المراهقون، الفتية، اليافعون، الناشئة؛ مرادفات تصف مرحلة عمرية مفصلية، يكون الإنسان فيها قد خرج من طور الطفولة، ولم يبلغ بعدُ مرحلة النضوج. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن شخصًا من بين كل ستة أشخاص من مجموع تعداد العالم، يقع في المرحلة العمرية ما بين عشرة أعوام وتسعة عشر عامًا. وتتميز هذه المرحلة باتساع الأحلام والتمرد والرغبة في الاستقلال والاضطرابات العاطفية، وهذه الحساسية تجعل الكتابة لهذه الفئة العمرية صعبة. وفي الوقت نفسه تحتاج الكتابة للناشئة إلى حصة أكبر من سوق نشر الكتب. فكيف يبدو الواقع العربي في هذا المجال؟ ما مواصفات الكتابة للناشئة؟ ومتى صارت الكتابة لهم تخصصًا؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها في هذه الصفحات.
1- كيف تكتب لرجل يتنكر لطفولته؟!
الصعوبة الأساسية التي يواجهها الأهل مع المراهق، أنه طفل بمظهر شخص بالغ، فهو يعتقد أنه يستطيع الحكم بنفسه على الأمور، وكثيرًا ما يفعل ذلك كالبالغين، لكنه في أمور أخرى ينكر واقعه كشخص لم تزل إحدى قدميه في مرحلة الطفولة. ولا بدّ لمن يكتب لهذه الفئة أن يضع هذه الطبيعة الخاصة نُصب عينيه.
طبقًا لنظرية “استجابة القارئ”، فإن القارئ يحمل حياته وفلسفته الخاصة داخل النص. والمراهقون ليسوا استثناءً في ذلك. ولذا، فأولى سمات الكتابة لهذه المرحلة العمرية، أن يجد اليافع نفسه فيها، فيكون الأبطال بعمره نفسه، والكتاب الأفضل هو الذي يقدّم أبطالًا خارقين يقومون بأعمال فريدة لإنقاذ العالم. وهذا يُفسر ذيوع أعمال مثل هاري بوتر عالميًا، وأعمال أحمد خالد توفيق عربيًّا.
ومع التحفظ على فخ التعميم، فإن اليافعين يتحدثون كثيرًا؛ ولهذا من المُستحب أن تكون كتبهم مليئة بالحوار الحيوي والمندفع المفعم بالثقة بالنفس. ولا بدَّ من أن تنتهي الكتب بنهايات مُرضية للمراهق، وليس شرطًا أن تتجمد عند النهايات السعيدة. فالمهم هو الأسلوب الذي يسحب المراهق إلى داخل عالم الرواية أو الكتاب، وأن يخرج من القراءة وقد تعلم شيئًا عن نفسه.
في كلاسيكيات الكتابة للطفل والشاب، كانت هناك مراعاة لنوع الموضوعات التي يمكن التطرق إليها. لكن الكتابة الجديدة في العقود القليلة الماضية، لم تعد تتجنّب موضوعات من قبيل الموت والطلاق والتشتت الأسري وتعاطي المخدرات. فالمهم هو الطريقة التي يجري بها تناول هذه الموضوعات الصعبة بطريقة تنمّي الذكاء العاطفي للناشئ وتؤهله لمواجهة تلك الصعوبات في الواقع. وقد كانت الكاتبة السويدية أستريد لندغرين (1907م – 2002م)، رائدة في الحديث في هذه الموضوعات، ورائدة كتابة الروايات الطويلة لهذه الفئة، وتحتل مركزًا متقدمًا ضمن قائمة أكثر الكتاب الذي تُرجمت أعمالهم على مستوى العالم، ويمكن للقرّاء الكبار أن يقرؤوها بالمتعة ذاتها.
فيما يتعلق بالموضوعات والأنواع الكتابية، يحتاج اليافع إلى القصص الواقعية التي تهتم بكل تفاصيل الواقع، كما يحتاج إلى الفنتازيا والخيال الشعبي والخيال العلمي. ومثلما يحتاج إلى النوع السردي، يحتاج إلى كتب المقالات والكتب العلمية المبسطة. أمَّا من حيث اللغة، فمن البديهي ألا تكون صعبة، وأن يكون بناء الجملة سلسًا واضحًا.
2- التاريخ القصير لاكتشاف الكائنات اليافعة
في بدايات البشرية كانت الأساطير محاولة لتفسير العالم. وكانت رواية تلك الأساطير طريقة للاستئناس والتسلية، من دون تفرقة بين الأطفال والشباب والكبار. وحتى بعد اختراع المطبعة عام 1440م، ولعدة قرون، لم تكن الكتب الممتعة بالنسبة إلى الأطفال والشباب مصممة خصوصًا لهم. كانت القصص الخيالية ورومانسيات الفروسية الأوروبية، تُنشر للصغار والكبار على حد سواء. فعلى سبيل المثال، يحمل كتاب “ترفيه أمسيات الشتاء” (1687م) لناثنيال كراوتش، تعريفًا على غلافه: “ملائم بشكل ممتاز لأوهام الصغار والكبار”. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نالت روايات دانييل ديفو وجوناثان سويفت وجين أوستن ولويس كارول وغيرهم، استحسان الشباب مع أنها ليست مكتوبة لهم. وقد نُشرت رواية “أليس في بلاد العجائب” للويس كارول في عام 1865م، وكان لها أثرها البالغ في خط الكتابة الخيالية، ثم نُشرت نسخة منها للشباب في عام 1890م. ونشر روبرت لويس ستيفنسون بعض رواياته مسلسلة في مجلة للفتيان، كما كتب مارك توين روايته “توم سوير”، وهي مغامرات صبي في نهر المسيسبي. وكانت هذه بدايات التمايز لأدب اليافعين، قبل أن يعرف تصنيفه الصريح في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
الطريق إلى العصر الذهبي الأول
تعود أول إشارة إلى الأطفال والشباب، بوصفهم فئتين مختلفتين، إلى بداية القرن التاسع عشر، في مجلة أدب الأطفال “The Guardian of Education” التي أصدرتها البريطانية سارة تريمر. فقد استخدمت تريمر وصف أدب الأطفال للكتب المُوجهة إلى من تقل أعمارهم عن 14 عامًا، و “كتب الشباب” لمن تتراوح أعمارهم بين 14 و21 عامًا. ولم تزل مواصفات أدب الشباب التي وضعتها معمولًا بها إلى اليوم، مع اختلافات في احتساب الفئة العمرية؛ فالبعض ينتهي بمرحلة الطفولة عند الثانية عشرة، والبعض يمد مرحلة الشباب حتى سن الثلاثين.
لم تصبح نظرة سارة تريمر الطليعية مفهومًا عامًا، إلا في منتصف القرن العشرين تقريبًا، وذلك بفضل تطور دراسات علم النفس والتقدم الاجتماعي الذي كان من أهم مظاهره إلغاء عمالة الأطفال. وهو حدث نبّه إلى اختلاف هذه الفئة واحتياجاتها التربوية الخاصة. ففي كتابه “قرون من الطفولة”، الذي صدر عام 1962م، يؤكد المؤرخ الفرنسي فيليب أريس، بروز تصنيف أدب الأطفال والشباب في فترة الحرب العالمية الثانية ضمن متغيرات أخرى كتسويق الملابس والموسيقى والبرامج الإذاعية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو التاريخ أكثر قصرًا، ويعود إلى ستينيات القرن العشرين عندما صاغت جمعية خدمات المكتبات للشباب مصطلح أدب “YA” اختصارًا لـ(Young Adult)؛ أي الفتية. وقدّمت روايات تلك الحقبة مثل رواية “الغرباء” للكاتب إس. إي. هينتون، كتابة واقعية ناضجة للمراهقين. وبحسب الكاتب وخبير كتب الشباب، مايكل كارت، فقد مهّدت تلك الروايات الجادة الطريق أمام المؤلفين للكتابة بمزيد من الصراحة حول قضايا المراهقين في السبعينيات، حيث العصر الذهبي الأول لكتابات الشباب، الذي برز فيه مؤلفون مثل: جودي بلوم، ولويس دنكان، وروبرت كورمير. وأضاف بعضها حسًا أدبيًا لكتب المراهقين مثل كتاب “حرب الشوكولاتة” لكورمير. وفي السبعينيات بدأ الأمر ينحو إلى روايات الرعب، من دون أن يخلو النشر من كتب تلتقط المشاعر الفريدة لجمهور المراهقين وتترجمه في موضوعات عدة.
