كتب توماس وولف ذات يوم عبارته الشهيرة: “لا يمكنك العودة إلى الوطن مرة أخرى”؛ لكن ذلك هو بالتحديد ما يحاول الكتاب عمله منذ قرون. فلطالما كان توق الإنسان للعودة إلى الوطن الفكرة الرئيسة لعدد لا يُحصى من الأعمال الأدبية والموسيقية واللوحات الفنية والأفلام، وجميع الأشكال الفنية الأخرى تقريبًا. وقد تكرّر كثيرًا إعادة تعريف مفهوم الوطن على مر العصور بصفته مصدرًا ثابتًا للاستكشاف والإبداع الفني، وتراوحت أبعاد تعريفاته بين التعريف الجغرافي الخالص إلى الوجودية المتطرفة وكل ما بين هذا وذاك.
تود ويليامز
من أهم الأعمال الأدبية العريقة المكتوبة هي “to” التي تتمحور حول رحلة بطل الرواية إلى الوطن بعد سقوط “طروادة”. وتقتفي هذه القصيدة الملحمية آثار “أوديسيوس” من خلال سلسلة من المغامرات والصراعات المذهلة على مدى عقد من الزمان يتطَّلع خلاله البطل اليوناني إلى العودة إلى وطنه وعائلته في “إيثاكا” واستعادة مكانته ملكًا عليها. وربما تكون هذه القصة الأكثر عراقة بين جميع قصص العودة إلى الوطن.
تحيط البلايا والمحن بالوطن؛ ويهبّ البطل ليدافع عن أسرته وبلاده أي الوطن، فينتصر بإظهار شخصية مثالية ومهارات رائعة، ليعود بالتالي إلى الوطن للم شمله مع أولئك الذين أحبهم.
الأوديسة، أو القصص التي تنحو منحاها، تعزف على الوتر نفسه الذي يعزف عليه المنادون بالتعبئة العسكرية والسياسيون والوطنيون على مر القرون من اليونان القديمة إلى العصر الحديث، فتؤجج مشاعر الخوف من الأعداء عديمي الرحمة المحتشدين على أبواب المدينة، وفي الوقت نفسه توقد مشاعر الفخر بأبناء الوطن من المتصدين لحماية كل ما هو عزيز ونبيل لديهم.
في الحرب.. في أغانيها
هذه الأفكار غالبًا ما كانت تجد طريقها إلى الجنود مباشرة؛ لا سيما أن الأدب لم يكن يحتضن كثيرًا أفكار الخوف من الموت والرغبة في العودة إلى العائلة في الديار إلا في أشكاله الأدبية الأوسع انتشارًا مثل الأغاني. فكانت أغاني المحاربين موجودة طالما كان هناك محاربون، وكانت فكرة العودة إلى الوطن فكرة حاضرة باستمرار في عدد كبير جدًا من تلك الأغاني.
ولا يهم المعسكر الذي تنتسب إليه؛ فأثناء الحرب الأهلية الأمريكية، كانت فرق الموسيقى العسكرية تعزف في نهاية كل يوم عادة، حيث تقوم بأداء حفلات موسيقية مرتجلة لرفع الروح المعنوية المتحطمة للقوات الملطخة بالدماء وآثار الضراب. وعندما كان الجانبان يخيمان بالقرب من بعضهما البعض، كانت الفرق الموسيقية تحاول أحيانًا حجب صوت الطرف الآخر، أو يتناوب الطرفان في العزف ليحاول أحدهما التفوق في الأداء على الطرف الآخر وكأنها معركة موسيقية.
وذات مرة في أواخر عام 1862م، حدثت مثل هذه المساجلة بين جيش الكونفدرالية وجيش الاتحاد. في البداية بدأت الفرقة الكونفدرالية في عزف الأغنية الأكثر شعبية بين الجنود “الوطن، الوطن الجميل”) هوم سويت هوم). لم يستغرق الأمر وقتًا على الإطلاق حتى بدأت فرقة جيش الاتحاد في عزف اللحن الخالد، تلك النغمة التكرارية التي كانت تصاحب استعراض الأطفال الموسيقي “ساحر بلاد أوزي” قبل بدايته: “لا مكان يضاهي الوطن!”.
وسرعان ما بدأ الجيشان على كلا الجانبين يرددان الأنغام، حتى صار الجميع يعزف ويغني تلك الأغنية الرائعة. وبدأ الجنود المتحمسون في الهتاف والصراخ في نوبة من الجنون، إذ كان تأثير الأغنية مُحبّبًا وراسخًا.
