بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له. قد يكون أصل الكتاب مخطوطًا ناقصًا لم يمهله القدر لإكماله، أو كاملًا لكن مؤلفه لم يحرره في صيغته النهائية. أو قد يكون الكتاب أحد المخطوطات القديمة للكاتب، وهذا ما يفتح الباب للشكِّ في أن ذلك النشر جاء ضد إرادة صاحبه الذي أهمل ذلك المخطوط سنوات من دون أن يفكر في نشره. هناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى.
الدفع بأعمال لم ينشرها الكاتب في حياته، ليس سوى جانب واحد من قضية أشمل هي قضية سلطة الورثة على الكاتب الراحل، وتحكُّمهم في قرار نشر أعماله أو حجبها، مدة خمسين عامًا بعد رحيله؛ أي أن سيطرة الأسرة على العطاء الإبداعي للكاتب تمتد إلى جيل إضافي، بعد الجيل الذي عاصره.
تشمل هذه السلطة النشر والمنع. ومثلما أن هناك أسرًا تهتم بتراث مُورِّثها الراحل، هناك أسر تحجب إبداع أبنائها حتى ما سبق نشره في حياته، لأسباب مختلفة. وهذا هو الجانب الأهم في القضية، وتتراجع أمامه الأسئلة التي تتعلق بحالات النشر، وحتى تلك التي تتساءل عن حدود الثقة بالأعمال التي تُنشر في غياب أصحابها، وحدود تصرُّف من قام بالتحرير من بعده، ومن دون الأخذ برأيه.
بين مبالغات الرعاية والتبرؤ
يختلف المبدعون عن غيرهم من البشر بأن جزءًا من تركاتهم، قد يكون الجزء المهم، ميراث غير مادي. لا أحد ينازع العائلة في حقوقها المادية، لكن الجانب غير المادي من الإبداع حق للمجتمع، وهو حق لم يتأسس بالمصادفة، بل يدخل في دوافع الأدباء والفنانين التي جعلتهم يُقدِّمون هذه الإنجازات؛ فبقدر ما يطمح الفنان إلى تحقيق ذاته مثل أي مزاول لمهنة أو وظيفة، فإنه يندفع في الوقت نفسه بالرغبة في تحقيق خدمة لثقافته وأجيالها القادمة.
رعاية الأسرة لإبداع ابنها الراحل والاعتزاز به والعمل على نشره، هو الوجه المُشرق في قضية سلطة العائلة. وعلى الرغم من أن الزمن هو المعيار الأهم الذي يحدد بقاء عطاء المبدع حيًا أو عدمه، فإن حظوظ بقاء المبدعين المتساوين تتأثر بتفاوت اهتمام أسرهم بإبداعهم. فيصِل الاهتمام ببعض الورثة إلى إطلاق جوائز باسم مورثهم، أو إنشاء مؤسسة ثقافية تحمل اسمه. وأبرز مثال على ذلك مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، التي تُسهم في إبقاء اسمه حيًا من خلال أنشطتها المتعددة ومتابعتها لقضايا نشر إبداعاته.
أحيانًا، تحدث مبالغات في النشر بدوافع استثمار اسم الكاتب أو استثمار لحظة رحيله. وهناك كثير من الإشكالات التي تتعلق بحدود التصرُّف بالتحرير، الذي يُمكن أن يصل إلى مستويات تباعد بين النص والسمات الأسلوبية لصاحبه، في حالة نشر مخطوطات قديمة أو جديدة، وهذا أمر موضع خلاف.
فهناك من لا يرى عيبًا في نشر كل ما كتبه الراحل. ويُشدِّد الشاعر زكي العلي في حديثه إلى “القافلة” على أهمية طباعة كل كلمة وكل حرف كتبه بما فيها الأبيات المكسورة والسخيفة التي تحوي أخطاء إملائية أيضًا، وأن يُعتنى بنشرها كما يُعتنى بأجود ما قاله. فهي في النهاية جزء من تجربته الكاملة بقوتها وضعفها، ودافع ومحرك لدراستها من الأجيال اللاحقة.
ويرى الدكتور علي زين العابدين الحسيني، أن طباعة الأعمال الكاملة تجعل التجارب متكاملة. ومن الناحية النقدية، فإن الأعمال “الأقل شهرة”، أو تلك التي لم تحقق نجاحًا عند صدورها، تُتيح مساحة للتأمل في تطوُّر الفكر والأسلوب عند صاحبها، كما تكشف عن السياق الاجتماعي الذي كان الكاتب يعيش فيه، أو التحولات الفكرية التي مرَّ بها. فالاطلاع على جميع أعماله يُظهر للناقد التطورات الدقيقة في توجهاته الإبداعية، وكيفية تفاعله مع قضايا المجتمع المختلفة.
مَن ينشر؟ ومَن يحجب؟
تضع تشريعات الملكية الفكرية الورثة، ببداهة، مكان مُبدِعهم الراحل باعتبارهم أصحاب الحق في نشر إبداعه وأفضل من يحافظ عليه. لكن هذه البديهة تصطدم بطبيعة الفكر والإبداع بوصف هذا النتاج حاملًا لرؤية فكرية قد لا تروق للورثة أو أحدهم، خاصة إذا كان الكتاب مذكرات أو سيرة لا تحتمل العائلة مستوى الصراحة فيها، وترى فيها إساءة لصورة العائلة. ففي حالات كثيرة كهذه تُحجب الكتب. وتتحدث الأوساط الثقافية عن هذا الحجب العائلي همسًا ومن دون أن تكون هناك طريقة مُجدية لمواجهته.
المنع بداعي التحريم والاختلاف العقائدي، أو من أجل الحفاظ على صورة العائلة مفهوم، لكن هناك حالات منع غريبة، من بينها مثلًا أن يكون من بين الورثة كاتب تأكله الغيرة من الراحل، فيعمد إلى المراوغة وعدم السماح لدُور النشر بإعادة طبع أعمال قريبه الراحل. فقد كان أحدهم يُساوم من أجل نشر كتاب له مقابل سماحه بنشر كتاب لشقيقه، وبعد سنوات لحق المانع بالممنوع إلى دار البقاء!
نظام حق الملكية الفكرية في السعودية، مثل كل نظم الملكية الفكرية في العالم وقوانينها، يُرتِّب حقوق الكاتب وورثته الطبيعيين من بعده. وقد نصَّت اللائحة السعودية في المادة الثامنة على حقوق المؤلف في حياته، التي تتضمن حقه في نسبة المصنف إليه أو النشر أو الاعتراض على أي تعدٍّ، ومنع التحريف أو التغيير وسحب مصنفه من التداول. كما نصت اللائحة على حقوق معنوية أبدية للمؤلف لا تقبل التنازل ولا تسقط بالتقادم. وكذلك يحق للمؤلف طبع المصنَّف ونشره وتسجيله وترجمته ونقل المصنف للجمهور بأي وسيلة ممكنة، ويحق له أيضًا الاستغلال المادي. وتلزم اللائحة الورثة بالعقود التي أبرمها مورثهم في حياته، بحسب ما يؤكد لـ”القافلة” المحامي خالد أحمد ذيبان.
حقُّ التصرف الذي تمنحه قوانين ولوائح الملكية الفكرية، ينتقل من المؤلف إلى ورثته مدة خمسين عامًا، ثم يصير بعدها تراثًا إنسانيًّا، يُمكن لأي جهة أن تنشره، مع الحفاظ على حق المبدع الأدبي، وعدم الاعتداء على نصه بالحذف أو بالإضافة.
“كلَّما فطنت الأسرة أن إرث الراحل ليس ملكًا لها، في حياته ومماته، سعوا إلى نشر ذلك الإرث”، هذا ما يراه الروائي عبده خال، الذي يُضيف: “لا يحجب الأعمال إلا أسرة أتعبت الأديب في حياته، وكنوع من التنكيل الممتد تقوم بحجب أعماله بعد وفاته. أمَّا إذا افترضنا أن الأديب لم ينشر في حياته ولم يدافع عمَّا يكتب، ففي هذه الحالة لتذهب أعماله معه”.
ويرى الشاعر والكاتب عبدالله عبيد، أن حجب الورثة لنتاج الأديب، إن كان بناءً على وصية، فيجدر بنا احترام رغبته. أمَّا إن كان الأمر تعنتًا، فيجب الوصول إلى صيغة تكفل للجميع حرية الوصول إلى نتاج المبدع، خصوصًا أن هناك أدباء كثيرين نشروا بعض نتاجهم في حياتهم، وتُوفوا قبل نشر أعمال كانوا ينوون نشرها، وبذلك يكون الحكم على تجاربهم ناقصًا.
