مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

القوة الخفية للغة التصويرية

كيف تشكِّل الاستعارات اللغوية موضوعها؟

د. دانة عوض

بمعناها المعجمي الأوّل، الاستعارة هي الاقتراض، كطلب كتاب من مكتبة عامَّة لقراءته داخل المكتبة أو خارجها “استعارة داخليَّة – خارجيَّة”. وفي علوم اللّغة، تتفق المعاجم كافة على إعطاء مصطلح “استعارة” التعريف التالي: استِعارة، مصدر استعارَ: “استعمال كلمة بدل أخرى لعلاقة المشابهة مع قرينة تدلُّ على هذا الاستعمال، كاستعمال “أُسُود بدلًا من جنود في قولنا: عبَر أسودنا القناة”. وللاستعارة اللغوية ثلاثة أركان: المستعار منه، وهي الكلمة المستخدمة في الاستعارة (مثلًا: كلمة أسُود في المثال السابق)؛ والمستعار له، وهي الكلمة المقصودة من الاستعارة (في المثال السابق: الجنود)؛ والمستعار، وهي الدلالة أو الصفة المنقولة بين المستعار منه والمستعار له (في المثال السابق: الشجاعة أو القوة). وتختلف الاستعارة عن التشبيه في عدم ذكر المستعار له في الجملة. مثلًا، لو صغنا الجملة السابقة: “عبر جنودنا الأسود القناة”، لأصبحت تشبيهًا وليست استعارةً.

جورج لاكوف.

بوجه عام، الجميع قادرٌ على تحديد الأداء غير الحرفي للبيان وتفسير المعنى المجازي ذي الصلة. وأثارت هذه القدرة على التعبير من جهة، والفهم من جهة مقابلة من خلال الاستعارات، اهتمام الفلاسفة منذ فترة طويلة. فبينما أكّد البعض، مثل أرسطو في “الشعر والبلاغة” أو بول ريكور في كتابه “الاستعارة الحية” (1975م)، قوتها الجمالية والجدلية والإبداعية والإرشادية، أدان آخرون افتقارها إلى الدقة وعدم توافقها مع الخطاب العلمي، كحال جون لوك في كتاب “مقال عن الفهم البشري” (1960م)، والمنظّر لتاريخ العلم وتحليل أشكال الخيال، غاستون باشلار في كتابه “تكوين العقل العلمي” (1938م). وقد ورث علماء اللغة كلتا الرؤيتين في القرن العشرين.

أمَّا فيما يتعلق بالاستعارة عند اللغويين والفلاسفة العرب، فإن الجاحظ هو أوّل من عرّف الاستعارة في العالم العربي في كتابه “البيان والتبيين” على أنها “تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه”؛ أي لوجود علاقة أو صلة بين الشيئين. ويعتمد “المقام” بشكل أساس على ثقافة المتلقي التي لا يكتمل معنى الاستعارة من دونها. فعناصر الاستعارة لا تكمل المعنى من دون قدرة المتلقي على الربط بين ركني الاستعارة. فالاستعارة عند الجاحظ أسلوبية بلاغية يقيم فيها الذهن علاقة بين المستعار له والمستعار منه لإكمال المعنى الفرعي للكلمة المستخدمة في الاستعارة، مع وجود إطار مرجعي كي يدرك المتلقي الحقيقة من المجاز. فكما يقول في كتابه “الحيوان”: “للأمر حكمان: حكمٌ ظاهرٌ للحواس وحكمٌ باطنٌ للعقول”، ويرتبط الحكم الباطن بتصوّرات المجتمع ويعبّر ربط المتلقي ذهنيًّا بين ركني الاستعارة عن عقليّته وعن حضارته.

أمَّا عبدالقاهر الجرجاني، فهو أوّل من تكلّم عن وظيفة الاستعارة في المُحاجة، بمعنى أنها آلية لغوية تهدف إلى إقناع المتلقي والتأثير في معتقداته وسلوكه. كما تأخذ بعين الاعتبار المعرفة والنواحي النفسية المشتركة مجتمعيًّا والغرض التواصلي من الخطاب. فالاستعارة قادرة على إنشاء صور وخيالات داخل سياقٍ معيّن. وهذا المفهوم الذي ذكره الجرجـاني للاستعارة وربطها بسياق مجتمعي معيّن نراه اليوم في التحليل الحديث للخطاب؛ إذ إن البُعد التداولي للخطاب يكمن في شعور المتلقي بإسهامه في إنشائه بحيث يبقى معه في فكره. ويقول الجرجاني في كتابه “دلائل الإعجاز” ما معناه أنه كلّما كان وجه الشبه بين طرفي الاستعارة خارجًا عن المألوف، كان الإتيان بالكلمة المستعارة أفضل: “واعلم أن من شأن الاستعارة أنك كلّما زدت إرادتك التشبيه إخفاءً ازدادت الاستعارة حسنًا، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام أُلِّف تأليفًا إن أردت أن تفصح فيه بالتشبيه خرجت إلى شيء تعافه النفس، ويلفظه السمع…”. فللاستعارة عند الجرجاني وظيفة فكرية ونفسية تربط العقل بالإحساس.

ويتضّح مما سبق أن الاستعارة، بوصفها آلية بلاغية، ليست مجرد صور كلامية، بل أداة معرفية. فهي بنية تساعد في هيكلة الفكر، وتشكّل فهمنا للعالم من خلال ربط المفاهيم المجرّدة بالصور الملموسة.

من الصعب الجزم أن اللغة باستطاعتها أن تكون معبّرة بمعانيها المعجمية المحدّدة ذهنيًا بحسب الجذور الدلالية الأولى فقط. فالاستعارات متمّمٌ معجمي يُثري المفردات من خلال إنشاء روابط معنوية بين الكلمات، وهو ما يتيح التعبير عن الأفكار المعقّدة بإيجاز ويعطي معنًى شائعًا في أغلب الأحيان. على سبيل المثال، يشير تعبير “بحر من المعرفة” إلى النطاق الواسع لما يمكننا تعلّمه.

والاستعارات وسيلة تدعو إلى استكشاف وجه الشبه، بمعنى الانحياز القاطع لإعطاء معنى لكلمات أو تعابير مركّبة غير عادية. وعندما يُنظَر إلى الاستعارة على أنها دعوة لاستكشاف تشبيه ما، فإنها تصبح وسيطًا تواصليًّا أساسًا.

إن الاستعارات اللغوية ليست مجرد زخرفات، بل هي آليات تعبيرية تؤثّر في التفكير البشري وتكشف عن القوة الخفية التي تتمتع بها اللغة التصويرية. وكما ذكرنا سابقًا، فإن الفلاسفة قديمًا، مثل جون لوك وغاستون باشلار، لم يتقبّلوا الاستعارة ورأوا أنها مجرّد استخدام غير لائق وعديم الدقة، واعتبروها أحد أساليب الخداع اللغوي الذي يمارسه المشعوذون وبائعو المعجزات وبعض الشعراء.

فمثلًا، يرى جون لوك أن اللغة المجازية زخرفة بريئة في أحسن الأحوال، وانحراف واعٍ وربَّما خطير في أسوأ الأحوال. كما اعتبر أن الاستعارات تمنع التفكير الواضح. وبوجه عام، أخذ قليلٌ من المفكرين القدماء الاستعارة على مَحمل الجِّد. فقد كانت بالنسبة إليهم ضمن عمل الشعراء.

حاليًّا، لم تعد اللغة التصويرية حكرًا على الشعر والأدب، بل أصبحت شائعة في كل المجالات من البرامج المتلفزة وصولًا إلى الطب والاقتصاد والسياسة، التي تُعدُّ مجالات اجتماعية تثقيفية قد يميل المرء إلى الاعتقاد بأنها تعطي أهمية للدقة اللغوية. على سبيل المثال، تُعدُّ عبارة “الدولار يتعافى” استعارة إيجابية تشير إلى أنه بدأ يتصاعد، بينما يُشير القول إن الدولار على الـ”يويو” (yoyo) إلى أنه يتأرجح صعودًا ونزولًا. تؤثّر هذه الاستعارات في عمليات البيع والشراء في العالم؛ لأنها تسهّل فهم العالم التجاري. وقد تكون بعض العبارات سلبية وتسبّب إزعاجًا فنستعيض عنها باستعارات كما هو الحال في مجال الطب. ففي بريطانيا مثلًا، أزيلت كلمة “مكافحة” من جميع المنشورات الإعلامية الخاصة بالسرطان، فلم يعد السرطان صراعًا، بل “رحلة”.

انطلاقًا مما تقدم، يُطرح السؤال: ما السبب في تفضيل اللغة التصويرية أو المجازية بدلًا من قول الأمور كما هي بشكل مباشر؟

كان التساؤل مادة لبحوث جدّية بدأت في نهاية القرن الماضي من قبل باحثين غير لغويين. ويعود السبب في ذلك إلى تغيّر هيكلية الخطابات السياسية، وبالأخص الدولية منها منذ منتصف القرن الماضي، حيث بات الهدف منها محاولة إيصال الأفكار لجميع شرائح المجتمع باستخدام مفردات تكون بمجملها قريبة من فهم الناس ومن عقليتهم. ولإعطاء انطباع جيد أو سيئ عن ظاهرة معينة يصعب في بعض الأوقات التعبير عنها بشكل صريح ومباشر. مثلًا، القول إن “الشيوعية سرطان” تسهّل على السياسيين إقناع الآخرين بما يخيفهم، فتُستخدم بذلك الاستعارات بشكل واضح بوصفها أدوات سياسية.

مارك جونسون.

الاستعارات حاليًّا أهم بأضعاف من مجرد “إكسسوار” بسيط للغة، وهذا ما يبينه كتاب “الاستعارات التي نحيا بها” من تأليف جورج لاكوف ومارك جونسون، الذي يظهِر أننا ننقل باستمرار دلالات إيجابية أو سلبية لغويًا. و”إن الاستعارات تشكّل تصوراتنا وسلوكنا من دون أن ندرك ذلك”. ووفقًا لهما، فإن الاستعارة ليست مجرد أسلوب كلامي، بل طريقة عادية جدًا للتحدّث من خلال الصور، وأحيانًا من دون إدراك ذلك. ولهذا السبب تكثر الاستعارات في خطابنا اليومي، وهي مجازية بطبيعتها. وربَّما يرجع ذلك إلى أننا نفكّر بالصور، لأننا لا نستطيع أن نفهم الأفكار المجرّدة أو المعقّدة التي نشير إليها بشكل واضح من دون استعارة. فالاستعارات أشكال كلامية تُلبس الأفكار ثوبًا جميلًا. ليس هذا فحسب، بل إنها تؤدي أيضًا دورًا أساسًا في آليات التفكير من خلال الكشف عن الهياكل الخفية بين الظواهر. فالقول إن منصة تواصل اجتماعي مثلًا “وحش مفترس” يدمّر المجتمع، يعطي رؤية عن دورها السلبي في التنمية التربوية. ووفقًا لأطروحة اللغوي جورج لاكوف، تؤدي الاستعارات دورًا كبيرًا في اللغة اليومية وفي التعليم وفي العلوم. وكذلك في الحياة السياسية حيث تشارك في تطوير الأيديولوجيات.

 إضافة إلى وظائفها الجمالية المتمثّلة في التوضيح أو الحفظ، تحمل الاستعارات دائمًا معنيين: معنى حرفيًا أو معرفيًا، ومعنى ضمنيًا أو وجدانيًا.

وقد تناولت اللغويات المعرفية مسألة الصورة في التلاعب بسلوكيات الأفراد. فالاستعارة باعتبارها بنية فكرية تسمح للدماغ بفهم الظواهر المعقدة وتمكّنه عند استخدامها بشكل جيد من ترجيح كفة الميزان إلى جانب أو إلى آخر، من وجهة نظر أيديولوجية.

ففي كثير من الخطابات يستخدم المخاطِب مفردات تعبّر عن ظواهر مخيفة، وتصبح بذلك الاستعارة سلاحًا للتنميط لنقل إطار أيديولوجي معين، وتوجيه تفكير المتلقي في اتجاهٍ دقيق جدًا.

تتمتع الاستعارات بالقدرة على تقديم ما يعتقد المتلقي أنه موجود، أو يعتقد أنه يجب أن يوجد. وبالطريقة نفسها، يستطيع السياسي أن يزرع الصور والمعتقدات في رؤوس الناخبين. فكلمة “تسونامي” مثلًا، تثير الرعب عند الكثيرين لأن التسونامي يسبّب كارثة، ولهذا يُستخدم في الخطابات السياسية الغربية للتعبير عن أن المهاجرين يشكّلون تهديدًا كبيرًا. وهذا النوع من الاستعارات يستحضر المعنى الحرفي بوضوح لأنه يثير الرعب عند المستمع.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “قوة اللغة التصويرية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *