في عام 2015م، في قرية تيبتزنتان في ولاية فيراكروز في المكسيك، وسعيًا منها لمساعدة السكان المحليين في تلك القرية الريفية البعيدة، نظَّمت إحدى المنظمات غير الحكومية ورشًا لتعليم الطلاب صناعة الخيزران الذي يعدُّ من أبرز المواد المحلية الموجودة بكثرة في تلك المنطقة. ولكن بعد فترة وجيزة أراد الطلاب تعلُّم ما هو أكثر من صناعة الخيزران، لا سيَّما أن قريتهم كانت تفتقر إلى مدرسة للتعليم الثانوي؛ فأطلقوا مبادرة لبناء مدرسة تدمج بين ما كانوا يقومون به من صناعة الخيزران مع مقررات التعليم الأخرى. هكذا بدأت فكرة “المدرسة الإنتاجية الريفية”، التي انطلق فيها الطلاب من تصوُّر مختلف قدَّموه إلى السكان المحليين، في الوقت نفسه الذي طلبوا فيه المساعدة من بعض المنظمات غير الحكومية، وإحدى شركات البناء التي كانت تبني منشآت في المنطقة.
بعد المناقشات مع السكان المحليين وتبادل الأفكار بين الأهالي والطلاب والمنظمات الراعية تطوَّر المشروع؛ فتقرر إنشاء مبنى تعليمي يضم إلى جانب ما كان مقررًا سابقًا، مساحات خضراء لزراعة الأعشاب الطبية، ومطبخًا لإنتاج مختلف أنواع الشراب، ومختبرًا لإنتاج المراهم والكريمات والعلاجات الطبية التقليدية، بالإضافة إلى ورش عمل لصناعة الأثاث من المواد المحلية. والجدير بالذكر أنه تقرَّر بناء المدرسة نفسها من مواد مستمدة من البلدة مثل الخيزران والطوب والقصب والنخيل والخشب. وهناك هدف آخر كانت تطمح هذه المنشأة التعليمية الخاصة إلى تحقيقه، وهو المحافظة على لغة الناواتل، وهي لغة السكان المحليين التي كانت مهددة بالانقراض، وذلك من خلال جعلها اللغة الأساس لتدريس جميع المقررات التعليمية، ولا سيَّما أن البرامج التعليمية الرسمية في المكسيك كانت تفرض اللغة الإسبانية على الطلاب الشباب، وتجبرهم على التخلي عن لغتهم الأصلية من أجل الحصول على درجة تعليمية مُعترف بها من قبل الدولة.
وافق السكان المحليون على المشروع، وقرَّروا دعمه بكل ما لديهم من إمكانات؛ فأنشأ أولياء الطلاب لجنة لتنظيم العمل الجماعي، وجرى التبرع بالأرض التي سيُشيَّد عليها البناء من قبل الجمعية المجتمعية للبلدة. كما تبرع الأهالي بمواد البناء من النتاج المحلي، وأسهم الطلاب وأولياء الأمور، على حد سواء، في عملية البناء نفسها، وتعاونوا معًا وتبادلوا الخبرات، وهو ما أسهم في إنتاج المعرفة ونقلها بين الأجيال وتعزيز الروابط المجتمعية.
وقد استند هذا المشروع إلى نهج “التصميم التشاركي” الذي يهدف إلى إشراك جميع الأطراف المعنية بشكل فعَّال في عملية التصميم، وهو ما يساعد على ضمان تلبية احتياجات المستخدم النهائي للمنتج وزيادة قابلية استخدامه. لقد كان هذا المشروع عملًا تعاونيًا بين السكان المحليين، من بينهم الطلاب والأهالي، وشركة البناء أيضًا عندما أُوكِل للمهندسين المعماريين دور جديد من خلال المرافقة المتكاملة التقنية والاجتماعية مع السكان المحليين، والتبادل الأفقي للمعرفة. واسترشد المشروع أيضًا بمفهوم “الإنتاج الاجتماعي للموئل” الذي يشير إلى العملية الناجمة عن عمل أفراد المجتمع المحلي بصورة جماعية على تحديد الظروف المحيطة بالبيئة التي يعيشون فيها؛ إذ تُعدُّ تلك العلاقات المتضمنة في إنتاج البيئة المعيشية في المجتمعات الفقيرة والمهمشة، ضرورية للعيش والتنمية والرخاء، بالإضافة إلى أنها تُعدُّ حقًا من حقوق الإنسان لبناء العدالة المكانية. لقد كان هذا المشروع، فعلًا، مشروعًا معماريًا مناسبًا للسياق الاجتماعي والبيئي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي للمكان.
تمثِّل هذه المدرسة المبتكرة مثالًا يُحتذى به لإمكانية إنتاج مدارس ذاتية بأنظمة بناء تقليدية ومعرفة جماعية متوارثة، وبرامج مساعدة متبادلة، وهو ما يعمل على توحيد لغة الحياة وفلسفتها، وأيضًا الطرق المتنوعة للعيش في هذا العالم من خلال تفكير معقد وشامل يعترف بالأبعاد المتعددة للموئل: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإنتاجية، والبيئية أيضًا. فلا يركِّز هذا النموذج المدرسي على التعليم التقليدي فحسب، بل يؤكد أيضًا أهمية الاكتفاء الذاتي، والمشاركة المجتمعية، والتنمية المستدامة، وتطوير المهن التقليدية الضرورية للمجتمعات النائية وتعلُّمها، ومن ثَمَّ، المساعدة على تجنُّب الهجرة وانفصال الأسر.
أخيرًا، قد يكون أكثر ما تُظهره هذه المدرسة أن العمل الجماعي الذي يقوده الشباب في المجتمعات النائية والمساعدة المتبادلة، يُمكنه أن يحقِّق أهدافًا عظيمة للتنمية المستقلة والمجتمعية للشعوب الأصلية.
اترك تعليقاً