة القلم أو الريشة والدواة شعارًا لجمعية أدبية أو دار نشر أو مؤسسة ثقافية، حتى وإن لم نصُغ هذا الشعور أو الحفاوة في مثل تلك العبارة ذات المنظور الإدراكي العلمي.
لكن رمزية القلم التمجيدية تلك، التي لا يمكن استعمال لوحة مفاتيح الحاسوب في مكانها، دالة على سياق فكري وثقافي لابَس القلم وتفاعل معه. وأهم ما تعنيه هو النخبوية التي يتصف بها من يتركَّز عملهم في استعماله من العلماء والمفكرين والأدباء، فهم دائرة محدودة وقليلة في محيط واسع من عامة الناس، أو يتصف بها عملهم الذي يفتح أفق المعرفة والتجربة الإنسانيتين وينشره، في مقابل عمل أصحاب الحرف الجسدية أو المادية من فلاحين وتجار وصنَّاع وعمّال.
ولذلك كانت نخبوية أصحاب القلم دلالة على قسمة ثقافية بين الثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية، فالثقافة الرفيعة وثيقة الصلة بالعقل والتأمل والأخلاق والطموح إلى المثالية، والثقافة الجماهيرية غرائزية ونفعية وقطيعية وانفعالية وجسدية وهابطة. وهو تقابل ثنائي يصنع بينهما تراتبًا تحتل فيه الثقافة الرفيعة، أي ثقافة أصحاب القلم، أفضلية ورتبة أولية وتمتلك قيمة استنارة ووعي وتوجيه وقيادة. وترتبط هذه التراتبية مع التراتبيات المهيمنة في الثقافات: المركز في مقابل هامش، والذكر في مقابل أنثى، والمتعلم في مقابل الأمي… إلخ. وهي تراتبيات تصنع حدودًا صارمة ومغلقة.
أما لوحة المفاتيح وشاشة الحاسوب فلا تستقل من حيث هي وسيلة للكتابة والتأليف عن العصر الرقمي وثورة الاتصالات؛ أي عن واقع تقاربت فيه المسافة بين الكتّاب والقراء، وشاعت فيه الكتابة والتواصل الرقمي وعمَّت مختلف الفئات والطبقات. ومنذ تطورت في الشبكة العنكبوتية تطبيقات التواصل، بظهور شبكة الويب 2.0 في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تقاربت أجزاء العالم وثقافاته ولم تعد لوحة المفاتيح ومرفقاتها وسيلة كتابة وحسب، بل غدت أيضًا وسيلة بحث وترجمة واطلاع واتصال وتفاعل. وانتقلت لوحة المفاتيح هذه أيضًا من الحاسوب المكتبي إلى الأجهزة المحمولة والحاضرة في أيدي الناس معظم الأوقات، وهي أجهزة لا تترك أحدًا في موقع المرسِل وحده بل وفي موقع المستقبِل في الوقت نفسه، الذي تتفاعل تجربة وجوده في العالم، ضمن ما تتفاعل، مع الإحساس حتى بمعاناة الحروب والمذابح والنزاعات والكوارث المنقولة بالفيديو من مناطق بعيدة عنه.
وعلى الرغم من ظهور ما بعد الحداثة والحداثة السائلة، على المستوى الفكري والثقافي، قبل الزمن الذي اكتسح فيه الحاسوب وتقنيات الاتصال القلم أو أدوات الكتابة التقليدية، فإن هذا الاكتساح مترافق ومتعاضد ومتفاعل في لحظتنا المعاصرة، مع هيمنة ما بعد الحداثة والحداثة السائلة. وهي الهيمنة التي يبدو من أبرز ملامحها تحطيم المنظورين التقليدي والحداثي على حد سواء، ومن ثم نقض التراتبات والتقابلات الثنائية والحدود، فلم يعد هناك ثقافة رفيعة وأخرى جماهيرية أو شعبية، وتداخلت أجناس الكتابة وأنواعها، وتلاشى دور العقل الذي أصبح مدانًا بارتكاب المآسي والنفعية والأداتية وانتزاع المعاني الإنسانية. وتخطّى الأمر ذلك إلى إبعاد قيمة الأخلاق والمؤسسات الاجتماعية وازدراء القيم الكبرى، وترسيخ التعدد والاختلاف.
هكذا تبدو لوحة المفاتيح ومتعلقاتها الحاسوبية، دلالة على مسافة تَبَاعُد تاريخية وفكرية وثقافية هائلة عن الوقائع التي يدل عليها القلم أو يُمجَّد من أجلها. وبالطبع فإن هذه المسافة مفزعة ومقلقة ولكنها، على الرغم من ذلك، مفيدة لدى بعض وجهات النظر، وذات قيمة تحررية وإنسانية وثقافية سواء في تجليتها لأسباب التعصب والتمركز والاستغلال والتسلط، أو في إفساحها للهوامش وتعزيز الإمكانات النقدية تجاه الثقافة والمجتمع.
اترك تعليقاً