عقب وقوع أي كارثـة طبيعية، وعند الانطلاق في معالجة ذيولها وترميم ما تضرر، تتجه الأنظار صوب الهندسة المعمارية، أملًا في أن تتمكن من استنباط حلول أو وسائل تحول دون تـكرار ما أسفرت عنه هذه الكارثـة من دمار وضحايا، أو للإقلال من حجم هذه الخسائر. وبالفعل، قطعت الهندسة المعمـارية شوطًا كبيرًا خلال القرن الماضي في مجال استنباط حلول نجحت في تخفيض الخسائر الناتجة من بعض الكوارث الطبيعية.
نظرًا للهجرة المتزايدة من الأرياف إلى الحواضر منذ الثورة الصناعية، أصبح وقع الكوارث الطبيعية على البشر مضاعفًا نتيجة اكتظاظ المدن بهم. وعلى الرغم من أن الهندسة المعمارية لا تستطيع منع هذه الكوارث، فإنها تمتلك القدرة على تقليل الأضرار المرتبطة بها والمساعدة على حماية الأرض وسكانها. فالأحداث المؤسفة التي وقعت على مدار السنوات القليلة الماضية، مثل الزلزال الذي ضرب وسط تركيا وشمال غرب سوريا، وزلزال الحوز بالمغرب، والفيضانات وانهيار السدود في ليبيا، وحرائق الغابات التي دمرت مدينة لاهينا بهاواي؛ كلها تُظهر بوضوح الحاجة المُلحة إلى تنفيذ تدابيرَ وقائية وتخفيفية، إضافة إلى الاستعداد لاتخاذ إجراءات احترازية للتدخل السريع في حالات الطوارئ.
مخلفات الزلزال الذي ضرب ولاية كاليفورنيا في تسعينيات القرن الماضي.
عمارة ما بعد الدمار: تصميم الملاجئ
عند وقوع الكوارث الطبيعية، فإن التركيز الفوري ينصب على توفير المساعدة والمأوى وضمان السلامة للمتضررين. وفي أعقاب هذه الأحداث، يؤدي المهندسون المعماريون دورًا حيويًا في إعادة تشييد مجتمعات مستدامة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية. يجري ذلك عن طريق تصميم ملاجئ مؤقتة في حالات الطوارئ، وإعادة بناء البنية التحتية، وإعمار المناطق المنكوبة.
فبعد تقديم الإسعافات الأولية للمتضررين، وفي ظل الكوارث الطبيعية والأوضاع غير المستقرة في عدد من بقاع العالم، يصبح توفير مأوى آمن للأفراد والأسر النازحة من أبرز الاحتياجات العاجلة. وهنا يستخدم المهندسون المعماريون معارفهم ومهاراتهم لتصميم المساكن المؤقتة وبنائها، آخذين في الاعتبار أيضًا العوامل الثقافية والمناخية والاجتماعية للمناطق المتضررة.
وفي أعقاب الزلازل أو الأعاصير أو الفيضانات، يتعاون المعماريون بشكل وثيق مع منظمات الإغاثة والمجتمعات المحلية لتقييم الأضرار ووضع إستراتيجيات للنشر السريع لملاجئ الطوارئ؛ وذلك باستخدام تقنيات وموادَّ مبتكرة لإنشاء ملاجئ خفيفة الوزن وسهلة التجميع يُمكنها تحمُّل الظروف القاسية في مناطق الكوارث.
تطوُّر جديد في تصميم الملاجئ
والحال أن تصميم الملاجئ في المناطق المنكوبة، أو ما يُعرف بـ”هندسة الطوارئ”، أصبح اليوم جزءًا أساسًا ومهمًا في ميدان الهندسة المعمارية. فبعدما كان تصميمها مجرد إجراء احترازي مخصص لزمن الكوارث، صار اليوم بمنزلة تيار معماري وإنساني له أفكاره ومبادئه الخاصة. فالملاجئ التي يحتاج إليها ضحايا أي كارثة، هي بمنزلة مساكنهم الجديدة التي سوف يقضون فيها أشهرًا طويلة إلى حين حصولهم على مساكن دائمة. إذ تحوَّلت هذه الملاجئ في نظر المعماريين اليوم من مجرد أماكن مؤقتة لمساعدة المنكوبين، إلى أكثر الأعمال المعمارية إنسانيةً.
