مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل 2023

المانجا

عنقاء اليابان الأثيرة


طارق خواجي

قبل أسابيع قليلة، تنفس عشاق المانجا الصعداء، مع خبر اتفاق فنان المانجا الياباني كوجي موري مع دار النشر “هاكوسنشا”، على إصدار العدد الجديد من مانجا “بيرزرك” في الرابع والعشرين من يونيو القادم، وهو تاريخ لم يحدد مسبقًا في الاتفاق الذي كان خبرًا مهمًا في منتصف العام الماضي. وبيرزرك هي مانجا افتتحها الياباني الراحل كينتارو ميورا عام 1989م، وبرزت شهرتها عالميًا مع بث الأنمي الأول عنها عام 1997م. فما الذي يفسر هذا الاهتمام بمانجا بدأت وظلت، طوال أكثر من ثلاثة عقود، ضمن قوائم المانجا الأكثر مبيعًا وضمن الأكثر حظوة في منتديات النقاش!

طارق الخواجي

من الممكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة من خلال سرد معتاد عن حضور المانجا المؤثر في ثقافة كانت الصورة تحتل مكانة بارزة فيها منذ وقت مبكر، وعن كونها الوقود المستمر للأنمي الذي يُعتبر اليوم أحد أكثر الأجناس السينمائية والتلفزيونية ذيوعًا وشهرة، وخاصة مع جيل الألفية الذي يبدو الأشرس في التهامه أو نقاشه. لكن أمر المانجا يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير.

سفير للثقافة اليابانية

في كتاب “قلعة الأنمي: تجربة اقتحام” حاججنا كثيرًا، ومن خلال إحالات متعددة إلى دراسات الناقدة الأمريكية سوزان ج. نابير، عن التطور الهائل الذي طال المانجا والأنمي على حد سواء، وكنا نؤكد على نقطة بدت غير مقبولة حينها، وهي أن المانجا جنس أدبي وفن يجب النظر إليه بطريقة مختلفة، إذا أخذنا في الاعتبار أمرين أساسين، أولهما التاريخ التراكمي الهائل، وثانيهما فرادة الأعمال الكبرى في تاريخه.

يمكن الحديث عن التنوع الذي يتحرك بشكل حيوي داخل صناعة المانجا، من أصناف موجهة للفتيان وأخرى للفتيات، أصناف للأطفال وأخرى للكبار، بل وأرباب الأسر ورباتها، أصناف لطلاب المدارس والمهتمين بعلوم مختلفة، بل وحتى تعليمات تشغيل الأجهزة التي تقدم في إطارات المانجا الشهيرة. وهناك التصنيف الذي يراعي الموضوع، من مانجا تعالج قصصًا درامية، وأخرى مرعبة، ومانجا عن الخيال العلمي، وحروب الساموراي، وعوالم الجريمة، والمسابقات الرياضية، وأخرى في فن الطبخ. كما يمكننا الحديث عن الجهد الإبداعي على صعيد الشكل والمضمون اللذين يشكلان السواد الأعظم من إنتاجات المانجا التي تصدر بشكل رسمي إن صح التعبير، وإذا استثنينا ما يُسمى بمجموعات “الدوجينشي” المستقلة. بالإضافة إلى النقطة الأبرز التي يذكرها كثير من النقاد والباحثين الثقافيين من أن المانجا أصبحت سفيرًا لليابان وثقافتها، بدور يتجاوز من دون مواربة جهد المؤسسات الدبلوماسية اليابانية. وبحسب التصريح المالي لشركة “باندا”، فإن مانجا “ون بيس” مثلًا باعت حتى شهر أغسطس الماضي من عام 2022م، ما يزيد على 516 مليون نسخة في أكثر من 61 دولة في العالم بما في ذلك طبعًا الترجمات إلى لغات مختلفة.

لكن بحثًا أعمق يحاول الغوص في طبيعة العمل الإبداعي وعوامل التأثير الكبرى للمانجا، يجد أن كل ما سبق يبدو قراءة أفقية لفن بمثل هذه الشهرة وهذا الانتشار.