كتب عابرة للأعمار
بين وقت وآخر، يظهر كتاب للأطفال أو للشباب، يُقبل عليه الكبار بالشغف نفسه. وفي مقدمة هذا النوع من الكتب رواية “الأمير الصغير” للفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري، الذي لا يزال يلقى رواجًا متواصلًا في فرنسا والعالم، وتستمر طباعته من دون انقطاع.
وكذلك رواية “الحارس في حقل الشوفان” درة صاحبها الأمريكي سالنجر. ومع ظاهرة “هاري بوتر” في منتصف التسعينيات، تعددت الكتب العابرة للأعمار، ولا يقتصر الأمر على روايات الخيال، بل يشمل الخيال العلمي والفلسفة مثل “عالم صوفي”. وعلى أية حال، فقد انتهت دراسة أمريكية صدرت عام 2014م، إلى أن البالغين يمثلون %55 من قرّاء الكتب الموجهة للشباب.
وبحسب تحقيق لآشلي ستريكلاند على موقع “سي إن إن”، لم يكن السحرة ومصاصو الدماء دائمًا أبطال قصص الشباب في تلك الحقبة. وبعد ذلك بدأت روايات الشباب تركز على مشكلات الطلاق وتعاطي المخدرات، وبدأ المراهقون في الانصراف عن تلك القصص، ثم جاءت مرحلة الثمانينيات بموجة من الخيال النوعي، من روايات الرعب والدراما المتقنة الموجهة إلى المراهقين. وتنقل آشلي عن الرئيس السابق لجمعية مكتبات الشباب، شانون بيترسون، أنه كان يستطيع العثور بصعوبة على ثلاثة رفوف فقط للشباب، ولكن الأمر تطور الآن وأصبحت هناك صفوف وممرات كاملة لهذه الكتب.
بدايات المسيرة على المستوى العربي
في العالم العربي، هناك نقص في التأريخ لأدب اليافعين، حتى إن بإمكاننا العثور على تاريخ بدايات بعض التجارب الحديثة من دون أن نعرف متى أو لماذا توقفت. ومن المثير أن مجلات الأطفال واليافعين قد بدأت باكرًا، متأخرة عن مثيلاتها الأوروبية بعقود قليلة. إذ صدرت “روضة المدارس” في مصر بإدارة رفاعة رافع الطهطاوي، عام 1870م. وإن اقتصرت على ما يتصل بأخبار التعليم، فلم يتأخر بعدئذٍ صدور المجلات غير المرتبطة بالشؤون الطلابية. وربما كانت مجلة “الناشئة” في بغداد أول مجلة تستخدم تصنيف “الناشئة” بدلًا من “الأطفال”، وقد صدرت عام 1932م، وتوقفت بعد ثلاثة أعداد. وكتب في مجلات صدرت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، العديد من الأدباء المرموقين، كما كتب أمير الشعراء أحمد شوقي بعض قصائده للفتيان.
ويعدُّ كامل الكيلاني (1897م – 1959م) أحد الرواد في السرد للأطفال واليافعين. فهو أول من تفرغ لهذا النوع؛ إذ عمل سنوات في النقد الأدبي والتأليف والترجمة للكبار، وتحقيق كتب التراث مثل “رسالة الغفران” للمعري. ثم توجّه، منذ عام 1926م، إلى الكتابة للأطفال واليافعين حتى السن الجامعية؛ فكتب وترجم نحو ألف قصة، ومن بينها تيسير لبعض حكايات ألف ليلة وليلة. لكنه لم يتمكن من نشر أكثر من ربع هذا العدد في حياته، وتولّى ابنه نشر أعماله بعد مماته.