وقد شهد تصميم الملاجئ في زمن الكوارث تطورًا كبيرًا في شكله أو مضمونه، وأصبح له أهداف أساسية تحكمه، مثل التكامل مع ثقافة وعادات البناء المحلية، والتشييد السريع للمأوى، وكذلك التكلفة المنخفضة للبناء عن طريق استخدام المواد المُعاد تدويرها. ويهدف هذا النهج إلى إعادة استخدام الموارد بدلًا من التخلُّص منها، وهو ما يقلل من الضرر البيئي الناتج من عمليات البناء، كما أنه يعزِّز الاستدامة والتنمية المحلية.
روَّاد عمارة الطوارئ
يعدُّ المعماري الياباني شيجيرو بان، الحاصل على جائزة “بريتزكر للهندسة المعمارية”، أحد رواد عمارة الطوارئ في العالم، بعدما اشتهر بتفانيه الثابت في جهود الإغاثة في حالات الكوارث في بلدان عديدة. فقد صمّم هذا المعماري ملاجئ إيكولوجية للمتضررين باستعمال أنابيب الورق المقوَّى. وقد شُيِّدَ آخر هذه الملاجئ في مدينة مراكش بعد فاجعة زلزال الحوز الذي ضرب المملكة المغربية في السنة الماضية مُخلِّفًا آلاف الضحايا البشرية، كما أدى إلى انهيار أكثر من ستين ألف منزل في المنطقة التي ضربها.
صمَّم شيجيرو بان ملاجئ الورق المقوَّى (Paper Log House)، أوَّل مرة، في عام 1995م، في أعقاب زلزال كوبي في اليابان؛ آخذًا في الاعتبار حلًا مستدامًا يستجيب لواقع الكارثة بسرعة وبأرخص المواد المتاحة. واعتمد التصميم على هيكل غير مكلف يُمكن أن يشيده أي شخص، كما يمكن في وقت لاحق تفكيكه وإعادة تدويره بسهولة.
ويمتاز ابتكار شيجيرو بأنه لا يحتاج إلى أية خبرة تقنية مسبقة. إذ تُبنى الجدران من ألواح خشبية تُدخل بين أعمدة الأنابيب الورقية، متباعدةً مسافة 1.2 متر بعضها عن بعض. أمَّا السقف، فيُصنع من أنابيب الورق المقوَّى والخشب. ويُمكن لكل وحدة سكنية أو ملجأ أن تستوعب ما يصل إلى أربعة أشخاص، ويمكن تجميعها بسهولة في مدة تتأرجح بين خمس وعشر دقائق بواسطة ثلاثة أشخاص.
يقول شيجيرو بان متحدثًا عن أعماله: “حتى في مناطق الكوارث، أريد إنشاء مبانٍ جميلة. أرغب في أن أحرك الناس وأحسن من حياتهم”.
لأن الكوارث الطبيعية تشكِّل تحديات جديدة لميدان العمارة وتخطيط المدن، أصبحت هندسة الطوارئ أكثر فأكثر جزءًا مهمًا من الهندسة المعمارية.
إعادة الإعمار
بعد وقوع الكارثة، وإيواء السكان في ملاجئ الطوارئ، يشرع المهندسون المعماريون في الخطوة التالية، ألا وهي تقييم الأضرار ووضع خطط إعادة الإعمار الشاملة. في البداية يُجرون مسوحات وتقييمات تفصيلية للأماكن المتضررة، لتحديد المناطق التي تتطلب الإصلاح أو التعزيز أو الهدم. وبناءً على هذه التقييمات، يطورون إستراتيجيات إعادة الإعمار التي تعطي الأولوية للسلامة والمرونة والاستدامة، ثم يتعاونون بشكل وثيق مع المخططين الحضريين والسلطات المحلية لإنشاء خطط تجديد حضري تُلبي احتياجات المجتمع على المدى الطويل، مثل: الإسكان والبنية التحتية والأماكن العامة.
تتجاوز إعادة الإعمار مجرد إعادة تشييد المباني؛ إذ تؤدي دورًا حيويًا في تشكيل المجتمعات المتضررة، واستعادة الأمل، وخلق مستقبل أكثر استدامة. ويمتد تأثير إعادة الإعمار بعد الكوارث إلى ما هو أبعد من المجال المادي؛ إذ إنها تُسهم في ترميم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للمناطق المتضررة.
إضافة إلى ذلك، توفر مرحلة إعادة الإعمار فرصًا للمهندسين المعماريين للابتكار والإبداع والتفكير خارج الصندوق، بهدف التوصل إلى حلول جريئة لمواجهة التحديات الصعبة التي تطرحها كل كارثة. فيؤدي هذا غالبًا إلى تصميمات رائدة تدفع حدود الهندسة المعمارية التقليدية إلى أبعاد جديدة. وعلى سبيل المثال، في أعقاب إعصار كاترينا في عام 2005م، الذي يعدُّ أسوأ كارثة طبيعية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، اقترح المهندسون المعماريون بناء منازل عائمة بوصفها وسيلة للتخفيف من مخاطر الفيضانات في نيو أورلينز.
كما يجب التنبيه أن عملية إعادة الإعمار بعد الكوارث لا تقتصر فقط على إصلاح المباني والشوارع المتضررة، بل تشمل أيضًا تحسين قدرة المدن على مواجهة الكوارث المستقبلية. ومن خلال دمج المواد والتقنيات الصديقة للبيئة في جهود إعادة البناء، يمكن للمهندسين المعماريين المساعدة في التخفيف من المخاطر المستقبلية وتقليل تعرض المجتمعات للكوارث المماثلة. ولا يعود هذا النهج بالنفع على المتضررين بشكل مباشر فحسب، بل إنه يشكل أيضًا مثالًا يُحتذى به في المناطق الأخرى المعرضة للكوارث الطبيعية، وهو ما يمكِّنهم من استنباط الدروس اللازمة لتعزيز استعدادهم لمواجهة التحديات المستقبلية.
نظرة نحو المستقبل
في النهاية، تجدر الإشارة إلى أن المعمار المستدام وتصميم المدن في زمن الكوارث يمثلان تحديًا وفرصة في الوقت نفسه؛ إذ يُمكن أن تؤدي التصاميم المعمارية المبتكرة دورًا حيويًا في خلق مجتمعات مقاومة ومستدامة، كما يمكن أن توفر بيئات تعزِّز جودة الحياة للجميع؛ لأن الدروس المستنبطة من الكوارث التي يشهدها عالمنا حاليًا، يُمكنها أن تقود إلى تحوُّل إيجابي في شكل مدننا ومستقبلها.
إن الكوارث الطبيعية تشكِّل تحديات جديدة لميدان العمارة وتخطيط المدن، فقد أصبحت هندسة الطوارئ أكثر فأكثر جزءًا مهمًا من الهندسة المعمارية؛ لأنها تستشرف المستقبل عن طريق معالجتها لموضوعات معاصرة، مثل: إعادة تدوير المواد، والبناء الإيكولوجي، واستشراف المستقبل.
فما الدروس المستفادة من كوارث العالم الحالي؟
يجب أن تكون البنية المعمارية المستقبلية مستدامة بيئيًا، ومصمّمة ومنفّذة بتكنولوجيا خضراء تعتمد على موارد متجددة، مع مقاومة فعّالة للكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والزلازل. وكذلك يجب أن تكون مرنة تتكيف مع احتياجات المجتمعات المحلية، وتعزِّز الحياة الاجتماعية وكفاءة الاستخدامات وإدارة الموارد، وذلك لبناء مستقبل أكثر استدامة وأمانًا للأجيال القادمة، كما يُعبِّر المثل “نحن لا نرث الأرض من أجدادنا، بل نستعيرها من أبنائنا”.
اترك تعليقاً