خلافًا للموقف السلبي من الفكاهة الذي اتخذه معظم الفلاسفة، بدءًا من أفلاطون حتى فلاسفة القرن التاسع عشر، كشف علماء الأنثروبولوجيا اليوم عن أهميتها القصوى في تطوّر حياة الشعوب، وعدّوها مفتاحًا فريدًا لفهم الديناميات الاجتماعية والثقافية، وأنها تؤدي وظيفة معرفيَّة معقدة، رافقت تطوّر المجتمعات البشرية منذ بداياتها. ولاحقًا، أكدت أبحاث علم الأعصاب والدماغ تأصلها في التركيب البيولوجي للإنسان. ولربَّما كان هذا التعقيد الفريد الذي تنطوي عليه الفكاهة، من البيولوجيا إلى الثقافة والفنون، من أهم ما يميّزنا بوصفنا بشرًا في عصر الذكاء الاصطناعي.
انتاب الخوف والقلق أهل مدينة أبديرة في اليونان القديمة، إزاء مواطنهم الفيلسوف والعالم ديمقريطس (460 – 370 ق. م)، المُلقّب بـ “الفيلسوف الضاحك”؛ لأنه بات يضحك على كثير مما يفعلونه ويعتقدونه، من الجنازات إلى النجاح السياسي، واستنتجوا أنه قد أصبح مجنونًا. ووفقًا لـ “رسائل” أبقراط (460 – 377 ق. م)، المُلقّب بأبي الطب، فقد استُدعي ليعالجه. لكنه سرعان ما اكتشف أن ديمقريطس كان عاقلًا أكثر من مواطنيه؛ لأن للفكاهة، كما كان ديمقريطس يعتقد، تأثيرات اجتماعية تغييرية مهمة، حيث توفر منظورًا جديدًا، وتعمّق فهمنا للآخرين وللعالم، كما يكمن فيها سر الحياة السعيدة.
موقف الفلاسفة السلبي
ويبدو أن آراء أهل أبديرة في الضحك والفكاهة قد انسحبت على كبار فلاسفة ذلك العصر وما بعده. فقد كان أفلاطون، على سبيل المثال، يرى أن الكوميديا سيئة، بل وشريرة، وأن معظم الضحك يأتي على حساب شخص آخر. وأن الكوميديا في الحالة المثالية، يجب أن تخضع لرقابة صارمة: “سنأمر بترك مثل هذه التمثيلات للعبيد أو الأجانب المستأجَرين، وألا تحظى بأي اعتبار جدي على الإطلاق”. وتقول موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفية، إن هذه الاعتراضات على الضحك والفكاهة أثَّرت في المفكرين المسيحيين الأوائل، ومن خلالهم في معظم الفلسفة الغربية التي أخذت إشاراتها من أفلاطون والرواقيين فترة طويلة جدًا.
ونتيجة لذلك، كما تضيف الموسوعة المذكورة آنفًا، فإن أكثر ما كتبه كبار الفلاسفة مثل أفلاطون وهوبز وكانط وغيرهم عن الضحك أو الفكاهة، كان بضع فقرات ضمن مناقشة موضوع آخر. وفي هذا الصدد، يُعدُّ كتاب “الضحك” لهنري بيرجسون (1900م) أول كتاب لفيلسوف بارز عن الفكاهة.
علماء الأنثروبولوجيا يغيِّرون النظرة
انقلبت هذه الصورة رأسًا على عقب مع علماء الأنثروبولوجيا، الذين تمكّنوا من العيش مع الشعوب التي كانت لا تزال تعيش حياة بدائية شبيهة بالمرحلة التي سبقت عصر الزراعة قبل حوالي 10 آلاف سنة، في النصف الأول من القرن العشرين. واستنتجوا أن هؤلاء كانوا يستخدمون الفكاهة واللعب، بشكل أو بآخر، عمدًا لجعل نمط حياتهم القائم على المساواة الكاملة ممكنًا. وكانت أساليبهم في الحكم والمشاركة ومعتقداتهم وممارساتهم الدينية، تُمارس من خلال الفكاهة، وأطفالهم يعلمون أنفسهم من خلال اللعب والمرح.
ويقول عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي البريطاني كولين تورنبول (1924-1994م)، عن مجموعات الـ “مبوتي” التي عاش معها في الكونغو: “هم أناس طيبون ويتمتعون بروح الدعابة التي لا تقاوم؛ إنهم دائمًا يطلقون النكات بعضهم عن البعض، حتى عن أنفسهم. لكن الفكاهة لديهم يمكن أن تتحول في الوقت نفسه إلى أداة للعقاب عندما يختارون ذلك”؛ إذ إن المضايقة اللطيفة هي أحيانًا وسيلة للاعتراف بعيوب بعضهم للبعض وقبولها.
كما أشارت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية إليزابيث مارشال توماس، إلى أن أفراد شعب “الجو/ هوانسي” في ناميبيا لا ينتقدون الناس بشكل مباشر، لكنهم يفعلون ذلك من خلال الفكاهة. وكتبت: “لم يكن من المفترض أن يسيء الشخص المنتَقَد إلى من يُطلق النكات، ومن المؤكد أنه سيضحك مع الآخرين. في مناسبات نادرة جدًا ينهار فيها ضبط النفس، كما حدث مع امرأتين لم تتمكنا من التوقف عن الشجار، فما كان من أشخاص آخرين إلا أن ألَّفوا أغنية عنهما وغنوها عند بدء الخلاف. وعندما سمعت المرأتان الأغنية، شعرتا بالخجل وصمتتا. وهكذا انتصر المجتمع من دون ذكر المشكلة بشكل مباشر”.
للفكاهة أهمية في التركيب البيولوجي لدماغ الإنسان،وكيفية تطورها من أشكالها البدائية عند الحيوان إلى ارتباطها بمعظم أقسام الدماغ، وشمولها نشاطاته البيولوجية والاجتماعية والثقافية.
مواجهة الغرور
يعلّق ريتشارد لي، من جامعة تورنتو، على استخدام الصيادين وجامعي الثمار للفكاهة بوصفها أداة لقمع التعبيرات الناشئة عن التفوق الفردي الذي من الممكن أن يؤدي إلى الغرور: “هناك نوع من الفكاهة الخشنة والازدراء والإثارة والمزاح الجنسي الذي يصادفه المرء في جميع أنحاء عالم البحث عن الطعام… إنهم يشعرون بالغضب إذا حاول شخص ما أن يفتخر. لقد طوروا، بشكل مستقل على ما يبدو، وسائل فعالة جدًّا لوضع حد لها”.
فعلى سبيل المثال، عندما يجلب الصياد صيدًا كبيرًا، عليه أن يتصرف بتواضع. وإذا فشل في ذلك، فإن أفراد المجتمع، خاصة الجدات، سيُطلقن نكتة عن مدى نحافة الحيوان لكسر غرور الصياد. وكما أوضح أحد المقربين من “لي” من قبيلة جو/ هوان: “عندما يصطاد شاب كمية كبيرة من اللحوم، فإنه يفكر في نفسه على أنه رجل عظيم، ويعتقد أن الآخرين يشبهون طريدته ويُصبحون أدنى منه. لا يمكننا قبول هذا السلوك. فنحن نرفض هذا الغرور، لأنه قد يدفعه لقتل إنسان يومًا ما. لذلك، نقلّل دائمًا من قيمة صيده. وبهذه الطريقة نُحاول كبح غروره وجعله شخصًا لطيفًا”.
الفكاهة بين الإنسان والحيوان
وجاءت الأبحاث العلمية لتؤكد أهمية الفكاهة في التركيب البيولوجي لدماغ الإنسان، وكيفية تطورها من أشكالها البدائية عند الحيوان إلى ارتباطها بمعظم أقسام الدماغ عند الإنسان، وشمولها نشاطاته البيولوجية والاجتماعية والثقافية. لكن، لا بدَّ أولًا من توضيح بعض الحقائق المتعلقة بالدماغ.
إن الحجم الكبير والتنظيم المُعقد للدماغ البشري يجعله فريدًا بين أدمغة الثدييات الرئيسة. وعلى وجه الخصوص، تشكّل “القشرة المخية الحديثة” (neocortex) حوالي %80 من حجم الدماغ. وكما تشير البادئة neo، فإن هذا الجزء من الدماغ هو حديث التكوين في الثدييات، ويُعدُّ تطوُّرا رئيسًا أدَّى إلى زيادة الوظيفة الإدراكية لديها. ومع ذلك، تختلف القشرة المخية الحديثة بين أنواع مختلفة من الثدييات في الشكل والحجم وعدد الخلايا العصبية، خاصة عند مقارنتها بحجم القشرة عند الإنسان. وهي تنقسم عند الإنسان إلى عدد كبير من المناطق المتخصصة وظيفيًا، التي لا توجد عند بقية الثدييات الرئيسة، والتي هي وراء الإنجازات والقدرات العلمية والثقافية والفنية التي لا مثيل لها عند أي نوع آخر. لكن، ماذا عن الفكاهة من الناحية العلمية؟
الفكاهة سبقت اللغة
استنتجت دراسة كانت قد نشرت في مجلة “ساينس” (Science) في 1 أبريل 2005م، أن الفكاهة والضحك سبقا تطوّر اللغة عند الإنسان، وهو ما يشير إلى أنهما كانا موجودين قبل ذلك عند كثير من الحيوانات: “لقد سبق الضحك البشري القدرة على الكلام خلال تطور الدماغ. وفي الواقع، توجد الدوائر العصبية المسؤولة عن الضحك في مناطق قديمة جدًا من الدماغ. وكانت أشكال الضحك واللعب المتوارثة عن أسلافنا موجودة في خدع الحيوان قبل أن نطور، نحن البشر، القهقهة والتعبير اللفظي للضحك. إذ تُقدم الدراسات الحديثة، التي أجريت على الجرذان والكلاب والشمبانزي، دليلًا على أن الضحك والفرح ربَّما لا يكونان من السمات البشرية الفريدة. والدليل على ذلك هو أن القدرة على الضحك تظهر في مرحلة مبكرة من نمو الطفل في الأشهر الأولى بعد ولادته، وينطبق هذا أيضًا على تطور دماغ الثدييات وعقلها أيضًا”.
للفكاهة أهمية في التركيب البيولوجي لدماغ الإنسان،وكيفية تطورها من أشكالها البدائية عند الحيوان إلى ارتباطها بمعظم أقسام الدماغ، وشمولها نشاطاته البيولوجية والاجتماعية والثقافية.
والفكاهة، بحسب الموسوعة البريطانية، هي التواصل الذي ينتج منه تحفيز التسلية وإثارة الضحك. وبهذا المعنى العلمي، تنطوي الفكاهة على مستويات عديدة، من أشكالها البدائية كالدغدغة والدعابة والإغاظة التي يمارسها البشر وبعض الحيوانات منذ ملايين السنين، إلى الأشكال المتطورة كالأعمال الكوميدية الكبيرة التي تُقدَّم على المسرح، والتي يقوم بها بعض البشر فقط ولا تقوم بها الحيوانات، والتي لم تظهر قبل تطور المدن وحضارتها قبل 2500 سنة.
وظائف متداخلة
بالإضافة إلى ذلك، كما جاء في مقالة نُشرت في مجلة علمية (Evolutionary Psychology) في ديسمبر 2006م، فإن الفكاهة معقّدة، بل معقّدة جدًا بحيث لا يمكن فهمها من دون فهم مجموعة من المسارات العصبية المحددة، ونموذج معرفي مرتبط بها. فهي تعتمد على صياغة لفظية دقيقة، جنبًا إلى جنب مع تقدير كامل للديناميات الاجتماعية السائدة. وما يزيد من تعقيد الفكاهة عند الإنسان، كما تقول عالمة النفس شايلا كينسون في كتابها “علم الأعصاب الإدراكي للفكاهة” (2020م): “تشير الدراسات إلى أن فهم الفكاهة يشمل مناطق عديدة في جميع أنحاء الدماغ، ويؤدي إلى تغييرات فسيولوجية في الدماغ والجسم”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ظهرت لاحقًا عدة نظريات حول الفكاهة التي يُمكن الاطلاع عليها في مقالة كتبها عبدالله الهاشمي في “القافلة”، عنوانها: “النكتة.. أصلها وحقيقتها”، (2008م).
الفكاهة في العصر الرقمي
أحدثَ العصر الرقمي ثورة في الطريقة التي ننشئ بها محتوى الفكاهة ونستهلكها. فمع انتشار منصات التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان أي شخص أن يُصبح فنانًا كوميديًا يُشارك العالم إبداعاته المضحكة. من مقاطع الفيديو واسعة الانتشار والمصحوبة بتعليقات توضيحية بارعة، إلى المقالات الإخبارية الساخرة، والتغريدات الذكية، والنكات على أنواعها، تغلغلت الفكاهة في كل ركن من أركان الإنترنت؛ لتصبح لغة عالمية تتجاوز الحدود، وتعبر الثقافات، وتجمع الناس معًا من كل الأطياف.
كما أصبحت الميمات، على وجه الخصوص، لغة خاصة بها مع نكات وإيحاءات داخلية تخلق بيئة عالمية جديدة. وبسبب طبيعتها الفيروسية، باتت تنتشر كالنار في الهشيم، وتُولّد الملايين من المشاركات والتعليقات المعجبة في غضون ساعات. وأصبحت ظاهرة ثقافية جديدة تتمتع بالقدرة على تجاوز الحواجز اللغوية، والاختلافات الثقافية السابقة، وحتى الفجوات بين الأجيال. هذا الخليط الواسع من التجارب المشتركة والتطورات العالمية المستجدة والتعليق عليها، يُتيح للناس من جميع أنحاء العالم التواصل والضحك معًا.
وغالبًا ما تكون الفكاهة الموجودة على الإنترنت انعكاسًا للوعي الجماعي لجيل كامل. إنها تجسّد روح العصر، وتسلّط الضوء على قضايا المجتمع المعاصر واتجاهاته. كما أصبحت القدرة على تقدير هذا النوع من الفكاهة والمشاركة فيه، علامة على الانتماء إلى مجتمعات الإنترنت.
الفكاهة هي ما يميِّزنا كبشر
ويثير الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في كافة مجالات الحياة، تساؤلات حيوية حول الميزة النسبية، إن وجدت، التي سيتمتع بها البشر على الآلات في المستقبل. وهناك العديد من الدراسات حول هذا الموضوع لأهميته.
ونظرًا لأن خوارزميات التعلُّم الآلي تفتقر إلى القدرة على فهم السياق أو الفروق الدقيقة فيه، فلن يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بمهام تتطلب التقمص العاطفي، أو القدرة على أن يضع الشخص نفسه محل شخص آخر، كالتمثيل السينمائي على سبيل المثال. وتدعم هذه الفكرة دراسة نُشرت في مجلة علمية (Nature human behaviour) في 20 يوليو 2023م، عنوانها: “الذكاء الاصطناعي لن يستطيع أبدًا أن يصل إلى جوهر التقمص العاطفي الإنساني”. ولمَّا كانت الفكاهة وكافة أشكالها تعتمد على التقمص العاطفي بكل أنواعه:
الفردي والجماعي وتقمص روح العصر، فستبقى من أهم الجوانب التي ستميِّزنا بوصفنا بشرًا في عصر الذكاء الاصطناعي.
اترك تعليقاً