طوال ذلك الصراع المرير، كانت تحدث أحداث مماثلة وتحقق التجاوب نفسه في كل مرة إلى حد كبير. وحتى عندما حاولت القيادة حظر الأغنية خوفًا من أن تجعل الجنود يتحرقون شوقًا للوطن، باءت المحاولات بالفشل؛ لأن الارتباط بهذا الشعور وأثره عليهم جعلهم على استعداد لتحمل أهوال المعركة والموت المحتمل لحماية هذا الارتباط بالعودة للوطن.
إيابٌ مستحيل إلى وطن أمس
من الأكيد أن هناك رابطة فطرية تربط الشخص بوطنه، بغض النظر عن اختلاف تعريفها، ولقد عكست الأعمال الفنية ذلك منذ نشأتها وحتى اليوم.
لكن القرن العشرين أدخل بعض التعديلات الجديدة على هذه الفكرة الشائعة. فعلى سبيل المثال، كانت الحرب في عصر ما بعد الثورة الصناعية مختلفة اختلافًا كبيرًا عن سابقاتها. فقد أدى وفود الآلة والخسائر البشرية التي أعقبت الحرب إلى ما يُسمى بمعضلة “وولف”: مهما كان المرء يتوق للعودة للوطن، فإن الوطن الذي سيعود إليه لن يكون هو ذاته؛ لأن المرء لن يكون هو ذاته أساسًا.
باختصار، إنه القول المأثور القديم الذي يقول: “لا يمكنك عبور النهر نفسه إلا مرة واحدة”. فبمجرد أن تخوض الماء لا يتغير النهر فقط بتحرك مياهه المتدفقة في اتجاه المصب وتحولها من حولك في اتجاهات مختلفة، بل إنك أنت تتغير كذلك. وتجربتك وسط النهر تؤثر على كل شيء حوله.
وفي الفصلين الأخيرين من هذه الرواية، عن “تطهير المقاطعة”، يتأمل الكاتب جون رونالد رويل تولكين بنظرة عميقة كيف أن ضحايا معركة إنقاذ الأرض الوسطى كانوا أكثر من المحاربين، وكيف أن ملامح الوطن الذي كانوا يتوقون إليه جميعًا قد تغيرت للأبد أيضًا. لم يكن الأمر مرضيًا للعديد من القراء، لكنه كان يتحدث عن استحالة العودة الفعلية إلى الوطن، لأنهم هم والوطن قد تغير كلاهما تغيرًا جذريًا.
بعد الحرب العالمية الأولى، واجه العديد من الجنود الذين عانوا من صدمة القصف، أو ما يُعرف اليوم باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، صعوبة كبيرة في التأقلم مع الحياة في الوطن الذي لطالما سعوا بشدة للعودة إليه. وهذا ما نجد صداه يتردد في رواية “وولف”، وفي روايات أخرى تتصل بفترة “ما بين الحربين”، بعضها كتبها كتاب أمريكيون مغتربون جسّدوا إحساسهم بالتهجير والحنين للوطن.
لكن رواية الروائي سومرست موم “حد الموس” تُبرز التضارب بين المفهوم التقليدي للوطن وانتشار طبقة “متسكعة” من الناس. يروي الكاتب قصة المحارب المخضرم “لاري داريل”، الذي تعرض لصدمة القصف في الحرب العالمية الأولى، فرفض العودة إلى أمريكا، منطلقًا بدلًا من ذلك في رحلة شخصية بحثًا عن هدف أسمى من العودة. وبهذا يرفض داريل فرصة العودة إلى الوطن واحتضان الحياة المادية والمكانة الاجتماعية، التي كانت عنوانًا لتعريف مفهوم الوطن قبل مغادرته للحرب.
أوطانٌ متنقِّلة ونرجسيّة
بينما أدت خيبات الحرب العالمية الأولى والتعاسة التي خلفتها إلى شيء من التغير المحدود في تناول موضوع الوطن، فإن الحرب العالمية الثانية والجيل التالي من الكتاب أخذوا الأمر إلى مستوى جديد تمامًا.
فقد جلبت حركة “جيل وقع الموسيقى” حسًا جديدًا تمامًا للأدب والشعر وطريقة الحياة. وكان في طليعة هؤلاء جاك كيروك، الذي تبنت روايته “على الطريق” روح هذه الحركة، التي تواجه من خلالها القيمة التقليدية للوطن تحديًا كبيرًا؛ بل إن عنوانها نفسه يشير إلى مسارات بعيدة عن فكرة الوطن.
رواية كيروك الأكثر شعبية “على الطريق”، هي قصة من أدب الرحلات تكاد تستتر بثوب الرواية، وهي مليئة بعدد من الشخصيات غير العادية بقدر ما يمكن تخيله، لكنها شخصيات مستوحاة من أشخاص حقيقيين. والوطن في عينه، وكما نلمح من العنوان، لا يتعلق بالعائلة والفرد بقدر ما يتعلق بالمغامرة.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ كل شيء يتغير بسرعة. تلاشت المفاهيم القياسية التي صمدت رغم المحن والصعوبات، ومن ضمنها مفهوم الوطن الذي كان يعني الأسرة والبلد. أصبحت العائلات متنقلة؛ وبينما كان يُتوقع في يوم من الأيام أن تسير عائلة الرجل على خطاه، وتنتهج عمله نفسه الذي توارثه جيلًا بعد جيل، سعى هذا الجيل الجديد إلى التحرر من هذا القيد.
ظهر وضع جديد بالكلية في سنوات ما بعد الحرب مع ظهور مصطلح “المراهق” ففي تحدٍ صارخ، رفض جيل منتصف القرن العشرين في الغرب، المُسمى بجيل “طفرة المواليد” التعريف المباشر لمفهوم الوطن بصفته شيئًا يتوق إليه المرء. لقد قاوموا التقاليد الراسخة والرغبة في البقاء في الوطن أو العودة إليه.
وفي حين كان الوطن مرتبطًا بطبيعته ارتباطًا جوهريًا بالعائلة والمنزل، التزم هذا الجيل الجديد بتعريف أكثر شمولية مع تركيز قوي على الفرد. وبشكل مباشر، يصرّح نجم البوب بيلي جويل في أغنيته “أنت وطني” أن المكان ليس بذي أهمية تذكر:
“عندما تنظرين في مقلتيّ،
وترين في روحي ذلك الغجري المجنون،
دائمًا ما تبدو مفاجأة،
عندما أشعر أن جذوري الذابلة بدأت تترعرع
… وقتها لن أكون غريبًا أبدًا، ولن أكون وحيدًا أبدًا
فعندما نكون معًا، فذاك هو موطني”.
وحتى عند العودة إلى الأفكار الأكثر شيوعًا التي تتناول المحاربين وعودتهم لديارهم، سعى هذا الجيل إلى تحريف معنى الكلمة بالمجاز اللغوي. وثمة اثنان من أكبر الأفلام التي تناولت هذا الموضوع، وهما “العودة إلى الوطن” و “صائد الغزلان”، لكنهما لم يعرضا غير القليل من مشاهد المعركة، واختارا بدلًا من ذلك الجانب الشخصي المكثف من الصراع وصعوبة العودة إلى “الوطن”.
الفِلم الثاني منهما، أمضى المخرج مايكل سيمينو خمسة أيام متواصلة في التصوير، وأكثر من ثلث فِلمه مخصصٌ لمشهد الزفاف الذي ركز بشكل أساس على ثلة الأصدقاء أثناء انتقالهم عبر بلدتهم المشهورة بصناعة الفولاذ في بنسلفانيا مع عرض لقاءات قصيرة مع العائلة والآخرين حول المدينة. وبدلًا من العودة منتصرين كجنود فاتحين وناجين من الحرب، أصابتهم انتكاسة قوية فعادوا كما كانوا تلك الثلة من الرجال. ويبدو أن “الوطن” كان هو صحبة كل واحد منهم لمن أحبهم.
وما يبدو هو أن جيل “الأنا النرجسي” (وهو اسم آخر اتخذه لنفسه جيل وقع الموسيقى/طفرة المواليد) قد وجدوا الوطن في بعضهم البعض.
الوطن الأرض
وما إن يبدأ تأثير جيل واحد في الاضمِحلال، حتى ينزع الجيل التالي إلى فعل ما تميل الأجيال التالية دومًا إلى فعله، وهو أن يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا.
فعندما يتحدث المرء عن الوطن اليوم، غالبًا ما يُفهم أنه لا يتحدث عن المنزل أو المدينة التي يقطن فيها، ولا عن عائلته أو حتى عائلته بالتبني ولا عن أصدقائه. في كثير من الأحيان، يُفهم أن الحديث هو عن كوكب الأرض.
أحد كتبي المفضلة هو رواية “النهر يجري من خلالها”، فهي تعرض المفهوم التقليدي للوطن إلى جانب الرؤية التي تتخذ من كوكب الأرض محورها الأساس. نُشرت الرواية لأول مرة في عام 1976م.
وكان مؤلفها، نورمان ماكلين، قد كبر سنه عندما أنجزها، لذلك ليس من المستغرب أنه رواها بروح منتصف القرن العشرين التقليدية. يروي الكاتب قصته الشخصية حول عودته إلى الوطن في غرب مونتانا، وهو شاب يافع يجرع من الحياة حلو أيامها ومر مآسيها من تلك التجارب التي لا تُخاض إلا في الوطن وبين أفراد العائلة، لكن الأمر المثير للاهتمام هو أنه جعل غرب مونتانا أحد الشخصيات. بدأ روايته بالحديث عن كيفية تشكل الأنهار والجبال في بداية الزمان وكيف تطورت، وكيف وصل وهو وعائلته إلى هذا المكان، هذا الكوكب، في الوقت نفسه.
لذلك، عندما تتأثر أحد مفاهيم كلمة “الوطن” بندوب لا تُمحى بسبب أحداث افتعلها الإنسان، تظل بقية المفاهيم تتحرك مثل ماء النهر، تتغير دائمًا لكنها باقية للأبد. السطور الأخيرة من هذا الكتاب ليس لها مثيل. كتب ماكلين: “إنهم أولئك الذين نعيش معهم ونحبهم، ويجب أن نعرف مَن منهم استعصى علينا. الآن تقريبًا كل من أحببتهم ولم أفهمهم عندما كنت صغيرًا ماتوا، لكنني ما زلت أتواصل معهم”.
ويواصل وصف قراره بمواصلة صيد السمك في أعماق البحر بمفرده: “عندما تخفت الأنوار القطبية منسحبة من الوادي، تختفي معها كل أشكال الوجود، ولا أعود أحس بشيء غير وجودي أنا وروحي وذكرياتي وأصوات نهر “بيج بلاكفوت”، أسمع لحنًا رباعي القوافي على أمل أن تخرج لي من النهر سمكة. في النهاية، تندمج كل الأشياء في كتلة واحدة من الظلام، يمر خلالها نهر. تم قطع النهر بالفيضان العظيم وهو يجري فوق جرف الصخور من قاع الزمن. وتساقطت على بعض الصخور قطرات المطر الخالدة. وتحت الصخور الكلمات، وبعض الكلمات كلماتهم. أنا مسكونٌ بالمياه”.
وثمة عمل أحدث يتوسع في مفهوم الوطن من منظور شخص خبير، وهو الفِلم الروائي “بين النجوم” للمخرج كريستوفر نولان. في هذا الفِلم تواجه الأرض في مستقبلها القريب دورة من الجفاف والعواصف الترابية بسبب ارتفاع حرارة المناخ، بحيث تكاد الحياة تنقرض. ويصبح الفِلم ملحمة لأنه يتأمل ما إذا كان الوطن سيستطيع النجاة، بل وجميع البشر الذين يرون الأرض وطنًا.
وبعد أن فقد العلماء الأمل في عكس دورة الطقس، أنشؤوا سفينة فضائية للسفر إلى مجرات بعيدة لمحاولة العثور على بديل مناسب للأرض. وبهذا لا يتمكن رواد الفضاء من العودة إلى الوطن، لا من ناحية مجازية فحسب، بل يكونون أيضًا غير قادرين علميًا على القيام بذلك لأن سفرهم بسرعة أقرب إلى سرعة الضوء ستجعل الوقت يمر ببطء شديد بالنسبة لهم لدرجة أن أي شخص يعرفونه تقريبًا سيكون قد مات وفنى بحلول الوقت الذي يعودون فيه إلى الأرض.
وعلى غرار أنواع الفنون المتميزة، يطرح فِلم “بين النجوم” العديد من الأسئلة بقدر ما يقدم إجابات. ومن الجوانب الأخرى المميزة في الفِلم هو الإشارة إلى التغييرات المستمرة في الوصف التقليدي لمفهوم الوطن. ربما تناول الفِلم طريقة التفكير من منظور الحياة على المجرة، لكنه تطرق أيضًا إلى تأثير العلم والتقنية على إدراكنا لمفهوم الوطن، وهي فكرة من المرجح أن يتنامى تناولها في المستقبل.
وهناك أعمال تقدم بعض المسارات الجديدة المحتملة لما يمكن أن يؤول إليه مفهوم الوطن، مثل رواية “هل تحلم الروبوتات بخرفان كهربائية؟” للكاتب فيليب ديك تحولت إلى فِلم باسم “بليد رانر” في عام 1982م، وفِلم “الذكاء الاصطناعي” الرائع الذي أعاد فيه المخرج ستيفن سبيلبرغ توظيف قصة “بينوكيو”، وكذلك فِلم “بروميثيوس” من سلسلة أفلام الإنجليزي ريدلي سكوت إيليان.
اترك تعليقاً