مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس 2023

رأي ثقافي

الفوز الناقص


د. معجب العدواني

ألحّ عليّ بعض الأصدقاء، قبل سنوات خلت، على التصويت برسائل الهاتف لشاعر ينتمي إلى قبيلة ما، بحجة دعمه ومساندته، والترويج لإبداعه، وتقديمه للساحة الثقافية. لم أصدق ما ادّعوه، وبقيت جاهلًا بذلك الترجيح الإلكتروني، أو متجاهلًا له، لكن الشاعر فاز، وحصل على الجائزة المالية، وابتهج أولئك الأصدقاء، وكان خبر فوزه آخر ما سمعنا عنه، فلم يكتب بعد ذلك حرفًا واحدًا، أو لعلنا نقول من باب حسن الظن: لم نقرأ له سطرًا واحدًا، لكن السنوات مرت، ولم يظهر ولم يتلألأ نجمه، وكأن ثقل الجائزة قد أثقل ساقيه عن السباق الشعري اللاهث، وأوقف عقله عن التفكير في الشعر، فاختار ركنًا منزويًا لممارسة الفرجة والمتعة، بوصفه المتفرج الوحيد الذي لديه خبرة اصطياد الجوائز المرفقة بالدعم الخارجي.

وفي أحد الأيام التقيت صديقي المشجع الذي كان أحد مريديه، وسألته عن صاحبه، فأجاب: إنه فوجئ بتوقفه الغريب بعد فوزه، وأنه لم يستحق الدعم ولا الفوز. هنا أردت أن أشرح لصديقي ما الذي حدث نتيجة دعمه الصغير، إن سمح لي بذلك. فهز رأسه إيجابًا، وبدأت مرافعتي القصيرة.

إن هذا النشاط له ثلاثة أبعاد، أولها يخص الجائزة، لاسيما البرنامج المسؤول عن ذلك، وثانيها يخصنا نحن الجمهور والمتلقين، وثالثها يتصل بالشاعر نفسه أو الرسام أو الروائي…الخ.

البعد الأول: الجائزة نفسها التي تعد مما يميز الحركة الثقافية في العالم المتحضر، وتمنح تقديرًا لخبير أو تشجيعًا لشاب، وكلتا الجائزتين تقدم إلى أولئك الذين يقرُّ المجتمع ومؤسساته بتأثيرهم لا سيما الأول منهما، وبما أن الأدباء من أكثر المثقفين اتصالًا بمجتمعاتهم، وأكثرهم حرصًا على تعرية سلبيات تلك الدوائر، لإعادة إنتاجها وتجديد بنائها، لذا فإن تكريم ذلك الأديب أو المثقف من قبل مجتمعه المتمثل في مؤسساته المتنوعة يعدُّ نوعًا من العرفان والتقدير، ولكنه من جانب آخر يفرض على المثقف مواصلة الجهد والبذل لذلك المجتمع، وهذا النوع من الجوائز تعبير حضاري عن قيمة ثقافية ما.

أما المشكلة فتتمثل في تلك الجائزة التي تتعدد فيها طرق تحديد الفائزين، وتجتاز الطرق المعروفة إلى أدوات مساندة، لا علاقة للثقافة بها، إذ تقوم هذه البرامج لأهداف إعلامية غالبًا، ثم يليها هدف مادي جليّ يتوسل دعم الجمهور وتصويتهم، حتى يتمكن الجمهور من دفع نفقات الجوائز والمحكمين وتكلفة الحضور أيضًا، ومن ثم يأتي هدفُها الأدبي متأخرًا، ويكون دور التحكيم فيها شرفيًا غير رئيس. ومع أن المستهدف من تلك الآلية تحديد الفائزين إلا أنها تسودها ضبابية لا سبيل لها إلا بالاستناد إلى جهة أخرى، هي رأي الجمهور الذي عليه أن يزيح تلك الضبابية، حيث تتجلى بوصفها المرجعية الوحيدة.

ومن أدوار البرنامج سننتقل إلى دور الجمهور نفسه، الذي لن يكون دقيقًا كما نتخيله، ولن يكون صائبًا كما نفترضه، فهو تعبير واضح شفاف عن أولئك الذين يطرقون أرقام المنافسة، ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بها، فقد يكون هناك اثنان أو ثلاثة من الذين يكررون أصواتهم مئات المرات أو أكثر، غير مبالين بالتكلفة الباهظة لذلك، من أجل الوصول إلى غايات تغلب عليها العصبية والاعتداد بالذات، وعلى ذلك فإن هذا الجمهور مقتطع بقوة من بين فئات الجماهير الأخرى، فهم من فئة قد لا يبدو عليها النضج الكافي لتميز الأديب، أو تجيب عن الأسئلة الآتية: من المثقف؟ أو من الشاعر؟ أو من القاص؟

فإن اتصل السباق بطلب الحكم على تحديد الفائز وفقًا للاسم، فإن ذلك سيكون مدعاة إلى اختيار الاسم بصيغته، التي تبدو عائلية أو قبلية، أو ما أشبه ذلك، من أجل ترويجه، وإن كانت المسابقة تستدعي حكمًا بالسباق على عمل محدد فلا أظن أن قارئًا غبيًا في هذا الكون سيوافق على إضاعة وقته في قراءة كتاب لاسم لم يسمع به من قبل، من أجل التصويت له، ومن ثم دفع تكلفة التصويت، وهنا أشك في وجود قارئ حقيقي تحت هذه المظلة، القراء الحقيقيون أكثر ذكاءً وأدق تنبؤًا من غيرهم.

إن تيسيرنا لفائز مصنوع بهذه الطريقة سيخلق منه إنسانًا مرتهنًا إلى الآخرين، ومتناسيًا إبداعه، يعلم أنه لن يفوز دون دعم الجمهور، وأخشى أن يكون التراخي والفشل رفيقيه، ولا غرابة أن نجد غيابًا كليًا لأولئك الذين فازوا واختفوا، وسيؤثر ذلك بصورة جلية على المتسابقين الآخرين الذين تأكدوا من جودة أعمالهم قياسًا بالعمل الذي اختاره، فالمبدع الحقيقي بينهم سيقع في حيص بيص، بين عدالة يرتجيها، وظلم أوقعه فيه الجمهور، والمحكمون، والجائزة، وتأثير ذلك سيكون كبيرًا وسلبيًّا عليه.

سأختم بنموذجين تنبغي الإشارة إليهما لمثقفين اثنين من الجيل الأول، أحدهما شاعر والآخر ناقد، وبما أن أحدهما قد رحل فلن أذكر اسميهما، ولكن سأتطرق إلى ما فعلاه من صنيع ثقافي متميز، حينما فاز الأول بجائزة، وطلب من لجنة الجائزة أن يعطوا المكافأة المالية لأسرة شاعر آخر دعمًا لهم، أما الآخر فقد طُلِب منه أن يوافق على ترشيح اسمه لجائزة كبيرة فأصرّ على الرفض، لذا ينبغي أن نزرع في نفوس مثقفينا الشباب أن الفوز بجوائز أو نيل تكريم ما ليس غاية، وأن الأهم منه أن يبادر إلى صوغ أهدافه ورسم أحلامه بعيدًا عن ذلك، ليتحقق لأهدافه صفاؤها، ولأحلامه نقاؤها، لأن الكتابة من أجل الفوز سيخلق منه مثقفًا ساعيًا إلى تحقيق تلك الأهداف.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “رأي ثقافي: الفوز الناقص”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *