بصمةٌ خاصة على صناعة السينما
إن لم يكن ويس أندرسون أحد أشهر المخرجين السينمائيين في العالم، فالمؤكد أنه من أكثرهم تأثيرًا في الجيل الشاب من صنّاع المحتوى على وسائل التواصل، الذين يحاولون أن يحذوا حذوه في إخراج أفلامهم الصغيرة، يساعدهم في ذلك سعيهم لسبر غور الجماليات الإخراجية في أفلام أندرسون، وتميّزها عن غيرها، حتى أن اسمه أصبح يُطلق على “تريند” عند هؤلاء. فما هي أبرز السمات الإخراجية هذه التي جذبت إليها شبيبة العالم أكثر من غيرها؟
بدور المحيطيب
عند التمعن في أعمال كبار الرسامين، مثلًا، نجد أن لكل منها سمات فنية ترتبط بمبدعها. وهذا ما يجعل تمييز كل عمل عن الآخر أمرًا ممكنًا حتى ولو كان في غرفة مليئة باللوحات. وبالمثل، للأفلام السينمائية سمات فنية إخراجية واضحة يتميز بها المخرجون بعضهم عن بعض، يشكلونها بتراكم الخبرات والتجارب فلمًا بعد فلم. وقد برز المخرج ويس أندرسون بوصفه أحد المخرجين الحديثين الذين تألقوا في السينما العالمية، إذ يتميز أسلوبه في الإخراج بالتفرد والابتكار، ومن المرجح أن جمهوره يميّز أفلامه من خلال جمالياتها وحدها التي يمكن ملاحظتها حتى من خلال العرض الترويجي الأول للفلم. كما يمكن الربط بسهولة بين أفلامه، بفعل السمات التي تكوّن أسلوبه المعروف الخاص. ولكن ما هي هذه السمات التي تجعل عمل أندرسون مميزًا للغاية؟
بدأ ويس أندرسون مسيرته الفنية في السينما بفلم “بوتل روكت” (Bottle Rocket) عام 1996م، وقدّم لاحقًا العديد من الأفلام التي حققت نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر، وحظيت بإعجاب الجماهير ولفتت أنظار النقاد. ويستخدم أندرسون الأسلوب نفسه تقريبًا في جميع أفلامه، متميزًا بالتفاصيل الدقيقة، إلا أنه يطوّر هذا الأسلوب بشكل فريد في كل فلم، بفعل تغيّر القصة والشخصيات والموضوع والتصميم الفني، مما يسمح للجمهور بالاستمتاع بقصة جديدة ومدهشة في كل مرة. وهو يعمل عادة مع فريق إنتاجه المعتاد، وفريق من الممثلين المفضلين لديه، ومنهم بيل موراي، وأوين ويلسون، وجيسون شوارتزمان، وأدريان برودي، وأنجيلا لانسبيري.
التناظر أول سمات طابعه الخاص
أول ما يلفت النظر في أفلام ويس أندرسون الطابع البصري غير المألوف. فهو يرتّب إطار التصوير بدقة متناهية، باللجوء إلى تنسيق مكوّنات اللقطات بالتناظر، سواء أكان تناظر الأشخاص أم الأشياء على جانبي منتصف الإطار. وهذه الطريقة في التكوين ليست مبهجة للعين فحسب، بل تمنح المشهد أيضًا إحساسًا بالانسجام والتوازن. فعلى سبيل المثال، لو تخيلنا خطًا مستقيمًا يقطع منتصف صور مشاهد أفلامه، فسيبدو أن كلا الجانبين متطابقين أو على الأقل متوازنين.
وتأليف هذه الكوادر السينمائية بدقة يحاكي رسم لوحة فنية حية، مما يدل على أن عين أندرسون الفنية مشبعة بالاطلاع على تاريخ الفن بحيث تمكنه من محاكاتها. فعلى سبيل المثال، ثمة مشهد في فلم “طلوع القمر” Moonrise Kingdom يظهر فيه عدد من فتيان الكشافة يتوسطهم قائدهم حول طاولة طعام مستطيلة. وتركيب هذا المشهد يعيد إلى أذهاننا فورًا لوحة ليوناردو دا فنشي الشهيرة “العشاء الأخير”. ولا مجال للتعامي عن صلة القربى الواضحة ما بين هذا المشهد وتلك اللوحة.
الميل إلى ثبات الصورة ولكل لون دلالة محددة
أما في الحركة فإن أندرسون يفضل اللقطات الثابتة على غيرها. وإذا تحركت الكاميرا فستقترب مكبِّرةً، وتبتعد مصغِّرةً، وتميل وتمشي، لكن بثبات تام واستقامة. وما يعطيها هذا النوع من الثبات في الحركة عادة أنها مثبتة على حامل، أو عربة، أو لأنها تسير على سكة بمسار.