وكان عام 1953م، محطة مهمة؛ إذ أسّس الدكتور حلمي مراد (1920م – 2001م)، سلسلة “كتابي” للجيب، التي تميزت بتنوعها الهائل، فقدّمت تلخيصًا للروايات الكلاسيكية الكبيرة، وكتبًا عن أعلام الثقافة، وأخرى علمية مبسطة، ونصائح في الحياة، وهو ما بات يُعرف اليوم بكتب التنمية الذاتية، وغير ذلك من موضوعات. ولاقت هذه السلسلة انتشارًا كبيرًا في مصر والعالم العربي. ورغم أنها مخصصة للكبار، فإن طبيعتها التبسيطية جعلتها مناسبة للفتيان. وتوقفت السلسلة في أواخر الستينيات بعد أن برزت سيطرة النشر الحكومي، وكان قد صدر منها نحو 200 كتاب.
قلق البالغين
قلق الأهل وحرصهم على معرفة ما يقرؤه أبناؤهم، يعدُّ إحدى العقبات التي تواجه انتشار كتاب الشباب. فمع بداية فترة المراهقة، يُفاجأ الأهل بأن الطفل الذي كانوا يستعجلون نموه صار كائنًا آخر، يصعب فهمه، يتسم سلوكه بالنزق، وينزع إلى الاستقلال والمخالفة والاحتفاظ بأسراره؛ فيتملكهم القلق والفضول بشأن حركته وقراءاته. رقابة الأهل ومساءلة أبنائهم عن الكتب التي بحوزتهم، تؤدي إلى الضغط على المؤلفين وأمناء المكتبات بشأن ما ينبغي للمراهق أن يقرأه. وهي ليست ظاهرة عربية فقط. ففي أمريكا، ظهرت بعض الشكاوى من أن الكثير من أمناء المكتبات يتصرفون مثل النعام الخائف من انتقادات الأهل، ويبتعدون عن أدب الشباب.
بعيدًا عن المجلات، كانت “دار الفتى العربي” أول دار نشر عربية للأطفال من سن ما قبل المدرسة إلى الثامنة عشرة. وقد تأسّست في بيروت عام 1974م. وتعدُّ تجربة مُلهمة من حيث صبغتها القومية العربية؛ إذ التف حولها عدد كبير من كبار كتّاب العالم العربي ورسّاميه، ولم يكونوا من المتخصصين في الكتابة للناشئين والرسم للأطفال. من بين الكتّاب غسان كنفاني وصنع الله إبراهيم وزكريا تامر وحنان الشيخ. ومن الرسّامين محيي الدين اللباد وكمال بلاطة ونذير نبعـة. ورغم أن المبادرة كانت ذات صبغة فلسطينية، من الدكتور نبيل شعث، رئيس مركز التخطيط الفلسطيني، وبتمويل من رجال أعمال فلسطينيين؛ فإن بيان التأسيس أكد أن الدار تأتي “استجابة لحاجـات مجتمع عربي يتحول بديناميكية وسرعة (…) مجتمع فيه أكثر من 80 مليون طفل يتطلعون إلى مستقبل أفضل”.
وكانت “المؤسسة العربية الحديثة” في القاهرة أسبق من حيث النشأة؛ إذ تأسست عام 1960م للفتيان، لكنها بدأت دارًا لتقديم الكتب التي تشرح مناهج المدارس. وكان كتابها الأشهر “سلاح التلميذ” في أيدي جميع التلاميذ في مصر. لكنها لم تبدأ بنشر كتب خارج المناهج إلا في عام 1984م، بمشروع “روايات مصرية للجيب” الذي نال رواجًا كبيرًا. بدأ كتاب الجيب بسلسلة “رجل المستحيل” لنبيل فاروق (1956م – 2020م)، ثم “ملف المستقبل” للكاتب نفسه. وفي منتصف التسعينيات، انضم أحمد خالد توفيق (1962م – 2018م) بسلسلة “ما وراء الطبيعة”، ثم سلسلة “فانتازيا” وقد لُقِّب بـ “العرّاب” إشارة إلى أبوته لجيل كامل من الشباب. وكان مشهد تشييعه في مدينته طنطا مفاجئًا للجميع بضخامته.
أول إشارة إلى الأطفال والشباب، بوصفهم فئتين مختلفتين، كانت ضمن مجلة لأدب الأطفال أصدرتها البريطانية سارة تريمر في بداية القرن التاسع عشر.
٣- الواقع ليس سيئًا ولا حسنًا تمامًا!
من بين أكثر من 800 دار نشر مسجلة في اتحاد الناشرين العرب اليوم، تشكل الدُور المعنية حصرًا بأدب الأطفال واليافعين، نحو %5 منها فقط. وبالرغم من أنها نسبة ضئيلة جدًا، فإن %36 من الناشرين الآخرين تتضمن خططهم إصدار أعمال موجهة لتلك الفئة العمرية، لكن ذلك أيضًا لا ينعكس في أعداد الكتب المنشورة بشكل عام. إذ أظهرت دراسة مسحية، أعدها الدكتور خالد عزب لصالح اتحاد الناشرين العرب، في عام 2019م، أن حجم ما صدر من أعمال موجّهة للطفل خلال الفترة الممتدة من 2012م إلى 2014م، كان يمثل ما بين %15 و%20 من حجم ما نُشِرَ في الوطن العربي. وهذا الرقم ليس سيئًا أو جيدًا تمامًا بمقارنته بأرقام الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ تبلغ حصة كتب الأطفال والشباب نسبة %22.4 من إجمالي مبيعات الكتب.
سياسات التزويد والدعم ودورها
يرى رئيس اتحاد الناشرين العرب، محمد رشاد، أن “الدعم من الحكومات العربية” أساس لنمو حجم إصدارات اليافعين. ويعتبِر أن سياسات التزويد للمكتبات العامة والعلمية والمدرسية والجامعية، حجر عثرة أمام نمو حركة النشر في الوطن العربي؛ إذ لا يجري التزويد على مدار العام بسياسات واضحة، وازداد الوضع سوءًا بتراجع موازنات التزويد أو تجميدها لدى كثير من المكتبات، خاصة من الكتاب الورقي. وتراجعت موازنات التزويد بنسب تتراوح ما بين %50 و%70 في عدة دول عربية، بحسب أحدث تقرير لحركة النشر في الوطن العربي الصادر عن الاتحاد في عام 2023م. وقد يكون السبب في ذلك التراجع، ما مرت به كثير من الدول العربية من اضطرابات أمنية واقتصادية.
ولكن، من جهة أخرى، نشطت مبادرات حكومية في أكثر من دولة بهدف تحفيز جمهور القرّاء، وخاصة الأطفال واليافعين للإقبال على الكتاب. ففي عام 2015م، أطلقت إمارة دبي مبادرة لافتة تحت عنوان “تحدي القراءة العربية”، بهدف تشجيع الأطفال واليافعين في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي على القراءة، من خلال مسابقة لتلخيص الكتب تصل قيمة جوائزها إلى مليون وتسعمائة ألف درهم إماراتي. وقد أسهمت هذه المبادرة في دعم دُور النشر عمومًا، ومن بينها الدُور الموجهة لليافعين من خلال شراء إصداراتها المختلفة، وتزويد المكتبات العامة والمدرسية بها على مستوى الوطن العربي؛ إذ بلغت قيمة الكتب التي اشترتها المبادرة في نهاية عام 2017م وأوائل عام 2018م، أكثر من 30 مليون درهم إماراتي من نحو 344 دار نشر عربية.
