المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.
وفكرة المقهى بهذا الدور (الدور الثقافي والأدبي) قديمة قِدم حبّ الإنسان للمنادمة، بعد خروج مفهوم المنادمة عن ارتباطها بشرب الخمر؛ إذ شكّلت ملامح الأدب والوعي الثقافي منذ عصر ما قبل الإسلام، فلا يُعقل أنّ كل منادمة ولفظة “خليليّ” في كتب الأدب والأخبار؛ تفضي إلى ما يُذهب العقل، وإلا لما وصلت إلينا كلّ هذه الآداب الضخمة التي تتطلب حضور الوعي والفكر.
لقد أصبحت ظاهرة المنادمة في العصر العباسي تُشير إلى الأديب والمثقف في بلاط الخلفاء، وبالتأكيد هناك صور مُصغّرة لما يحدث في بلاط الخلفاء في زوايا المجتمع، آنذاك، لم تصلها تلك البقع من الضوء، وربّما عبرها ضوء خافت، كان خلف بروز أديب ما، ومفكّر ما وصلنا أدبه وفكره، ولم تصلنا الطقوس الداعمة له.
ظلّ الإنسان بوعيه وفكره، وما يمتلكه من رؤى إنسانية ومواهب أدبية، يبحث عن الذين يتشاركون معه الوعي؛ لتنبت أفكاره في بيئة خصبة تُجيد التعاطي مع ما يحمل من فكر خاص، مهما قلّت الإمكانات؛ ما جعل “ثقافة المركاز” تشيع بين المثقفين السعوديين في الحجاز، وهو ما تبقى من ثقافة “بيوت القهوة” التي اشتهرت بها منطقة الحجاز عام 915هـ، كما ذكر صاحب كتاب “عمدة الصفوة في حل القهوة”.
والمركاز من ضروب التعبير بالجزء عن الكلّ؛ إذ إن المقصود بهذه اللفظة الكرسيّ الخشبي الضخم، الذي يمتاز ببعض الزخرفة التراثية، فسُمّي المكان باسم هذه الكراسي الخشبية لكثرتها ومصاحبتها لتقديم الشاي والقهوة، التي تجتمع عليها فئة من أصحاب السلطة المكانية والثقافية؛ لتناقش أحوال الحارات الصغيرة في الحجاز، واحتياجات الناس، والاستماع للمثقفين والأدباء. ثم أصبحت ملامح الأدب والثقافة تطغى على أجواء المركاز، فتوارى غيرها من المواضيع المتعلقة بشؤون الحياة اليومية.
أظهرت لنا ثقافة المركاز أدباء ومثقفين، شكّلوا المشهد الثقافي السعودي من جيل الأديب حمزة شحاتة (1909م – 1972م) في فضاء عام لا تحدّه أسوار مكانية. ثم ظهرت الأندية الأدبية بشكل مؤسسي، والصوالين والأيام الثقافية مثل “اثنينيّة النعيم” وغيرها من الأيام الخاصة، إلا أنها لا تُعدّ الجيل الثاني للمركاز بوصفه وكيفيته المعروفة، فالوجه الحديث لثقافة المركاز هو المقاهي التي مرّت بعدة مراحل حتى تستعيد وجهها الثقافي في المملكة مع مقاهي الإنترنت. فمذ أصبح الإنترنت عنصرًا محوريًا في أواخر التسعينيات، بدأ ارتياد المقاهي بشكل عام بقصد التسلية، حتى دخلت الشرائح المثقفة لهذا النوع من المقاهي بهدف الكتابة في المنتديات الأدبية والساحات الفكرية؛ ما ساهم في تغيير لغة الكتابة الأدبية وتوجهاتها، وفتح الأفق الفكرية، مع زيادة التعارف بين المثقفين والأدباء على المستوى العربي، ولعلِّي لا أبالغ إذا قلت والعالمي أيضًا.
لقد أثرى الرعيل الأول من مثقفي وأدباء “مقاهي الإنترنت السعودية”، الساحات الأدبية والثقافية عبر الإنترنت، فصار المثقف يلتقي المثقفين عن بُعد، بَعد أن كان يلتقيهم حضوريًّا في المركاز. وما إن وصلت خدمة الإنترنت إلى المنازل بشكل رسميّ، حتى عاد المثقف يلتقي ضيوفه من المثقفين من داخل البلاد وخارجها في المقاهي التي لم تعد مرتبطة بالإنترنت بشكل كبير، فعادت فكرة المركاز الشعبي بثوب جديد أكثر عصرية. لكن اللقاءات من هذا النوع باتت تُشكّل قلقًا عالميًا للمجموعات الكبيرة، لا سيما بعد ظهور الفكر المتطرف، فهي تفتقر إلى الرقابة المؤسسيّة؛ ما أوجد ضرورة ملحة لضبط العملية الثقافية، بحيث تؤدي الثقافة دورها في بيئة آمنة حتى لا تتخطفها الأهواء المشبوهة.
أحيت وزارة الثقافة السعودية الدور الثقافي والأدبي للمركاز من خلال إطلاق مبادرة “الشريك الأدبي” في 7 مارس من عام 2021م، بهدف عقد شراكات أدبية مع المقاهي التي تشارك في ترويج الأعمال الأدبية بشكل مبتكر؛ لرفع الوعي الثقافي. وجعلت التنافس في المحتوى ضابط الجودة للثقافة المقدمة؛ إذ سيحصل أفضل شريك أدبي في العام على جائزة بقيمة 100,000 ريال سعودي.
تستهدف المقاهي المشارِكة في هذه المبادرة جمهورها من خلال عمل فعاليات أدبية وثقافية تُثري زوارها، وذلك لتمكين الجمهور من التفاعل مع القطاع الثقافي؛ ما ساهم في وفرة الأنشطة الثقافية المتنوعة على مدار الأسبوع، وفي كافة المناسبات الثقافية والوطنية والعالمية. ما يجعلنا نقول بكل ثقة: إن مبادرة الشريك الأدبي قد حققت أهدافها بجعل الثقافة السعودية أسلوب حياة، وتعزيز قيمة الأدب في حياة الأفراد، الأمر الذي أسهم في انتشار الكتب السعودية وإظهار الأديب السعودي بصورة تليق به؛ ليعرفه العامة والخاصة على حدّ سواء، فكان لذلك بالغ الأثر في ظهور أدباء ومثقفين من جيل الشباب.
لقد كان لتعزيز دور مؤسسات القطاع الخاص أثره البالغ على المشهد الثقافي الأدبي السعودي، فهذا النوع من الشراكات يمثّل قوة ناعمة من شأنها أن تُعيد تشكيل الصورة العامة للثقافة السعودية.
اترك تعليقاً