حل التعويض
حق الورثة حصري، لا ينازعهم فيه أحد، لا مؤسسات الحكومة ولا روابط واتحادات الكتَّاب. المنفذ الوحيد لمن يريد أن يفك أسر إبداع كاتب راحل تمنعه عائلته، هو النشر من دون إذنها، على أن يكون جاهزًا لمواجهة دعاوى قضائية من العائلة تطالب بالتعويض. وتحدد القوانين عقوبات الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، ويكون دور القاضي مهمًا في هذا النوع من القضايا، التي تُحال غالبًا على تحكيم الخبراء لتقدير قيمة التعويض، بناء على الربح الذي حققه الناشر من واقع ما طبعه وسعر بيع النسخة وبين ادعاء أصحاب الحق.
ويلفت الشاعر عبدالرحمن موكلي الانتباه إلى تفصيل آخر يخص الإبداع الذي يكون قد نُشر في الصحف والمجلات والمؤسسات الثقافية وحتى مواقع التواصل. فمن وجهة نظره، يجب أن يُعاد نشر هذا الإبداع من قبل المؤسسات المعنية، بوصفه نتاجًا ثقافيًا عامًا. وإذا اعترضت بعض الأسر على النشر، فلهم الحق المادي.
ويعيد الكاتب والإعلامي محمد الغامدي قضية حدود سلطة العائلة إلى الأصل والدافع الذي يحرك الكتابة. لا يضع الكاتب كتابه لنفسه أو لورثته، بل يوجهه إلى طرف آخر. ولهذا يسعى في طبعه. ولهذا يطالب الغامدي بطريقة لحماية حق القرَّاء في الكتب التي يرفض الورثة إعادة طباعتها، وأن يكون هناك قانون لحماية هذا الحق ونشر الإبداع، ولا يكون للورثة سوى حقوقهم المادية.
ويرى المحامي الدكتور حسام لطفي أن الحل في حالات كهذه هو أن تُصدر الدولة ممثلة في وزارة الثقافة ترخيصًا جبريًا بالنشر في حالات امتناع الورثة لأهمية إصدارات ذلك المؤلف للرأي العام وللدراسات الإنسانية. وينبِّه المحامي، الذي يضطلع بالتمثيل القضائي لاتحاد الكتَّاب المصري، إلى أن الكتاب الذي لم يُنشر في حياة صاحبه تبدأ مدة حقوقه من تاريخ نشره وليس من تاريخ وفاة الكاتب. ويؤكد أن وجود نية للكاتب بالنشر أو عدم النشر يحسم الأمر. إن لم تكن لدى الكاتب تلك النية، وترك ما يوضح عدم رغبته في نشر تلك الأعمال، فلا حق لأي شخص مهما كان النشر بأي وسيلة كانت.
إغراق ما بعد الحرية!
يتصرف أغلب المبدعين بتلقائية بشأن ما يتركون خلفهم من الأعمال. فمن النادر أن يُحدِّد كاتب ما يريده من مخطوطات نائمة في أدراج مكتبه، أو أخرى ماتت دون أن تكتمل. ونادرًا ما يُحدِّد الكاتب طرق التصرف بأعماله، قبل رحيله، والبعض، ربَّما حتى في حياته، لا يهتم بالعقود.
ومع مرور الوقت، قد لا تجد دُور النشر الطريق إلى الورثة، الذين هاجروا أو ماتوا بعد مورثهم، وأحيانًا تكون هناك دار نشر ارتبط بها الكاتب تاريخيًّا وتعُدُّ نفسها وصية عليه، فلا تطبعه ولا تتركه، بينما تبتعد الدُور الأخرى اتقاءً للمشكلات.
هذه الصعوبات في حقوق نشر الراحلين ربَّما تُفسِّر ظاهرة في سوق النشر العربية تتمثل في إغراق الأسواق بمؤلفات كاتب مهم في اللحظة الأولى لتُحرِّر كتبه من تعقيدات الحقوق المادية؛ حيث تتسابق دُور النشر على طرح أعماله. حدث ذلك مع كُتب عباس محمود العقاد في عام 2014م، وحدث مع طه حسين في العام الماضي. وفي الحالتين، أصدرت دُور نشر متعددة أعمال الكاتبين. ولم يكن تعنت الأسرة أو ضخامة حقوق النشر ما جعل هذه الدُور تنتظر. فأسرة طه حسين، على سبيل المثال، كانت تقوم بكل ما عليها من أجل نشر إبداعه، ولم تكن متطلبة بخصوص الحقوق المادية، لكن شهية دُور النشر انطلقت مع بلوغه خمسين عامًا من الرحيل.
إجمالًا تبقى القضية مطروحة وتستحق الاهتمام.
“يتضمن الإبداع رؤية وموقفًا قد لا يروق للورثة، خاصة إذا كان الكتاب سيرة لا تحتمل العائلة مستوى الصراحة فيها.”
اترك تعليقاً