وفي المملكة، ثمة تجربة لافتة للانتباه وهي تجربة “نادي كتاب الطفل”، التي تنفذها مكتبة الملك عبدالعزيز العامة. فهي توفّر عبر النادي الكتاب المناسب للطفل بحسب عمره، وهذا ما أدى إلى تزايد إقبال الأطفال على الاشتراك فيه، حتى وصل عددهم إلى 15 ألف طفل على مستوى المملكة. ويُرسل النادي 24 كتابًا (12 كتابًا قصصيًا و12 كتابًا غير قصصي) تتناسب مع عمر الطفل المشارك، بحيث يقرأ الطفل كتابين كل شهر طوال مدة الاشتراك. ويصاحب الكتابين أنشطةٌ ذهنية ولغوية وترفيهية، إضافة إلى إرسال نشرة تربوية للآباء والأمهات. وأصدر نادي كتاب الطفل “دليل كتب الطفل” الذي اشتمل على 1500 عنوان من أفضل ما كُتِب في مجال أدب الطفل من 80 ناشرًا من مختلف أنحاء الوطن العربي.
أثر التقنية وارتفاع التكلفة
إلى ذلك، يُضاف أثر جائحة “كوفيد – 19″، التي عطّلت عجلة الاقتصاد في العالم ككل، وأثّرت في صناعة النشر للأطفال واليافعين تحديدًا؛ فأدت إلى تراجعها في عامي 2020م و2021م، بنسبة %15 للعام الأول للجائحة، وبنسبة %30 خلال العام التالي. وعلى الرغم من أنه كان بإمكان الجائحة أن تكون أداة لرفع نسب توزيع كتب الأطفال، فإن القدرة التنافسية المحدودة للناشر العربي أعاقت ذلك، فمعظم دُور النشر ما زالت تعتمد النموذج التقليدي للنشر (الكتاب الورقي).
يقول مؤسس دار ومكتبة “تنمية” بالقاهرة، خالد لطفي، وهي إحدى الدُور التي تستحوذ على نسبة %36 من المهتمين بكتب اليافعين، إن تكلفة طباعة كتب اليافعين تمثل عائقًا ضخمًا أمام الناشر مقارنة بالكتاب العادي، من حيث اشتراك أكثر من مبدع في إنجازها، بالإضافة إلى احتوائها على الصور التي تتطلب جودة أكبر في الطباعة من حيث نوع الورق وجودة الألوان المستخدمة، حتى لو كان عدد صفحات الكتاب لا يتعدى العشرين صفحة في بعض الأحيان، فضلًا عن حقوق النشر في حال كان الكتاب مترجمًا.
الكوميكس من الظل إلى النور
على الرغم من أن روايات “الكوميكس” صارت صرعة أدبية في التسعينيات من القرن العشرين تستهدف الشباب والكبار، فإن الرواية المصورة ذات تاريخ طويل، يتوازى مع ظهور تصنيف الكتابة للطفل والشاب. أصل تسمية الكوميكس هو “الرسوم الهزلية”، ويعتقد البعض أن الظهور الأول لهذا النوع يعود إلى الحضارة الفرعونية، كتلك الرسوم التي عُثر عليها على جدران غرف عمال بناء معبد حتشبسوت. لكن التسمية صارت تنسحب على الروايات غير الساخرة. في اليابان، يعود تاريخ هذا النوع من الرسوم إلى القرن السادس عشر، وفي أوروبا إلى 1830م. أمَّا في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي، فظهرت في بدايات القرن العشرين. وكانت مجلة “الأطفال”، التي صدرت في مصر عام 1926م، أول مجلة مصورة. وظلت القصص المصورة مقتصرة على النشر في المجلات، حيث كانت مجلات المشرق العربي متأثرة بالمجلات الأمريكية والإنجليزية، ومجلات المغرب متأثرة بالرسوم الفرنسية والبلجيكية. وكان أول من أصدر هذا اللون في كتاب، الفنان محيي الدين اللباد في كتابه “كشكول الرسام”، في بداية ثمانينيات القرن العشرين.
ويشير لطفي إلى أن كتب الأطفال واليافعين، عمرها قصير بالنسبة إلى القارئ. فكتاب عن الفلسفة يمكن أن يصمد طويلًا على رف مكتبته، ويطّلع عليه مختلف أفراد الأسرة، في حين يُقرأ كتاب الطفل أو المراهق مرّة واحدة. ولكن، لا تبدو ملاحظة العمر الافتراضي للكتاب قاعدة بالنسبة إلى جميع ما يصدر لليافعين. فسلاسل مثل “ميكي جيب” ما زالت تصدر عن دار نهضة مصر وتحقق مبيعات إيجابية، فضلًا عن سلسلتي “رجل المستحيل” و “ما وراء الطبيعة”، اللتين بدأتا قبل أكثر من 35 سنة وتُوفِّي مُبدعاهما نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، وما زالت المؤسسة المصرية الحديثة تعيد طباعتها. ويشير مدير العمليات في تطبيق أبجد الإلكتروني، ياسر الزهار، إلى أنه لا يمكن التكهن بعمر قارئ هاتين السلسلتين بالتحديد؛ إذ تجذبان الفتيان والكبار على السواء.
لذلك، تسعى “المؤسسة المصرية الحديثة” إلى إعادة إنتاج تجربة مماثلة عبر إطلاق مسابقة سنوية للكتّاب الشباب المهتمين بكتابة أنواع الخيال العلمي والتشويق والرعب التي تجذب اليافعين، وطباعة الأعمال الجيدة منها. ويقول مدير المؤسسة، أحمد المقدم، إنها تجربة واعدة، لكن لا يمكن التعويل عليها بعد: “نطبع منها على سبيل التجريب ألفًا أو ألفي نسخة على الأكثر”.
ولا يتوقّع المقدم أن يدرك هذا المشروع نجاح سلفه مع فاروق وخالد توفيق، مشيرًا إلى أن السلسلتين القديمتين لا تزالان توزعان بشكل مقبول، مع اختلاف قارئ اليوم وظروفه عن القارئ الذي استقبلها وقت إصدارها.
مبادرات جديدة
بيْدَ أن الصورة ليست قاتمة تمامًا بالنسبة إلى موقع صناعة النشر العربية عمومًا من اللحاق بالتكنولوجيا؛ إذ نهضت منصات كثيرة تُعنى بإتاحة الكتاب في صور مختلفة، ورقية وإلكترونية مقروءة ومسموعة. فقد أطلقت “المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام”، مشروعًا في أغسطس من عام 2021م، يحمل عنوان “مانجا العربية”، وهو مشروع يستهدف إنتاج قصص مصورة على طريقة فن المانجا الياباني، ولكن بصبغة عربية. وتصدر منه مجلتان، إحداهما موجهة حصرًا للفتيان من أعمار 10 إلى 15 سنة، ومتاحة عبر تطبيق على الهاتف باسم “مانجا العربية للصغار”.
وبالنسبة إلى الكتاب الإلكتروني، تتيح “مؤسسة هنداوي” عبر الإنترنت، وبشكل مجاني، 1135 كتابًا ما بين القصص وأدبي الخيال العلمي والبوليسي الموجهة للأطفال واليافعين. ثم يأتي تطبيق “أبجد”، وهو تطبيق مدفوع يتضمن كتبًا مجانية أيضًا، ويضم نحو أكثر من 600 كتاب للطفل، لكنه يخلو من تصنيف لليافعين، ويصنف الكتب التي تندرج تحت فئتهم العمرية ضمن تصنيف “الأدب”، مثل أعمال نبيل فاروق وخالد توفيق.
في العالم العربي، هناك ضعف في التأريخ لأدب اليافعين، فحتى بعض التجارب الحديثة التي نعرف بداياتها، يغيب عنا متى توقفت ولماذا.
أمَّا ما يتعلق بالكتاب المسموع، فهناك منصة “storytel” التي تعدُّ أكبر مسوق ومنتج للكتاب الصوتي في المنطقة العربية، وتتيح أكثر من 6000 كتاب باللغة العربية وآلاف الكتب باللغة الإنجليزية. ونظرًا لصعود التعليم باللغات الأجنبية في المنطقة العربية، فقد وفّر هذا لـ “storytel” جمهورًا من القرّاء لديه قدرات شرائية عالية. وفضلًا عن أن هذه المنصة شهدت إقبالًا غير مسبوق خلال عامي 2020م و2021م، ارتفعت نسبة الإقبال على كتبها الصوتية بنسبة تزيد على %400. وتملك حاليًا في قسم كتب الناشئة 576 كتابًا باللغة العربية وضعفي هذا الرقم بالإنجليزية.
كذلك أطلقت مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للأعمال الخيرية والإنسانية منصة “مسموع دوت كوم” في عام 2017م، وقد احتوت عند إطلاقها على 1500 كتاب في مجالات متنوعة من بينها: التاريخ والروايات والاقتصاد واللغات، إضافة إلى 594 كتابًا للأطفال.
أثر الجوائز
صارت الجوائز الأدبية عاملًا مهمًا في دعم صناعة النشر والقراءة عمومًا، فهل نال أدب اليافعين الحظ نفسه مع الجوائز؟
في الوطن العربي نحو 26 جائزة مرموقة، ثلاث منها فقط موجّهة لأدب الأطفال واليافعين حصرًا، وهي: جائزة “اتصالات” التي أُطلقت في عام 2009م، ومسابقة “مانجا العربية” التي أطلقتها المؤسسة السعودية للأبحاث والإعلام في 2022م، بالإضافة إلى جائزة “حَزَاوِي” لأدب الطفل، الموجهة فقط إلى الكتّاب اليمنيين، وأُطلقت عام 2021م. في حين ألغت مصر جائزة “سوزان مبارك”، التي أُطلقت في عام 2006م، ولم تعوّضها بأخرى موجهة حصرًا للطفل، مكتفية بجوائز معرض القاهرة الدولي للكتاب التي تضم إحداها فرعًا لأدب الأطفال.
إضافة إلى ما تقدم، هناك ثماني جوائز أخرى تتضمن فروًعا لأدب الأطفال واليافعين، هي: جائزة الشارقة للإبداع العربي (1996م)، وجائزة الشيخ زايد للكتاب (2007م)، وجائزة ساويرس للثقافة (وهي جائزة للكتّاب المصريين وأُطلق فرع الطفل فيها عام 2021م)، وجائزة كتارا (وأنشأت فرعًا لروايات الفتيان غير المنشورة في عام 2022م)، وجائزة الشارقة للإبداع العربي (وفيها فرعان: واحد لأدب الطفل، والثاني لمسرح الطفل، وأُطلقت في عام 2021م)، بالإضافة إلى جوائز معارض كتاب الشارقة والرياض والقاهرة.
أثر الواقع على الخيال
من البديهي أن الأدب، بوجه عام، لا ينعزل عن سياق المجتمع الذي ينشأ فيه، بما في ذلك أدب الشباب. ومثلما كانت النشأة بسبب تغييرات اجتماعية وسياسية وأكاديمية متعددة، فإن بروز كتاب معين أو تيار معين من أدب الشباب، يرتبط بلحظة تاريخية لها خصوصيتها، ومصادفة مولد جيل من الشباب لديه تطلعاته وموقفه من الظروف حوله. كما أن تكرار الموضوعات يسهم في هبوط منحنى القراءة لدى الشباب، إلى أن يأتي كاتب أو جيل من الكتاب يلتقط النبض الجديد ويترجمه كتابة، ويسهم في ازدهار القراءة من جديد.
ويثمّن خالد لطفي، الذي فاز كتاب “فكر بغيرك”، الصادر عن داره بجائزة “اتصالات” في عام 2018م، دور الجائزة والعائد المادي الذي حصلت عليه “تنمية” منها؛ إذ تمنح الجائزة التي تصل قيمة الفرع الواحد فيها (خمسة أفرع) إلى 180 ألف درهم إماراتي، إلى المؤلف والرسام والناشر لكل منهم 60 ألف درهم، فضلًا عن دورها في الترويج للكتب فـ “الأسرة التي تشتري كتابًا يهمها بالطبع حصول الكتاب على جائزة”، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن جوائز الأطفال لا تصنع التأثير نفسه، الذي تصنعه جوائز الأدب عمومًا، ضاربًا المثل بتأثير جائزة البوكر العربية على الروايات التي تصل إلى قوائمها القصيرة.
اترك تعليقاً