مرآة المكوّنات العميقة للثقافة اليابانية

تُعد ثقافة المجتمع الياباني جزءًا أصيلًا في التأثير على محتوى المانجا، فهي في أعمال أكثر من أن تحصى، تبدو متأثرة بالطبيعة الجغرافية لليابان وما ارتبط بها من حراك عنيف ودائم بفعل الزلازل التي كانت ولا تزال ذات تأثير لا يُستهان به وما تؤدي إليه لاحقًا من خلق حالة من التجدد والازدهار بعد كل نكسة. لذا تبدو الكوارث أصيلة ويابانية بالمفهوم الضيق، وهذا ما ترك بصمة حزن واضحة على كثير من الأعمال، يلعب فيها كون اليابان أرخبيلًا معزولًا عن كل العالم دورًا، لذا فالمصير خاص وحتمي.

ثم تأتي القنبلة الذرية تتبعها عوامل الحضارة الحديثة، بدءًا من الفقاعة الاقتصادية في نهاية الثمانينيات، ورعب التعليم وشراسة التنافس الوظيفي، ثم التطور التكنولوجي الرهيب في الألفية، وانحسار الطبيعة مقابل المدينة ومصانعها، والاغتراب العميق في مجتمع يقدس الجماعة، لكن أفراده أصبحوا معزولين في عوالمهم اطراديًا وبشكل مثير للانتباه. وهنا يمكننا النظر عن كثب إلى تاريخ عميق، تشكل في مجتمع يؤمن بإمبراطور سليل آلهة، والحروب التي دارت على ساحة إمبراطوريته، بين الساموراي و”شوغونات” متنفذة، في ظل الشنتوية التي تلامس جوهر الطبيعة والأخلاق التي شكلت ذلك المجتمع، مع تسلسل هادئ للبوذية، أسهم بشكل كبير في تشكل الشعر والملاحم والمسرح، وعلى غير مثال سابق في أماكن أخرى من العالم الفسيح خلف البحار.

كل هذه العوامل أثّرت في المانجا وأثْرتها، وزاولت دور الهاجس العميق للمانجا التي تصدر في الأصل عن أفراد متأثرين في المقام الأول بهذه المفاهيم، تختلف معالجاتهم في عمل عن آخر، الأمر الذي يلعب دورًا محوريًا في التنوع الذي تُعرف به المانجا.

حضور الأدب العالمي

إن ما سبق لا ينفي وجود عوامل خارجية أثّرت في المانجا وقصصها. فهناك النزعة الأمريكية التي كان لها دور مهم في تشكل أفكار أعمال هذا الفن وقصصه، وعلى رأسها قصص الأبطال الخارقين، والتغير المناخي، وحركات التحرير في العالم، وحروب المياه والموارد الطبيعية. ثم هناك الأدب العالمي، وهنا نتوقف لنتمعن عن قرب هذا التأثير العميق والراسخ في المانجا.

يمكن القول إن المانجا استفادت كثيرًا من أدبها الياباني، لكن والحق يُقال إن عيون الأدب العالمي كانت الأكثر حظوة وحضورًا، ويأتي ضمن أبرزها ألف ليلة وليلة، وأليس في بلاد العجائب، وحكايات الأخوين جريم، والقصص الشعبية الأوروبية. بيد أن تدقيقًا آخر سيقودنا إلى أعماق تأثيرات أبرز. سنجد ديستويفسكي في مانجا “كايجي” لفوكوموتو، وفاوست غوته في مانجا “ديث نوت” لأوهبا، وإتش. بي. لافكرافت في مانجا “أزوماكي” لإيتو، والتحول لكافكا في مانجا “طوكيو غول” لإيشيدا، وإحالات عديدة لا يسع المقام ذكرها. لكن هذا لا ينتقص من فرادة هذه الأعمال في معالجتها التي تذهب أبعد من اقتراحات الروائيين الكبار واردي الذكر آنفًا في أعمالهم الشهيرة.

فعلى سبيل المثال، نرى في مانجا “ون بيس” للياباني أودا إحالات مذهلة لأعمال كبرى في تاريخ الأدب العالمي، من دون كيخوته وموبي ديك والسيرة الهلالية، وجزيرة الكنز لستيفنسون، وجزيرة في الهواء لديانا وين جونز، ورحلات غوليفر لسويفت، ورحلات السندباد، وكتاب الأدغال، بل وإحالات إلى رموز في الثقافة الشعبية الأمريكية مثل الراحل مايكل جاكسون. لذا يبدو من الطريف دومًا رؤية من كان يعتقد أن قراءة المانجا مرتبطة بحنين طفولي، لكنه يصرح بعد القراءة الأولى متفاجئًا من كمية الثقافة الهائلة في دفتي هذا الكتاب الغاص بالرسومات والكلمات.

من التأثّر إلى التأثير

خلافًا لما يعتقده البعض، لا تكتفي المانجا بالتأثر، بل تمارس التأثير أيضًا. ويمكننا أن ننحي الأنمي الذي يمتح من معينها على الدوام، ونذهب إلى أعمال أثرت في السينما الأمريكية على سبيل المثال، ففلم “ذا ماتريكس” للأخوين واتشوسكي، متأثر في عمقه بمانجا ماساميوني شيرو “قوست إن ذا شل”، وفلم “أولد بوي” مقتبس بشكل طليق من مانجا تسوشيا التي تحمل الاسم نفسه. أضف إلى ذلك التأثير المتعدد لمانجا “أكيرا” لأوتومو، ومانجا “دراقون بول” لتورياما، كل هذا من دون أن نعرج على ألعاب الفيديو التي تأثرت بشكل بالغ بأعمال المانجا، وخاصة في أصناف الرعب الكوني والرعب القوطي وقصص الأبطال التي تتبع النموذج الذي وضعه جوزف كامبل في كتابه الشهير “البطل بألف وجه”.

لكن الصورة ليست مشرقة على الدوام، إذ لاحقت المانجا على الدوام تهم عديدة، من حيث إنها تمجد العنف والفوضوية والتمرد الاجتماعي. بعض هذه التهم يبدو رمية بعيدة المدى، تشبه المحاولات المحلية في أمريكا في توجيه عنف القتل العشوائي الجماعي في المدارس نحو موسيقى الراب والهيب هوب. وبعضها يبدو ورطة حقيقية، كما حدث في حالة هجوم غاز السارين في مترو الأنفاق بإحدى محطات طوكيو عام 1995م، الذي نفذته جماعة “الآوم شينركيو”، بقيادة شوكو أساهارا، الذي نصب نفسه مسيحًا للطائفة قبل الهجوم بثلاثة أعوام، وكان يستقي كثيرًا من مصطلحاته في الخطابة من رؤية يوحنا الشهيرة، لكن التحقيقات أثبتت اهتمامه الكبير بمانجا “ناويسكا: وادي الريح”، للمانجكا والمخرج الكبير هاياو ميازاكي، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للهجوم على المانجا ومبدعيها وجمهورها من المراهقين بالذات، وهو الأمر الذي تجاوزه هذا الفن مدة من الزمن، لكنه مع ذلك لا يزال يتعرض للهجوم من فترة لأخرى.

لون فني وأدبي وُلد من عمق مكوّنات الثقافة اليابانية، واستلهم آداب العالم وفنونه وألهمها بدوره أيضًا.

يقول اليابانيون إنك “لا تستطيع اللعب في الوحل من دون أن تتسخ”، وهذا هو قدر كل من يحاول الغوص عميقًا في تفاصيل العالم الحديث بكل تعقيداته اليوم؛ إذ تمور في العالم هواجس جديدة ومخاوف لم يسبق لها مثيل، وقد أصبحت سمة عصرنا الأولى المرتبطة بالنفس البشرية هي الكآبة، وهو ما يجعل المانجا فعل مقاومة إبداعيًا؛ لأنك “لا تستطيع أن تصيد ابن النمر، إذا لم تدخل عرينه أولًا” كما يقول اليابانيون كذلك.

تقف المانجا اليوم بين أكثر الوسائط الإبداعية شهرة في العالم. ومع مضي الوقت تبدو فكرة الربط بينها وبين سن محددة فكرة متضعضعة أكثر فأكثر، مع القرّاء الذين يكبرون مع المانجا التي يفضلونها، والتي يمتد بعضها إلى أربعة عقود. وهو ما يفسر الولاء الكبير الذي يكنّه هؤلاء القراء النشطون لصنفهم المفضل. إنها إحدى الطرق التي يمكن من خلالها فهم العالم والتعامل معه، وممارسة التأثر والتأثير، والإيمان بالحدود والأمل بلا حدود، والرغبة في أن يكون على هذه الأرض فعلًا ما يستحق الحياة، وهذا كافٍ جدًا، لأن “الطموح المبالغ فيه، جائزته التدمير الذاتي” كما يقول “غاتس” بطل مانجا “بيرزرك”.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “المانجا”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *