مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

القوة الناعمة للتعاون الثقافي الدولي


د. سعود كاتب
وكيل وزارة الخارجية لشؤون الدبلوماسية العامة سابقاً، أستاذ جامعي

أول ما يخطر على بال الكثيرين عند الحديث عن أوجه التعاون الرئيسة بين الدول هو الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، باعتبارها جوانب ينظر إليها على أنها تحمل أبعاد استراتيجية وتأثيراً لا غنى عنه في العلاقات الدولية. ولكن ومع بزوغ نجم مفهوم الدبلوماسية العامة والمفاهيم الأخرى المرتبطة به، مثل القوة الذكية، والقوة الناعمة التي تُعدُّ الثقافة عمودها الفقري، أصبح التعاون الثقافي بين الدول شأناً لا يقل أهمية.. شأناً لا تقتصر تأثيراته كما يوحي الاسم، على الجوانب “الثقافية” وحدها، بل يمتد ليشمل التأثيرات الاجتماعية والسياحية والإعلامية والاقتصادية، والسياسية أيضاً.
تختلف الآراء في تعريف مفهوم “التعاون الثقافي الدولي”، غير أنه يمكن بشكل عام تعريفه بأنه “جميع أوجه النشاط التي تمارسها المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، والقطاعان الخاص والعام، الهادفة إلى ترويج ونقل المعرفة والمهارات والفنون والمعلومات ذات الطابع الثقافي للدولة إلى الدول الأخرى، وذلك بهدف دعم العلاقات بين الشعوب عبر ترسيخ الفهم والثقة والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة”.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي أخذها في الاعتبار بهذا الصدد، الحرص على قيام التعاون الثقافي على أسس متساوية وعادلة بعيدة عن الانحياز وطغيان ثقافة معيَّنة على حساب ثقافة أخرى، ومراعاة حقيقة حساسية بعض القضايا الثقافية. فالعوامل الثقافية، مثل الأفكار والمعتقدات والقيم هي التي تحدِّد هوية الفرد وشخصيته، وتجعله جزءاً من الحياة الكلية للجماعة التي ينتمي إليها. ولعل من الطبيعي أن تقع خلافات داخل الجماعة الواحدة، تماماً كما يحدث في الجماعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، ولكنها حتماً لا تأخذ منحًى متطرفاً كالذي حدث مثلاً في الهجوم على مسجد مدينة كرايست تشيرش في نيوزلندا، ‏وكما حدث في تفجيرات بالي عام 2002م، وغيرها من الأحداث الدموية والمأساوية.
من أجل ذلك فإن الجانب الثقافي يُعدُّ أمراً غاية في الأهمية، ليس لفهم الجماعات والمجتمعات فحسب، بل أيضاً لاستيعاب ما يدور حولنا، وكذلك للبحث عن طرق ووسائل مختلفة لخلق نوع من التواصل والتقارب السلمي والفهم المشترك بين الثقافات المختلفة. وفي هذا الشأن، يقول الممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي: “إن الثقافة يمكن أن تكون عوناً لناً في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، للوقوف معاً للتصدي للتطرف وبناء التحالفات الحضارية ضد أولئك الذين يحاولون الوقيعة بيننا. من أجل ذلك فإن الدبلوماسية العامة يجب أن تكون في صلب علاقاتنا في هذا العالم الذي نعيشه اليوم”.
وهناك كثير من الأمثلة على التعاون الثقافي الدولي، منها على سبيل المثال برامج التبادل التعليمي، وهي برامج ينخرط فيها طلاب البلد في الدراسة في المؤسسات التعليمية في بلد آخر، بشكل يتيح لهم التعرف على ثقافة ذلك البلد وحضارته وتاريخه، والالتقاء بأصدقاء جدد يحملون أفكاراً ومعلومات وثقافات مختلفة، وتكوين صورة أكثر انفتاحاً وفهماً للعالم. هذه البرامج بدأها القطاع الخاص، لكنها أصبحت في القرن العشرين جزءاً أساسياً من استراتيجيات التواصل لكثير من الدول. وتنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى برامج التبادل التعليمي على أنها العمود الفقري لدبلوماسيتها العامة، وعلى أنها ترتبط بشكل مباشر بالاستراتيجيات طويلة الأمد للأمن القومي الأمريكي، وهي تحظى بدعم كبار مسؤولي الأمن القومي، ومنهم مثلاً وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس الذي قال عنها: “لا توجد سياسة أثبتت نجاحها في كسب الأصدقاء للولايات المتحدة، مثل سياسة استقطاب الطلاب الأجانب للدراسة في الجامعات الأمريكية”.
ومن الأمثلة الأخرى للتعاون الثقافي الدولي، برامج تبادل القيادات المستقبلية، وهي برامج تستهدف استقطاب الطلاب الذين يحملون سمات قيادية ويتوقّع أن يكون لهم تأثير مستقبلاً في دولهم، بحيث يتم تقديم منح دراسية لهم في المدارس أو الجامعات الخاصة بالدولة المنظمة للبرنامج. كذلك برامج تبادل الكفاءات المهنية، وهي عبارة عن أنشطة عملية أو دراسية تستهدف مجموعة تنتمي إلى مهنة محدَّدة، وتتيح للمشاركين فيها فرصة اكتساب خبرات جديدة، ومشاركة خبراتهم مع نظائرهم في دول أخرى، وبناء علاقات عمل. وهناك أيضاً برامج التبادل الافتراضي، وهي برامج تبادلية تعتمد على تكنولوجيا الاتصال الحديثة، للربط بين أفراد أو مجموعات في أماكن متفرقة من العالم بهدف تحقيق أغراض تعليمية وثقافية تعود بالنفع على المشاركين، وتمكينهم من التواصل والتفاعل في ما بينهم، ومن ثم الاحتكاك بثقافات أخرى مختلفة والتعود على سماع وقبول الآراء المختلفة وبناء التسامح وقبول الآخر.
أخيراً، من المهم الإشارة إلى أنه رغم الفوائد والإيجابيات العديدة الموجودة في معظم هذه البرامج، إلا أنها كثيراً ما تتعرَّض للانتقاد وعدم الثقة في أهدافها الحقيقية، التي يمكن أن تتراوح بين جمع المعلومات وغسل الأفكار وتغيير المعتقدات، إضافة إلى عدم مراعاة احترام خصوصيات الثقافات المختلفة. فبدلاً من قيام بعض تلك البرامج بالعمل على تمكين الشباب المشاركين، وتعليمهم وتدريبهم، فإن الأمر لا يخلو أحياناً من الإيحاء إليهم بشكل مباشر أو غير مباشر بالتمرد على مجتمعاتهم وثقافتهم، وبالتالي تعريضهم للخطر بسبب صغر سنهم، وعدم وجود وعي كافٍ لديهم للتعبير عن آرائهم بشكل مناسب خلافاً للتمرد والمقاومة.


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


0 تعليقات على “القوة الناعمة للتعاون الثقافي الدولي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *