مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

المذاق

بين الحاجة التطورية والتنوُّع الجيني


فاطمة البغدادي

المذاق جُزء أساس من ديناميكية حياتنا اليومية، وهو المايسترو في كُل ما نتناوب على تناوله من أصناف الطعام والشراب، التي تؤثر عوامل عديدة في تباين نكهاتها. بعض هذه العوامل يتعلَّق بالجينات وتنوُّعها، وبعضها له صِلة وثيقة بتاريخ التطوُّر، واختلاف الثقافات بين الأمم والشعوب. ومع ظهور الألسنة الاصطنـاعية، التي تُحـاكي التجربة الحسِّية البشرية، دخلت التقنية الحديثة لتُضفي نكهتها على مذاقنا، وتُساعد في تطوير أطعمة ذات نكهات أفضل وأكثر اتساقًا.

التذوُّق في أبسط تعريف علمي، هو الحاسة التي تُميّز الصفات الكيميائية للطعام أثناء وجوده في الفم، عن طريق المُستشعرات الجينية للتذوق المُتّصلة مُباشرة بالدماغ. وينحصر المذاق في خمس فئات أساسية، هي: المذاق الحلو كالعسل، والمذاق الحامض كالليمون، والمذاق المالح كالسردين المُعلّب، والمذاق المُر كالقهوة السادة، والمذاق اللذيذ أو “الأومامي”. والأخير هو أحدث ما أُضيف إلى تصنيف المذاق، ويُعدُّ الأكثر تأثيرًا؛ إذ يستطيع دمج الفئات الأربع المُختلفة بتناغم كبير، ويرتبط بالبروتينات، التي تُشكّل جُزءًا حيويًا من النظام الغذائي لكثير من الكائنات الحيّة. ويُعدُّ حليب الأم، أكثر الأغذية احتواءً على هذا المذاق اللذيذ. ويرجع الفضل في اكتشافه إلى العالِم الياباني كيكوناي إكيدا، الذي أطلق عليه اسم “أومامي” (umami)، وهي كلمة يابانية تعني “جوهر الطعم”.

ومن جُملة فئات المذاق هذه ينبثق طيف واسع من النكهات، التي نُدرك من خلالها معنى المُتعة، عند تناولنا للأطعمة والمشروبات. ولا ترتبط النكهة بحاسة التذوق وكفى، بل تُسهم حاسة الشم في تحديدها، وبنسبة تتجاوز %80.

التاريخ التطوُّري للذائقة

السؤال الذي يطرح نفسه: هل نتذوّق بالنكهات نفسها، التي كان أسلافنا الأوائل يتذوقّون بها؟

توصّلت نتائج أبحاث ودراسات علميّة حديثة، إلى أن هناك تاريخًا طويلًا من التطوُّر الطبيعي للذائقة. إذ بدأ أسلافنا من البشر يتذوقون الطعام بشكل مُختلف بعد تفرُّع شجرة العائلة البشرية، وزوال إنسان “نياندرتال”، وهو أقرب الأقارب المُنقرضين للإنسان الحديث، وكذلك زوال إنسان “دينيسوفان”، الذي يبدو أن بصمته الجينية امتدت عبر آسيا. ويُمكننا أن نعرف أشياء كثيرة عن تاريخ هذا التطوُّر البشري والحياة على كوكبنا الأرضي، مما يظل غائـبًا عنّا، من خلال دراسة تطوُّر المواد الطبيعية في البيئات المُختلفة والأزمنة المُتعاقبة، الذي صاحبه أيضًا تطوُّر في الأداء الوظيفي لمُستقبلات التذوُّق عند البشر وجميع المخلوقات التي تتعايش معًا في البريّة.

كثيرٌ من مُطوِّري المُنتجات يُعوِّلون على ألسَنة التكنولوجيا في مواجهة تحدِّيات الذوق، لإضفاء مزيد من النكهة والطعم اللذيذ، وإرضاء المستهلكين.

وكانت دراسة حديثة، أجراها فريق من الباحثين بجامعة أوتاغو في نيوزيلندا، قد توصّلت إلى أن تفضيل البشر المذاق الحلو بنكهاته المُختلفة هو أمر نشترك فيه مع أفراد رتبة الرئيسيات (أو الثدييات الرئيسية). واستندت الدراسة، التي نُشرت نتائجها في 12 فبراير 2024م، في المجلة الأمريكية للأنثروبولوجيا الأحيائية، إلى فحوصات وتحليلات أجريت على حفريات خمسة أنواع من الرئيسيات، عُمرها 29 مليون سنة عُثر عليها في مُنخفض الفيوم بمصر، وقُورنت ببيانات من الرئيسيات الحديثة لإدراك سلوكيات الأكل وتطوُّر الذائقة. فقد تركّز الاهتمام على معرفة ما يتكوّن منه النظام الغذائي، وما تتناوله الرئيسيات المُبكّرة، من أطعمة صلبة وليّنة.

وتبيّن أن الاستهلاك الأكبر والمُفضّل كان من الفواكه الناضجة ذات المذاق الحلو. ومن الضروري الإشارة إلى أن مُنخفض الفيوم كان قد شهد أكبر تجمُّع للرئيسيات التي نجت من التغيُّرات المناخية الهائلة، التي عصفت بكوكب الأرض وشكّلت مجموعة الأنهار الجليدية الأولى في القارة القطبية الجنوبية. وما حفريات الفيوم التي عُثر عليها، إلّا سجل تاريخي للحظة فارقة، تكيّفت فيها الرئيسيات مع مُتغيّرات البيئة العالمية، التي صارت أبرد وأجف. ومن الواضح أن إحدى أهم علامات هذا التكيُّف، التزوُّد بالفواكه ذات المذاق الحلو.

وبالمقارنة مع مُعظم الفقاريات الحديثة، توصّل العُلماء إلى أن أسلافها كانت تمتلك أنواعًا مُتباينة من جينات مُستقبلات التذوق المعروفة بــ(TAS1R)، التي كان الظهور الأوّل لها في عالم الفقاريات الفكّية مُنذ نحو 615 مليون سنة، ونتجت عنه تسع مُستقبلات أخرى في السلف المُشترك للفقاريات العظمية. غير أنه مع مرور الوقت، فُقدت بعض هذه الجينات في سُلالات مُختلفة، في حين احتفظت الثدييات وبعض الكائنات الأخرى بثلاثة منها. وبحسب البروفيسور هيدينوري نيشيهارا، من جامعة كينداي في اليابان، فإن قيمة ما جرى التوصُّل إليه من نتائج بحثية، تكمن في تسليط الضوء على التاريخ التطوُّري، و”استنتاج تفضيلات الذوق لدى الفقاريّات المُتنوّعة. ويُمكن أن يكون لهذا تطبيقات مُحتملة، مثل تطوير أغذية الحيوانات الأليفة، والمواد الجاذبة المُصممة خصوصًا لتفضيلات الأسماك والبرمائيات والزواحف”.

الجينات واختلاف التذوُّق بين الكائنات

إن التغيُّرات التي تحدث في تسلسل الحمض النووي لجينات التذوُّق، تجعل بيولوجيا الذائقة عند مختلف الكائنات الحيّة في حالة تطوُّر تاريخي مُستمر وتنوُّع كبير. فبينما يُقدّر البشر مجموعة واسعة من الأذواق، تسمح لهم بتمييز المذاق الحلو والمالح والحامض والمُرّ والأومامي، وذلك بسبب تاريخهم التطوُّري النهم، وبما لديهم من مُستقبلات جينية مُتنوّعة؛ فإن الأمر لا ينطبق على جميع الحيوانات. فعلى سبيل المثال، مُعظم القطط التي تعيش بيننا الآن، دائمًا تشمُّ الحلوى بشكل مُريب. لماذا؟ لأن أسلاف سُلالتها على مدار تاريخها التطوُّري، تعرّضت لمُتغيّر بيولوجي أدى إلى فقدان جين (T1R2)؛ وهو جين وظيفي مُهم لاكتشاف المذاق الحلو. وما زال بالإمكان العثور على بقايا هذا الجين في الحمض النووي للقطط، ولكن تأثيره يكاد يكون مُنعدمًا. وهذا هو سر الرّيبة التي تنتاب القطط عندما تشمُّ الحلويات.

ويُطلق على إصدارات الجينات القديمة، التي توقّف عملها الوظيفي، وظلّت بقاياها في الجينوم، “الجينات الكاذبة”. وعلى الرغم من أن كثيرًا من فصائل الطير تفتقر إلى هذا الجين أيضًا، فإن ثمَّة استثناءات وتناقضًا عجيبًا بين بعض عوائل الطير. ففي حين تُدمن الطيور الطنانة السُكّر، وتلجأ دائمًا إلى تناول السوائل المحلَّاة بالعسل، نجد على النقيض من ذلك أن طائر أبو الحناء يُفضّل تناول الديدان، وطائر الوقواق يُدمن التهام الحشرات. وفي تفسير تنوُّع الأذواق هذا، أشارت دراسة علميّة نُشرت في “إيفوليوشن نيوز”، في سبتمبر 2014م، إلى أنه عند الظهور الأوّل للطيور الطنانة، التي نشأت من أسلاف آكلات الحشرات مُنذ نحو 50 مليون سنة، حدثت طفرة جينية لمُستقبلات التذوُّق، ظهر خلالها فئتان جديدتان من الجينات المسؤولة عن مذاق أومامي، وهما: (T1R1 وT1R3). ومن ثمّ، تحوّلت الطيور الطنانة إلى نظام غذائي قائم على الرحيق.

لقد تبيّن أن الطفرات التي تُحدث تعديلًا في تسلسل الحمض النووي لتلك الجينات، يُمكنها أيضًا تغيير الأطعمة التي تستجيب لها مُستقبلات التذوُّق المُختلفة. وهذا أمر بالغ الأهمية؛ لأن التذوُّق، وهو في جوهره حاسة نقديّة، يُحفّز الكائنات الحيّة على تناول مزيد من الأطعمة المُغذّية ذات السُعرات الحرارية العالية، وفي الوقت نفسه يُجنّبها المُركّبات التي قد تكون ضارة أو سامّة.

الذائقة وثقافات الشعوب

إذا كان للذائقة أصولها التاريخيّة التي توارثها أسلافنا، وتطوّرت جيناتها عبر العصور، وتناقلتها الأجناس والأجيال المُتعاقبة، فلا شك أن الخلفيّات الثقافية والتأثيرات المكانية والحضارية تُسهم أيضًا في تشكيل خصوصية ذائقة الشعوب. وهذا ما يجعل لكُل شعب طعامه المُفضّل. فما تراه بعض الثقافات طعامًا لذيذًا، تراه أخرى عكس ذلك.

وتنقل لنا الكاتبة الصحافية فيرونك غرينود، في مقالة نشرها موقع “بي بي سي”، في 26 يناير 2016م، تجربتها قائلة: “عندما كُنت في زيارة لشانغهاي، تعلّمت تجنُّب زُقاق مُعيّن أثناء سيري إلى محطة مترو الأنفاق؛ لقد كانت رائحته دائمًا كريهة بشكل لا يُصدّق. لكنني لم أتمكّن أبدًا من رؤية أي دليل على مصدر الرائحة. وفي أحد الأيام، أدركت أنها رائحة متجر الوجبات الخفيفة الصاخب عند مدخل الزقاق، الذي يبيع الدوفو المُخمّر لعدة أشهر في خليط من اللحوم والخضراوات والحليب الحامض. بالنسبة إليّ وإلى الغربيين عمومًا، من الصعب الاقتراب من هذا الطعام من دون تكميم الأفواه. لكن كان للمتجر طابور طويل جدًا من الزبائن”. وفي المُقابل، يشعر كثير من الصينيين بالأمر نفسه، عندما يقتربون من أنواع أجبان مُفضّلة لدى الأوروبيين؛ فهي تحتل مرتبة مُنخفضة جدًا في قائمة المذاق عندهم.

وكانت مجلة “الحواس الكيميائية” العلمية قد رصدت في عددها الصادر في 25 ديسمبر 2017م، نتائج دراسة حديثة حول التذوُّق في الثقافتين التايلاندية واليابانية، تبيّن من خلالها وجود اختلافات كبيرة في مُتوسّطات درجات فئات المذاق الخمس بين البلدين، تجعل نحو %70 من التايلانديين يُفضّلون الأطعمة الحارة، في حين يُفضّل أكثر من %90 من اليابانيين الأطعمة الخفيفة غير الحارة. وبينما يبدو مزيج الطماطم والثوم والأوريجانو وزيت الزيتون إيطاليًا بامتياز، نجد الجمبري المُجفف والفلفل الحار والزنجبيل وزيت النخيل طعامًا مُفضلًا في البرازيل. أمّا الألمان فلا تخلو أطباقهم المُفضّلة من القشدة الحامضة والخردل والخل والشبت والفلفل الأسود. ولا يختلف المذاق المُفضّل عند الأمم والشعوب فقط، وإنما يمتد اختلافه إلى الذوق الفردي أيضًا. فليس كُل الناس سواسية في درجة تذوُّقهم للطعام؛ إذ هناك من يُطلق عليهم أصحاب الحساسية المُتزايدة للمذاق، أو “المُتذوّقون الفائقون”.

ألسنة التكنولوجيا وتحسين المذاق

دخلت التكنولوجيا الحديثة عالم التذوُّق، وصارت تؤدّي أدوارًا مُهمّة في تحسين مذاقنا، ويقول نيل سافاج، من جامعة ماساتشوستس في بوسطن: “لقد طوّرت الأنظمة التلقائية لتقييم الأطباق، مثل: أجهزة استشعار الذوق وتقنيات اللسان الإلكترونية؛ لتمييز عيّنات الأطباق، والتعرُّف على الأذواق المُعقّدة”. وكان فريق علمي تقني، يعمل في مجال الألسنة الاصطناعية، قد توصّل إلى إنشاء نماذج اصطناعية أوّليّة لوحدات التحكُّم التي تُناسب الأذواق، وابتكر مصّاصات تستخدم المذاق النقي لتحفيز حاسة التذوُّق. وتقول فرانشيسكا بيرونا، التي ترأس الفريق العلمي الذي نشر بحثه في موقع “تيك رادار”، في 10 ديسمبر 2017م: “أدركنا أن فُرص الجمع بين القُدرات الحسيّة للفم والأطراف الاصطناعية والتكنولوجيا يُمكن أن تكون هائلة”. وتُضيف: “إن التقدُّم التكنولوجي في تحفيز التذوُّق، ورسم الخرائط مُتعددة الحواس، يُغذّي الاهتمام المُتزايد باستخدام التذوُّق في التطبيقات والتجارب التفاعلية”. فقد أصبح كثير من مُطوّري المُنتجات يُعوِّلون على ألسنة التكنولوجيا في مواجهة تحدّيات الذوق، لإضفاء مزيد من النكهة والطعم اللذيذ، وتقديم مُنتجات أكثر جاذبية لأذواق المُستهلكين.

لا يختلف المذاق المُفضَّل عند الأمم والشعوب فقط، وإنما يمتد اختلافه إلى الذوق الفردي أيضًا، وهو نتيجة تطور جيني وتنوع ثقافي.

ختامًا، في المرّة القادمة التي تُلاحظ فيها طائرًا طنانًا يدسُّ منقاره في زهرة ليمتص رحيقها، أو ترى قطة تتعقب قارضًا وتندفع نحوه، أو تستمتع برائحة المشويات ونكهتها، أو تتناول السوشي الغني بالجلوتامين، توقّف لحظة لتُدرك وتُقدّر قيمة التنوُّع في المذاق، وكم كانت رحلته التطوُّرية طويلة. فأذواقنا تأتي بالأساس من جيناتنا التي توارثناها عن أسلافنا وأجدادنا، كما توارثتها باقي الكائنات والمخلوقات الأخرى التي تُشاركنا العيش على هذا الكوكب. وليست هذه الجينات ثابتة، بل مُتغيّرة ومُتطوّرة. وإلى جانب الجينات، ثمَّة مزيج من المؤثرات الأخرى، التي تُشكّل أذواقنا، مُتمثلة في خلفياتنا الثقافية، وتباين الأمكنة والمناخات، وتراكم الخبرات، وتنوُّع احتياجاتنا الغذائية. وفي ظل ما تقدّمه مُعطيات التكنولوجيا المُتقدّمة من حلول، أصبح تعديل المذاق ومُستوى النكهات مُمكنًا، لتلبية جميع الأذواق وإرضائها.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “المذاق.. بين التطور والتنوع الجيني”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *