مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

الكويت.. رحلة البحث عن المباركية


خالد العبد المغني
تصوير: سامي الرميان

المباركية… قلب مدينة الكويت النابض، وقِبْلَة السائحين، وملتقى الزائرين طوال العام. كانت، ولا تزال، منطقة جذب سياحية بفعل موقعها في وسط مدينة الكويت القديمة. وهذه المكانة التي تتحلَّى بها في وقتنا الحاضر هي ذات جذور قديمة تعود إلى نشأة المدينة، بسبب النشاط التجاري للكويتيين الذي امتد إلى خارج حدودها الجغرافية بواسطة أسطولهم البحري.

قديماً، كان سوق الكويت مفتوحاً ويستورد البضائع من كل البلدان. وتشير شهادة لضابط البحرية البريطاني فيليكس جونز في تقرير كتبه حول سوق وتجارة الكويت بعد زيارته لها عام 1839م، إلى أن “الكويت تستورد الفواكه كالبلح والحمضيات والرمان والبطيخ من البصرة وبوشهر. كما أن الهند والبصرة تصدِّران إلى الكويت الحنطة والشعير. وتحصل الكويت على الأرز من منغلور (في الهند)، وعلى العدس من البصرة وبوشهر، والماشية والدواجن من البدو النازلين بأطراف المدينة. وكانت الكويت تحصل على خشب الصاج اللازم لبناء السفن من مدينة بومباي”.

مسجد السوق الداخلي وتبدو لوحة تاريخ بناء المسجد وتجديده بعد ذلك.

أسواق متشابكة 
منطقة السوق القديمة هي عبارة عن أسواق متشابكة، تمدَّدت وتفرَّعت مع مرور الزمن في موقعها الكائن في المنطقة الفاصلة ما بين منطقة الشرق ومنطقة جبلة، وكان أغلبها مسقوفاً بالعريش وبسعف النخيل لحماية المارة والبائعين من حر الشمس.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، استبدلت المسقفات بالـ “شينكو”، وهي مادة تتكوَّن من الحديد، وفي التسعينيات استبدلت بمادة من الألمنيوم والحديد المعالج.
ومثلت منطقة الأسواق نقطة التقاء لأفراد المجتمع الصغير من أجل التبضع والتسوق والتلاقي آنذاك. كما سمح تميز مركزها المثالي باحتضان أول مدرسة شبه نظامية أنشئت في الكويت، وهي المدرسة المباركية، وتم تأسيسها في عهد الشيخ مبارك الصباح في نوفمبر عام 1911م وسميت بـ “المباركية” نسبة إليه.
وفي بداية الخمسينيات، أُطلق اسم المباركية على المنطقة بمجملها، بسبب شهرة المدرسة المباركية، وبخاصة بعد التحديث العمراني الذي تحقق في عهد الشيخ عبدالله السالم (توفي عام 1965م)، وانتقال معظم السكان إلى مناطق جديدة تقع خارج السور. وفي أوائل الستينيات أصبحت الأسواق تعرف بسوق المباركية.

ماذا بقي من ماضي السوق؟
ماذا بقي من المكان؟ وهل حافظت الأسواق القديمة على هويتها؟ وهل أن ملامح شخصيتها المعمارية البسيطة ما زالت قائمة؟
هذه الأسئلة ملتبسة، فهناك من يجيب عنها بـ “نعم”، لأن المنطقة ما زالت تحتفظ بأسمائها القديمة للأسواق، وإن غابت أنشطتها التي عرفت بها. وهناك من يجيب بـ “لا” بسبب التحديث الذي طال أركان السوق، والعمارات التي أقيمت على أطلال الدكاكين، فلم يتبقَ من بنائها الطيني المعجون مع صخر البحر والأبواب الخشبية إلا القليل، واستبدلت أغلب مبانيها بمادة الإسمنت المسلح بالحديد وأبواب الألمنيوم.
خلال هذه الرحلة القصيرة والمصورة، حاولنا البحث عن بعض معالم الأسواق القديمة، والتقاط الصور الفوتوغرافية لها، بحثاً عن “ما تبقى من الأسواق القديمة” كما دونتها الكتب، وحفظتها ذاكرة الناس. 
للمباركية مداخل عدة تؤدِّي إلى أسواقها الداخلية مثل كل الأسواق في العالم. وقد اخترنا انطلاقة الرحلة المصورة من مسجد السوق، وتحديداً من عند بوابة المسجد المطلة على السوق الداخلي. وتعلو هذه البوابة لوحة رخامية تكشف لنا عن تاريخ بناء المسجد، وتواريخ تجديده، وفيها: “دائرة أوقاف الكويت العامة (السوق). أسس هذا المسجد محمد ابن حسين بن رزق سنة 1209 هجرية. جدَّد بناءہ يوسف آل صقر بمعاونة بعض محسني الهند سنة 1255 هجرية. جدَّد بناءہ دائرة الأوقاف سنة 1373 هجرية”.
فإضافة إلى تاريخ البناء الذي يوافق عام 1795م، تكشف هذه اللوحة عن وجود علاقة تجارية ما بين الكويت والهند منذ عام 1839م على أقل تقدير. ومن ثمار هذه العلاقة إسهام أحد تجار ساحل الملبار في الهند بالتبرع بالأخشاب بواسطة النوخذة (ربان السفينة) يوسف الصقر، الذي أسهم وإياه في التجديد الثاني للمسجد. 
أما التجديد الثالث والأخير فكان في عام 1953م، حين تمَّت توسعته وبناء منارة أعلى من سابقتها، مع وضع ساعة كبيرة تطل على الاتجاهات الأربع، وإضافة بعض الرسوم والزخرفة الجمالية على الجدار المحيط بالبوابة.
ويذكر أنه كان يُطلق على السوق الداخلي “شارع الأمير”، حيث كان الشيخ مبارك الصباح (توفي عام 1915م) في أوائل القرن الماضي يخرج من سكنه ليعبر سوق التجار الذي يتصل بالسوق الداخلي بعربته الفيكتورية الشكل التي استوردها من الهند، متجهاً إلى الكشك الجنوبي الذي يقع في وسط السوق، حيث يلتقي بالناس ويستمع إليهم. 
وكان نشاط السوق الداخلي المكوَّن من دكاكين متلاصقة مخصصاً لبيع اللحم والخضار والحبوب والتمر والأقمشة. وفي عهد الشيخ سالم الصباح (توفي عام 1921م)، انتقلت بعض أنشطة السوق إلى أسواق جديدة بنيت في إطار التوسع العمراني.

