الفكرة القائلة إن الأشخاص المبدعين يستثمرون أوقات الراحة في أعمال خلاقة، ليست جديدة. فقد لُوحظت الميول الانطوائية لدى كثير من العلماء والفنانين عبر التاريخ؛ إذ إن العزلة هي الوقت الذي تظهر فيه الأفكار العظيمة في كثير من الأحيان. ولكن لم تُختبر هذه الفكرة علميًا من قبلُ.
حديثًا، وجدت ورقةٌ بحثية أجراها فريقٌ من العلماء من جامعة أريزونا الأمريكية، ونُشرت في مجلة أبحاث الإبداع (creativity research journal)، في يونيو 2023م، أن الأشخاص المبدعين لا يشعرون بالملل أثناء العزلة مثل غيرهم، بل يصبحون أكثر انخراطًا في إحياء أفكارهم الخاملة، كما يصبحون أكثر اهتمامًا بتحولاتها الديناميكية المحتملة. فبينما فرضت عمليات الإغلاق والعزلة الاجتماعية ضغطًا على الصحة العقلية لمعظم الناس أثناء جائحة كوفيد-19، فإنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى المبدعين، بل كانت بمنزلة فرصة للعمل.
من السمات المثيرة للاهتمام في الإدراك البشري “سيل الوعي”، الذي يتكشف عندما يُترك الأفراد لتأملاتهم الخاصة. فمعظم الناس على دراية بالتجربة الديناميكية للأفكار التي تنشأ خلال الوقت الذي يكونون فيه “لا يفعلون شيئًا”، مثلًا: عند انتظار الحافلة أو الاستحمام أو مجرد الجلوس على السرير من دون القيام بأي شيء. إن خصائص مثل هذه الأفكار وديناميكياتها، تؤدي إلى انجذاب الأكثرية إلى التسلية بأنشطة بديلة، بينما يفضل المبدعون أن يُتركوا بمفردهم مع أفكارهم.
تطلب معظم الدراسات المتعلقة بالتفكير البشري من المشاركين فيها التفاعل مع موضوع أو فكرة معينة، أو وصف الأفكار التي تشغلهم أثناء التجربة. لكن لا يُعرف سوى القليل جدًا عن كيفية ظهور الأفكار بشكل عفوي من دون أي دافع، عندما لا يكون انتباه الشخص مشغولًا بأي شيء.
وشرحت كبيرة الباحثين في الدراسة، جيسيكا أندروز هانا، أهمية هذه النقطة بقولها: “في مجتمع اليوم المزدحم والمتصل رقميًا، قد يصبح الوقت الذي يقضيه المرء بمفرده مع أفكاره، من دون تشتيت انتباهه، سلعة نادرة”.
لهذا السبب تحديدًا، أجرى العلماء تجربةً ومسحًا لهذا البحث الجديد في الوقت نفسه. في التجربة، طُلب من 81 مشاركًا الجلوس في غرفة بمفردهم مدة 10 دقائق من دون أي أدوات رقمية يمكن أن تشتت انتباههم. وخلال هذا الوقت، شُجّعوا على التعبير عن أفكارهم بصوت عالٍ، وجرى تسجيلها. ثم استخدم الباحثون هذه التسجيلات بوصفها بيانات لـ”اختبار التفكير التباعدي”، وهو اختبار يقيّم كمية الأفكار التي ينتجها الأفراد، وكذلك كيفية ارتباط هذه الأفكار بعضها ببعض لتقييم إبداع الشخص.
وقال كوينتين رافاييلي، أحد المشاركين في الدراسة: “بينما كان العديد من المشاركين يميلون إلى القفز بين الأفكار التي تبدو غير مترابطة، أظهر الأفراد المبدعون علامات على التفكير بشكل أكثر ترابطًا”. وأضافت أندروز هانا، أن المشاركين المبدعين صنفوا أيضًا مستوى الملل لديهم على أنه أقل وتحدثوا أكثر، مما يشير إلى التدفق الحر للأفكار.
وبالنسبة إلى الجزء الاستقصائي من الدراسة، سأل العلماء أكثر من 2600 شخص في استبانة عبر الإنترنت عما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم مبدعين، ومدى الملل الذي عانوه خلال جائحة كوفيد-19. وأكدت نتائج الاستطلاع نتائج التجربة في أن الأفراد المبدعين يميلون إلى الشعور بملل أقل عندما لا يكون لديهم ما يشغل عقولهم.
وقالت أندروز هانا: “إن فهم سبب تفكير الأشخاص المختلفين بالطريقة التي يفكرون بها، قد يؤدي إلى تدخلات واعدة لتحسين الصحة والرفاهية”.
اترك تعليقاً