تنتظم حركة الشخصيات في المشهد بتناغم، وقد تأتي الكثير من المشاهد التي توجَّه إيماءات الشخصيات فيها بوضوح باتجاه الكاميرا، فتخلق هذه العناصر جوًا خياليًا، وغالبًا ما يكون طفوليًا، للعوالم التي تخلقها كل قصة. ويشير السينمائي جيمس ماكدويل إلى أفلام أندرسون على أنها “تشجع الشعور بالدهشة تجاه الجمالية الطفولية”.
ومن المؤثرات المرئية الشائعة في أسلوب أندرسون تأثير الحركة البطيئة والطويلة، مثل مشاهد تتبع سير الشخصيات عند انتقالها من مكان إلى آخر. صحيح أن تأثير الحركة البطيئة ليست تقنية أندرسون الحصرية، فهناك من يستخدمها دائمًا من المخرجين أمثال مارتن سكورسيزي وكوينتين تارانتينو، لكن أندرسون يستغلها لتعطي إحساسًا عميقًا بالاستمرارية، وبالاتصال بين الشخصيات والمشاهد. وأحيانًا، بعد اللقطات الطويلة البطيئة، تراه يكسر النمط فجأة عمدًا لتوليد الإحساس باللحظات الحاسمة أثناء الحبكة.
ويلاحظ المتفرج أن لكل فلم من أفلام أندرسون تدرجات لونية محددة، تنتشر بشكل واضح على امتداد الفلم، فاختيارات الألوان تأتي بدقة متناهية لمغزى ما. يعلم أندرسون مدى أهمية الألوان في خلق رابطة عاطفية بين المشهد والجمهور، وتوجيه انتباهه إلى أدق التفاصيل، فيخلق بها أجواءً تعكس عادةً مزاج الشخصيات الفريدة في الفلم، والطابع العام للرسالة التي يريد إيصالها من خلاله.
فعلى سبيل المثال، يدعم نظام الألوان الأزرق والأبيض الأجواء البحرية لفلم “الحياة المائية لستيف زيزو” (The Life Aquatic with Steve Zissou)، وتبرز القبعات الحمراء المميزة بشكل صارخ مقابل الخلفيات الزرقاء مما يؤدي إلى جذب تركيزنا باستمرار إلى الطاقم.
أما فلم “فندق بودابست الكبير”، فإنه يتميز بتدرجات لونية قوية وزاهية، مثل الأحمر والوردي والبنفسجي والأزرق السماوي والأصفر، وتتغير التدرجات على امتداد الفلم بحسب السرد القصصي للأحداث، ودور الشخصيات فيها. يبدأ الخط الزمني للفلم في عام 1932م، وعلى الرغم من أن تلك الحقبة الزمنية لم تكن ذات ألوان ساطعة للغاية، إلا أن تلك التي استُخدمت منحت إحساسًا خياليًا بالجمال والراحة بغض النظر عن التحديات من حولها، فبدا وكأن الفندق تمويه لإخفاء قسوة الحرب، بالنسبة للأثرياء على الأقل، في تلك الحقبة. ومن ناحية أخرى ظهرت ألوان الشخصيات بشكل جلي من خلال تخصيص الألوان الداكنة للخصوم، والرمادي للحكومة البيروقراطية، والألوان الزاهية للأبطال. وبهذه الطريقة تشكلت تدرجات اللوحة الفلمية.
ومن العوامل الرئيسة التي تعكس ألوان الفلم، وتضفي جمالية لا يمكن تهميش أثرها على المتلقي هي اختيارات تصاميم الأزياء. وبالتأمل في أسلوب المخرج الخارج عن المألوف، نرى أنه يميل إلى اختيار أزياء وإكسسوارات غير عادية لتتألق بها شخصياته الخيالية.
الموسيقى لتعزيز المشهد والفكاهة لتقليل توتر الأحداث
من السهل التعرف على العناصر المرئية المميزة لأندرسون، ولكن هناك عناصر أخرى مكملة لأسلوبه الفريد لا تقل أهمية عن تلك البصرية، ومنها تدعيم المَشاهد بالموسيقى لتحقيق التأثير المطلوب في الجمهور. ورغم أن هذا المخرج يميل إلى أجواء الستينيات والسبعينيات في الموسيقى، لكن لا شيء يمنعه من اختيار المناسب من مجموعة أكبر تبدأ بكونشيرتو ليوهان سيباستيان باخ وموسيقى أخرى لفريق البيتلز، كما هو الحال في فلم “ذا رويال تيننباومز” The Royal Tenenbaums.
ويتميز أندرسون بالكوميديا الذكية التي تمتزج بشكل فريد مع الدراما والرومانسية والإثارة في أفلامه. فيعتمد على الفكاهة أداةً رئيسة لتخفيف التوتر وإضفاء جو من الخفة والمرح على الأحداث الدرامية. وتتداخل هذه الكوميديا المتوازنة مع ثيمات لموضوعات تتكرر في أفلام أندرسون ومنها: العائلة والتحديات والصعوبات التي تواجهها في الحفاظ على الروابط العاطفية بين أفرادها، والوحدة والشخصيات المنعزلة ومحاولتها الاندماج مع المجتمع، والحب في سياق العلاقات الرومانسية ومكافحة الأزواج للحفاظ على علاقتهم، والصداقة وأهميتها في تحقيق السعادة والنجاح في الحياة، والإبداع حيث الحرفيون والفنانون ومطاردتهم المستمرة لأحلامهم وطموحاتهم.
قد يتقاطع أسلوب ويس أندرسون مع أساليب مخرجين آخرين، مثل تيرنس ماليك وكوينتين تارانتينو وريتشارد لينكليتر، إذ يتميّز هؤلاء جميعًا بأسلوب إخراجي فريد يتسم بالتعقيد والتفاصيل الدقيقة، والحوارات الذكية والأداء المميّز للممثلين. ومن جانب آخر، يمكن القول إن أسلوب أندرسون يختلف عن أساليب مخرجين آخرين، مثل ستيفن سبيلبرج وكريستوفر نولان ومارتن سكورسيزي، الذين يعتمدون بشكل كبير على الإثارة والتشويق والدراما الكبرى في أفلامهم. وهذا يعني أنه يمكن وصف أسلوب أندرسون بأنه أكثر فكاهية وأخف بالمقارنة مع هؤلاء المخرجين.
تأثير يتجاوز السينما
يُعتبر أندرسون من المخرجين الذين تمكنوا من التأثير على الجمهور. لكن تأثيره لم يقتصر فقط على السينما، بل ظهرت آثاره أيضًا على الثقافة الشعبية، إذ أصبحت أفلامه مصدر إلهام للكثير من صناع المحتوى الإبداعي على منصات التواصل الاجتماعي حول العالم في الفترة الأخيرة، وخاصة تيك توك وانستقرام.
وبدأت مدونة تُدعى آفا ويليامز بإنشاء “تريند ويس أندرسون”، عندما نشرت مقطعًا لرحلتها على القطار من مدينة كونيكتيكت إلى نيويورك بأسلوب المخرج. تميّز هذا الفيديو القصير الذي تبلغ مدته 24 ثانية بأسلوب في تكوين الإطارات يمكن لأي شخص أن يتعرف عليه فورًا إن كان على دراية بأسلوب أندرسون، وكان مقرونًا بموسيقى لألكسندر ديبلات من فِلم “ذا فرينتش ديسباتش” (The French Dispatch). وقد انتشر هذا الأسلوب بين الجميع ليوثقوا رحلاتهم، وحياة عائلاتهم، وتفاصيل يومهم الصغيرة والمزيد!
وما تبع ذلك هو أن أندرسون جعلنا نمعن النظر في تفاصيل حياتنا، ونرى العالم من حولنا بنظرة فنية دائمًا، ونطلق العنان لخيالاتنا كي نتمتع بدور “الشخصية الرئيسة” في القصص التي نعيشها كل يوم. كما وضع بين أيدينا فرصة لأن نُخرج يومياتنا المتواضعة كفلم ملهم!
وإلى جانب تأثيره على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد نلحظ أن أسلوب أندرسون لاقى شعبية في مجال الإعلانات أيضًا، تبعًا لتأثير إطاراته البصرية المدهشة على جذب الجمهور. ولذلك، فكثيرًا ما يتولى أعمال الدعاية والإعلان لدعم مشاريع أفلامه الطويلة. كما أصبح ملهمًا لبعض الموسيقيين والمنتجين في عمل الفيديوهات الموسيقية، مثل اقتباس فرقة “فامباير ويكند” (Vampire Weekend) أسلوبه في فيديو أغنية “أكسفورد كوما” (Oxford comma 2008).
بعبارة أخيرة، لقد نجح ويس أندرسون في جعل صناعة الأفلام فنًا يتمتع بالجمال والتفرد. وعندما نفهم الفلم على أنه وسيط إبداعي، نستطيع بالعمل المتقن على كل إطار إبراز أبسط التفاصيل لتكون عنصرًا جماليًا باهرًا. ويُتوقع أن يتعاظم تأثير ويس أندرسون في صناعة السينما والفنون والثقافة الشعبية، وأن يبقى إرثه الفني مصدر إلهام للكثير من الفنانين والمبدعين في مختلف المجالات حول العالم.
اترك تعليقاً