اطلعت بكل حب على موضوع القضية “أي مستقبل للعلوم الإنسانية؟” في عدد القافلة 701 (نوفمبر – ديسمبر 2023). دارت رحى النقاش حول عدة محاور تتساءل عن إمكانية أن تصنع العلوم الإنسانية فرقًا عندما تدخل دائرة التعليم المنهجي في التعليم العام خاصة. ولعلي أبدي وجهة نظري حول هذا الموضوع ضمن مداخلة سريعة في هذا المقال، فأقول إنه بين تاريخ العلم أو العلوم الطبيعية، وبين تاريخ العلوم الإنسانية أو الاجتماعية، وشائج وصِلات لا تخلو من تجاذبات ظاهرها تنافر وصراع، وباطنها محرك يفضي إلى تطوير “معارفهما” معًا.
فمنذ التطور المتسارع للعلم في القرن التاسع عشر وأثره الكبير على الحياة الفكرية الأوروبية والاجتماعية والصناعية والاقتصادية، بدأت فكرة تطبيق المناهج العلمية، التي أدت إلى التطور السريع للحضارة في جانبها المادي، تتسلل إلى العلوم الإنسانية، لدراسة الإنسان وكل ما يتعلق به اجتماعيًا وبيولوجيًا وتاريخيًا.
كانت البداية عند أوغست كونت وإميل دوركهايم، عندما حاول كل منهما تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الاجتماعية، ثم استمرت وانتشرت في أغلب فروع العلوم الإنسانية مثل الدراسات الأنثروبولوجية، على سبيل المثال، التي ركّزت على المجتمعات البدائية بوصفها مجتمعات لم تتطور عن مرحلتها “الحيوانية”، وعلى هذا الأساس جرى النظر إليها، ورُوقب سلوكها الفردي والجماعي مثلما يراقب العالم البيولوجي سلوك الحيوانات، ثم يصنفها.
لكن الثورة الصناعية والتقنية شهدت قفزات متتالية بفضل الفتوحات العلمية في القرن العشرين، وعلى إثر ذلك عرفت المجتمعات تطورًا في جميع مجالات الحياة لم تعرف مثله من قبل، وأصبحت دراسة الهندسة والفيزياء والرياضيات من أكثر التخصصات التي يُقبل عليها الطلبة في الجامعات؛ لأنها توفر لهم مستقبلًا مضمونًا في سوق العمل والإنتاج، وتُعطي لهم مكانة مرموقة من خلال التخصص العلمي الذي يحملونه، حتى إنه برزت أسماء لامعة في سماء الفكر دعت إلى التخلي عن العلوم الإنسانية من أجل التوسع في مجال التخصصات العلمية بدواعي انتفاء الحاجة إليها على مستوى الإنتاج الاقتصادي في أسواق العمل.
وإذا كان الجدل في الدوائر الفكرية والفلسفية الغربية، لم يتوقف عن نقد العلم وتطوره التقني وآثاره السلبية على المجتمعات؛ فإن نقد هيدغر العميق للتقنية ومخاطرها يكفي. إن ما لم يتصوره مثل هذا الجدل هو الفتوحات التي حققها العلم في مجال الذكاء الاصطناعي، وغيّر في الكثير من المفاهيم المرتبطة بالتعليم والصحة والعمل والإبداع، وكأن المجتمعات دخلت في مرحلة عليها أن تعيد كل ما تعلمته واكتسبته من الحياة إلى الصفر.
أي أن التحدي الأكبر الذي تواجهه البشرية إزاء هذا التطور العلمي الخطر، هو المدى الذي ستُفضي إليه هذه المغامرة بالمجتمعات إلى التهلكة والإبادة الفكرية، خصوصًا أن مثل هذا التطور في الذكاء الاصطناعي ليس له حدود، بحسب ما يعتقد العلماء المتخصصون. وعلى ذلك، إذا كان البعض يرى أنه يمكن الاستفادة القصوى من هذا التطور لأجل تحسين المعيشة والاقتصاد للمجتمعات، ولا خوف منه على الإطلاق، ويطالب بفسح المجال للتخصصات العلمية القائمة في الجامعات للطلبة، لأنه مطلب كبير لكبرى الشركات التي تقود اقتصادات العالم؛ فإن البعض الآخر يتخوف كثيرًا من الآثار السلبية على الحياة الاجتماعية التي يمكن أن تسببها الإمكانات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي. لذلك جاء اقتراحهم بأن تكون دراسة العلوم الإنسانية جزءًا لا يتجزأ من مناهج الطلبة الذين يدرسون العلوم البحتة؛ لأن الفصل بينهما يسبب كارثة في التفكير الأخلاقي المدمر على المستوى الإنساني، وليست حروب أوروبا في القرن العشرين سوى أقوى دليل على ذلك. والأمر الأكثر أهمية هو أن تاريخ العلوم الطبيعية وتاريخ العلوم الإنسانية، لم ينفصلا منذ أن ظهرا على سطح التطور المعرفي.
إن الحاجة للعلوم الإنسانية والفلسفية ملحة أكثر من أي وقت مضى، يوم كانت فيها الفلسفة تطرح آراءها بخصوص دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها ظواهر علمية قابلة للاختبار والتجريب. بينما في الوقت الحالي، كما يلح هؤلاء، تتمثل الحاجة في أن ترتبط هذه التخصصات بالاجتهادات التي تقترحها العلوم الإنسانية في مجالات مهمة في حياة الإنسان، مثل: الأخلاق والإبداع والجمال والسلوك الإنساني والقيم والمبادئ. وهذه جميعها، رغم أنها ليس لها مخرجات مباشرة في سوق العمل والإنتاج، ضرورية للتخصصات العلمية؛ إذ تكون بمنزلة الرافعة التي تلبي الاحتياج البشري بين ما هو روحي وما هو مادي في حياتهم.
اترك تعليقاً