مدرسة وأربع مكتبات 
ومن أهم معالم السوق الداخلي، إلى جانب مسجد السوق الذي سبق ذكره، المدرسة المباركية، التي ما زالت قائمة في المكان نفسه، ولكنها لم تحافظ على شكلها القديم بعد أن أعيد بناؤها عام 1958م. 
واحتضن السوق الداخلي أربع مكتبات لبيع الكتب والمجلات وأدوات الكتابة في الأربعينيات، مما أضفى عليه مسحة ثقافية، هي: مكتبة الرويح، وعرفت لاحقاً بالمكتبة الوطنية، وأسسها محمد الرويح عام 1923م، وما زالت قائمة حتى الآن، لكنها انتقلت إلى الموقع المقابل لها بعد أن أعيد بناء السوق من جديد.
أما باقي المكتبات فلم يَعُد لها أثر، وهي: مكتبة الطلبة ومكتبة التلميذ، اللتان تأسستا عام 1947م، ومكتبة الكتاب المقدس العائدة للإرسالية الأمريكية، وربما كان تأسيسها في الثلاثينيات من القرن الماضي. 

المطاعم المفتوحة لاستقبال روَّاد المباركية بالمأكولات الشعبية المحببة مع مرشات التبريد في أوقات الصيف الحارة.

الأكشاك وساحة الصرَّافين
بعد خروجك من السوق الداخلي، تتلقفك ساحة كانت تعرف بساحة الصرَّافين. وفي منتصفها، عندما تدير ظهرك لمحلات الصرافة الكائنة في مبانيها الحديثة، تجد أمامك مباشرة الكشك الجنوبي المعروف باسم كشك الشيخ مبارك الصباح الذي بناه بعد سنوات قليلة من توليه الحكم عام 1896م ولا يزال على هيئته القديمة بعد تجديده عام 1910م، ويُعدُّ أقدم مبنى بمنطقة السوق.
يتميَّز هذا الكشك ببنائه البسيط المكوّن من غرفتين في الدور الأرضي وغرفة في الدور الأعلى. وواكب أحداثاً كثيرة، وعاصر مؤسستين مدنيتين احتلتا الدور العلوي من المبنى على فترات متعاقبة، هما: المحكمة الشرعية من عام 1934 لغاية 1939م، ومقر مكتب البريد الهندي من عام 1942 لغاية 1953م.
أما الغرفة الواقعة في الدور الأرضي، فكانت موقعاً لأول صيدلية أهلية تحت اسم “الصيدلية الإسلامية” التي أسسها عبدالإله القناعي عام 1920م، بعد اكتسابه للخبرة من ممارسته للصيدلة وتقديم الدواء لمراجعي مستوصف دار الاعتماد البريطاني خلال فترة عملة التي استمرت عشر سنوات.

كشك الشيخ مبارك.

سوق التمر 
وإذا خرجت من كشك الشيخ مبارك، فيكون أمامك خياران… إما أن تتوجه ناحية اليمين وتدخل سوق التمر، الذي ما زالت مبانيه محافظة على هيئتها القديمة، وهو مكوَّن من ثلاثة عشر دكاناً تقابل بعضها، ويفصل ما بينها ممر يؤدي إلى سوق الخضرة.
أما إذا أردت التوجه ناحية اليسار، فستستقبلك سكة تعرف بـ “سوق التناكة”، نسبة إلى صنّاع الأدوات والأواني المنزلية المصنوعة من التنك. وفي بداية الخمسينيات، نُقل إليه بائعو “الجت” (البرسيم) من سوق الخضرة، وأصبح يعرف بـ “سوق الجت”.
ويقع في آخر سوق الجت أقدم صالون للحلاقة، وما زال قائماً منذ الأربعينيات، وعلى مقربة منه يقع مقهى الدلالوة (السماسرة)، حيث يجلس المرتادون على مفرق يطل على أكبر الأسواق وأشهرها ويعرف بـ “سوق الغربللي”، نظراً لوجود محلات عدة فيه تعود لعائلة الغربللي. ويمتد هذا السوق من ساحة الصرَّافين وينتهي في الشارع الجديد الذي بُني عام 1947م، وتعرض فيه الملابس والأحذية والأواني والمكسرات، وغيرها.
ويتميَّز سوق الغربللي بامتداده الطولي الذي يتقاطع مع أسواق عديدة من الجانبين. فمن ناحية اليمين كان هناك: سوق الطحين، وسوق اللحم، وسوق السمك، وسوق الحلوى، وأخيراً سوق الأبيض، الذي افتتح عام 1947م، ويختص ببيع الأقمشة والأصواف، علماً بأن الأسواق ما زالت موجودة، ولكن لم تعد على هيئتها السابقة بعد هدم وتجديد بعض المباني.
وأما من ناحية اليسار، فتتفرَّع من السوق أسواق عدَّة، منها: سوق الشعير، سوق الخبابيز الذي ينتهي بسوق السلاح، سوق البوالطو، وأخيراً سوق الصناديق. ولهذه الأسواق تفرعات جانبية مثل سوق الصفافير، سوق البيبان (الأبواب)، وسوق المسامير، وسوق الشعير. 
وقد حافظت هذه الأسواق على وجودها من حيث البناء، ولكن بعض أوجه نشاطها تغير ليواكب تطوُّر حاجات المجتمع، وأيضاً بسبب انتشار أسواق جديدة في مناطق أخرى. 

 
الأسواق الشعبية و”تبليط” الشوارع
في الخمسينيات من القرن الماضي، تم تبليط ممر سوق الغربللي وأطلق عليه اسم “شارع فلسطين”، ولكنه لا يزال يُعرف عند البعض باسم “شارع الغربللي”، وأصبح متاحاً لدخول المركبات من ناصية الصرَّافين ليتقاطع مع الشارع الجديد، الذي يمتد من ساحة الصفاة وينتهي في شارع السيف، وسمي بـ “الشارع الجديد” باعتباره أول شارع تجاري تم تعبيده، ولما يمثله من تطوير للسوق، حيث ظهرت المباني ذات الدورين على جانبيه وانتشرت فيه المحلات الحديثة، مثل مكاتب السفر والأجهزة الكهربائية المنزلية والعيادات الطبية ومكاتب المحاماة ومحلات الذهب والساعات والتصوير وغيرها. 
وقد شيّد الشارع الجديد على أزقة وأسواق ضيقة تعرف بـ “سوق واجف” أو “سوق الحريم”، نظراً لوجود النساء البائعات اللاتي كن يجلسن ويفرشن بضاعتهن على الأرض لبيع مختلف السلع المنزلية والملابس الرجالية والنسائية، وملابس الأطفال التي تحاك في المنازل، وبعض المستلزمات النسائية، مثل أدوات الزينة والكحل والحنَّاء، وغيرها.
وتسبَّبت توسعة الشارع الجديد في نقل سوق واجف إلى شارع موازٍ للشارع الجديد من ناحية الغرب، بعد إزالة بعض البيوت وتشييد عدد كبير من المحلات وتسقيف السوق، مع تخصيص أماكن بمنتصفه للبائعات.
وإذا سنحت لك الفرصة لزيارة الكويت، ستتجه حتماً إلى أسوق المباركية، حيث البضائع المختلفة التي تتميز بأسعارها الرخيصة، وبمقاهيها المطلة على جنبات السوق، حيث دبيب الحياة مع حركة الناس، ومع صوت المنادين لبضاعتهم، ورجرجة عربات العتَّالين هنا وهناك.

اعتمد النص على المادة التاريخية التي وردت في كتاب “أسواق الكويت القديمة”، تأليف محمد عبدالهادي جمال، إصدار مركز البحوث والدراسات الكويتية 2001م.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “الكويت.. رحلة البحث عن المباركية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *