مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2024

منال الضويان

الفن بوصفه أداة للتدوين

روان طلال

بعد سنوات من العمل وعشرات المعارض، سنحت الفرصة لمنال الضويان لتمثيل بلدها في “بينالي البندقية 2024” الذي تُعدُّ المشاركة فيه مفصلًا في مشوار الفنان، وتتويجًا لرحلة طويلة في لحظة معينة. لحظة منال الخاصة هذه، أتت بعد اثني عشر عامًا من الحلم. وهي ترى أن أهمية “بينالي البندقية” تنطوي على أنه قائم على تمثيل كل فنان لبلده، وهو ما يجمع بين التشريف بهذا التمثيل والمسؤولية أمامه، إلى جانب التحدي الكبير في بحث الفنان عن صوته الخاص، فما الفنان دون صوت يُميِّزه؟ وهو ما قدَّمته عبر عملها “نطقت الرمال.. فتحرك الصوت”.


لا تحكي منال الضويان عبر أعمالها قصتها وحسب، بل عشرات القصص من مجتمعها. أعمال مركبة ومتحركة لا تعرف السكون في زاوية واحدة، تتغير وتتطور بمرور الوقت، بداية من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، إلى أعمال مركبة في الصوت والنحت، وأخرى تأخذ المشاركة المجتمعية حيزًا كبيرًا منها. ومهما اختلفت هذه الأعمال وتنوَّعت، يبقى المتلقي قادرًا على اكتشاف نهجها وصوتها.

تأتي أعمال الضويان نتيجة بحث طويل سبقها، فأفكارها ليست لحظية. تضع أفكارها على الرف وتترك الوقت يأخذ مساره لتنضج. عندما تلقت الدعوة للمشاركة في بينالي البندقية، أفرغت رفها بحثًا عن أفكار قابلة للتطبيق وقادرة على أن تأخذها إلى حلمها. كانت إحدى هذه الأفكار من حقل “الشيبة” في الربع الخالي، حيث اكتشفت منال أن للرمال صوتًا لا يشبه صوتًا آخر، وذلك خلال مشاركتها في رحلة نظَّمتها أرامكو السعودية إلى هناك قبل بضع سنوات. فعندما كانت تدفع الرمال على الكثبان، كانت هذه الرمال تنهار مثل السيل مرفقة بصوت يُشبه الأنين. ومن الرف أخرجت فكرة الغناء الجمعي، التي تحوَّلت وتشكَّلت خلال ورش العمل التي حضرتها مع مجموعة من النساء والأطفال؛ لتسجيل أصواتهم وبكلمات من إبداعهم، فأتت فكرة الصوت والرمال.

انطلاقًا من رقصات الرجال التي بدأت كأحد طقوس التجهيز للحرب، مثل الدحَّة والعرضة، بحثت منال عن رقصات النساء المماثلة، فلم تجد لها تدوينًا. لكنها وجدتها بين الناس، وتروي: “أثناء بحثي هذا، دُعيت إلى حضور حفل زواج نسائي في العُلا، نظرًا للعلاقة الرائعة التي تجمعني بأهل المنطقة، وتفاجأت بنساء يرقصن الدحَّة! كانت هذه الرقصة بمنزلة إشارة ورسالة بأن هذه الرقصات موجودة أيضًا ولو لم تكن قد دُوِّنت سابقًا”.

بدأت الضويان بتشكيل عملها بواسطة مكبرات صوت دمجت فيها أصوات النساء مع أصوات الرمال؛ لتحاكي فكرة المردِّدين في الدحَّة. ولأن ثيمة البينالي لهذا العام هي “الغرباء في كل مكان”، ركَّزت منال على المرأة السعودية التي ترى أنها مهمشةً في لغة الغرب، ورمزت إليها بوردة الصحراء. هذه الوردة التي تتشكَّل تحت ظروف قاسية في المنطقة الشرقية من السعودية مسقط رأس الفنانة؛ إذ تبدأ في التكوُّن بعد انهمار مطر شديد ملحوقًا بموجة حر شديدة، فتتبلور وتتكوَّن.

محاكاةً للشاعر الذي يضبط إيقاع رقصة الدحَّة، هناك وردة الصحراء الأولى وسمتها بكلمات استُخدمت باستمرار لوصف المرأة السعودية في صحف العالم بمختلف لغاتها خلال الـسنوات الخمسين الماضية، لكنها حاولت طمس هذه الكلمات عبر الطبقات المتعددة، حتى تسلبها قوتها. وفي منتصف العمل تمامًا نجد وردة الصحراء الأخرى معلقة في الهواء، مزينة برسوم النساء المشاركات في ورش العمل.

أعطت منال المشاهد لعملها، تجربة كاملة لعيشها عبر الاستماع والمشاهدة، ثم التحرك في الركن وفق تركيبها للعمل، واستخدام جسمه حتى يصل إلى وردة الصحراء التي تحاكي واقع المرأة السعودية اليوم، في إشارة إلى أن الحقيقة لا تُنشر عبر الإعلام دائمًا، بل عليك أن تبحث عنها!

أعمال متكاملة ولافتة، بدءًا من العناوين الشاعرية التي تُسمِّي بها أعمالها: “نطقت الرمال.. فتحرك الصوت”، “يا ترى هل تراني؟”، “يسوقنا الحنين إلى البحر”، “لكن الرغبة تبقينا بعيدًا عن الشاطئ”، “حبهم مثل كل حب.. وموتهم مثل كل موت”، وغيرها الكثير.. وتُعيد الضويان هذا إلى شعورها بالمتعة في البحث بين الكلمات عن طيف شاعري يُجسِّد الفكرة ويسلم مفاتيحها الأولى للمتلقي. “لا أترجم عناوين أعمال، بل أتعامل مع كل لغة وفق معطياتها، في اللغة العربية نقرأ ما بين السطور، بينما تميل اللغة الإنجليزية إلى المباشرة”. ويمكن القول إن هذه الشاعرية في العناوين، هي إحدى سمات أعمالها التي لا تتنازل عنها.

لا تستكين بطبعها إلى خامة معينة، بل تعيد تشكيل كل ما قد تصل إليه يداها؛ لتخلق تباينًا في أعمالها تستخدمه لرواية القصص. وتقول: “لدي فضول كبير، أحب القراءة والبحث، والحديث إلى الناس، سافرت مرات عدة لأجل الحصول على قصة.. هذه الرحلة الطويلة ما قبل العمل الفني، تمثل جوهر المتعة بالنسبة إليَّ، ويأتي العمل بعدها”.

لأعمال الضويان طابع جمالي واضح، وقد تخبِّئ خلف هذا الجمال قصة فاجعة، أو تدوِّن مأساةً لم يُلتفت إليها، تجذب انتباهة المتلقي أولًا، ثم تجعله ينغمس في القصة والبحث عمَّا وراءها. ولأن المتلقي يصبح شريكًا في العمل بفهمه الخاص له، ترى منال أن العمل الفني الناجح هو ما تخرج منه بأسئلة، لا أجوبة.

تتميز أعمال منال بطابع محلي لا يمكن تجاوزه، تنطلق من مجتمعها بأعمال تشبهه. تمسكت بخطها، وقاومت الأصوات التي دعتها إلى تقديم أعمال بلغة بعيدة عن عالمها. فهي ترى أن أعمالها تشف عن تجربة إنسانية، فيها من الصدق الكثير، وهذا ما يجعل أي إنسان مهما كانت لغته، ومهما كانت خلفيته الثقافية، قادرًا على قراءتها، وأن تمسَّ فيه شيئًا ما.

وثَّقت منال عبر كثير من أعمالها قفزات مهمة في حياة المرأة السعودية، بوعي تام لتقاطعاتها وشكلها، واصفةً التجمعات النسائية باعتبارها مركز قوة لا ضعف؛ إذ وفرت لهن هذه التجمعات مساحات آمنة للتعبير عن رأيهن في كثير من أمور الحياة بعيدًا عن حضور الرجل. ولا تأتي أعمالها من خلف مظلوميات، بل من رغبة صارخة في التدوين.

في عملها “صدمة”، بحثت منال في الفراغ الذي لا تسدُّه الصحافة؛ إذ قدَّمت رصدًا لتعامل الصحف مع حوادث موت المعلمات، التي كانت تُنقل بوصفها أخبارًا عابرة لا وجود لأي أثر لهنَّ فيها، بل وكنَّ يُجرَّدن من أسمائهن أحيانًا! إذ يحكم عليهن بموت مزدوج: الموت وغياب الأثر. فكانت الفنانة تحاول حسب حديثها أن تنتصر لهن، لأسمائهن. وتعلق قائلة: “الفنان يملأ الفراغ ما بين الصحفي والمؤرخ، وله دور جوهري في هذا التدوين؛ دور الفنان مختلف لأنه يأتي محملًا بالمشاعر والأحاسيس”.

ولا تنحصر أعمال الضويان في تدوين معاصر لحياة المرأة، والمحطات المهمة في حياتها، بل تمتد كذلك إلى البيئة، والتاريخ والحضارات، والمجتمع السعودي بوصفه كتلة واحدة. ففي عملها “يا ترى هل تراني؟”، ناقشت ظاهرة اختفاء البحيرات والواحات في الصحراء، مشيرةً إلى تغيرات المناخ التي تواجه العالم اليوم، عبر ترامبولين موزعة في فجوات جبال في العُلا.

بفطرتها بدأت منال في الفن التشاركي، عبر التصوير أولًا، ثم إشراك المجتمع في بقية أعمالها. تستحضر عملها “في الهوا سوا” حين بدأت الفكرة بإيميل مرسل إلى 30 امرأة تطلب منهن مشاركتها بورقة إذن السفر، آنذاك، ليفاجئها لاحقًا وصول أكثر من 100 ورقة إليها، فأطلقت حماماتها التي تؤرخ لمرحلة مهمة في حياة المرأة السعودية. ثم في عملها “اسمي”، الذي ناقش ميل المجتمع في فترة ما إلى عدم ذكر اسم المرأة. ثم تطوَّر بعد ذلك شكل الإشراك المجتمعي عبر سلسلة من ورش العمل التي تسبق التنفيذ؛ لتكتشف لاحقًا أن هذا نوع من الفن يعرفه العالم. أمَّا هي، فوصلت إليه بالفطرة والتجربة.

وعن سرِّ رغبتها في التدوين، تقول: “المتاحف تعالج التاريخ بطريقة مختلفة، ومن متاحف العالم فهمنا أكثر عن تاريخ الحضارات المختلفة. ولهذا، على الفنان من وجهة نظري أن يكون صاحب مصداقية، ويتحدث بلسان مجتمعه. أحب أن أشتغل فيه، وأقدم أعمالًا تشبهه، هذا ما يقربني إلى الحق، ويجعلني جزءًا من حراك التدوين بالفن”.

ما قبل البدايات، كانت منال الطفلة تشارك في مسابقة الرسم للأطفال، وهي مسابقة كانت تنظمها أرامكو السعودية. لكنها، وعلى عكس إخوتها، لم تفز ولا مرة! ومع هذا لم تتوقف، لم تشعر بالفشل، فهي لم تكن تعي حقيقةً ما كانت تحاول عمله. استمر الأمر في الاكتشاف عبر متجر خالها الذي يعرض ويبيع أدوات فنية، وهي الطفلة بفضولها الكبير كانت تقضي ساعات طويلة، تشكّل الصلصال، وتعبث بالألوان، بلا وعي في لحظتها بأن هذا يشكِّل صورةً لفنانة مختلفة، لكنها تعي هذا الأثر الآن.

وبخوف الآباء على مستقبل أبنائهم، عارض والدها رغبتها في دراسة الفن، فانخرطت في دراسة علوم الحاسب في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، والتحقت بالعمل في أرامكو السعودية، لكنها لم تتخلَّ عن حلمها في دراسة الفن، فكانت تلتحق بأي فرصة لدراسة الفن مساءً في فترة الماجستير. والساعات المسروقة لدراسة الفن، التي كانت والدتها تدفع تكاليفها سرًا، هي ما كانت تزرع الطمأنينة في روح منال. فدرست فنون الطباعة، وأُقيم لها أول معرض فني في إسبانيا، ثم عادت إلى أرامكو وعملت ضمن فريق الفنون رئيسةً لقسم التصوير الفوتوغرافي، وتعرَّفت على الغرفة المظلمة وباتت تقضي أيام الإجازات الأسبوعية بالكامل فيها، تعالج صورها وتطبعها. هذه الصور عرضتها فيما بعد، وللمرة الأولى، في أرامكو. وتقول: “لأرامكو فضل لا أنساه عليّ، والقافلة أول مجلة نشرت لي أعمالي عام 2005م”.

والتقت منال الفنانةَ السعودية الراحلة منيرة موصلي في أروقة أرامكو، وكانت المرة الأولى التي تلتقي فيها امرأةً سعودية تعرّف بنفسها ويعرفها المجتمع أنها فنانة!

في عام 2009م، أتتها دعوة لإقامة فنية في لندن امتدت ستة أشهر، وبعد هذه الإقامة أتت لحظة الاستقالة من أرامكو، وتحوّل المسار في حياتها، حيث وهبت حياتها للفن قبل أن تلتحق بكلية الفنون في لندن عام 2016م.

وعن المحطات التي لا تنساها، تذكر الضويان أن أولاها كانت اقتناء متحفين في إيطاليا لبعض أعمالها، بعد عرضها لعملها الفوتوغرافي في دبي، واعترافها أمام نفسها بصفة الفنانة. وطبعًا هناك “بينالي البندقية”، وتحديدًا ما ينطوي عليه من دعم لا محدود، وثقة كبيرة من الحكومة والأشخاص الذين أسهموا في تشكيل العمل عبر انخراطهم في ورش العمل. وفي الحديث عن الأحلام الكبيرة، تقول: “حلمي أن يصبح لدينا متحف للفن المعاصر في بلدي، وأن أقدِّم فيه معرضًا فرديًا، يحضره أفراد المجتمع”.


مقالات ذات صلة

عماد الصياد يكتب عن الجدل الذي كثيرًا ما يُثار حول التحديد المكاني لبداية استئناس الخيول في العالم القديم، تعقيبًا على مقالة نُشرت في عددٍ سابق لمجلة القافلة.

إن تكـن ْ حكمةُ الأمورِ سرابًا .. فلنعمَ الحكيمُ ذاك السرابُ ..

أصبح “الأكل الأخلاقي” ظاهرة جديدة في العالم العربي، حيث تتباين معايير الطعام بين الذائقة الشخصية والصحة والتكلفة..


0 تعليقات على “منال الضويان.. الفن بوصفه أداة للتدوين”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *