أصبح العَلَم، أي عَلَم، جزءًا لا يتجزَّأ من نسيج الوطن. بل يمكن القول من دون خشية الوقوع في محذور الخطأ أو مصيدة المبالغة، إنه يكاد ينطوي في دلالاته على الوطن بأكمله، بكل ما يستوعبه من معانٍ ومضامين، وبكل ما يستثيره من مشاعر جياشة تضيق عنها حدود الجغرافيا وصفحات التاريخ.
وإذا كان العلم يشاطر النشيد الوطني كثيرًا من أوجه الشبه التي تكشف عن توأمة شبه كاملة، فإنه ينفرد عنه بخروجه عن إطار الكلام وانفتاحه على عالم البصر، ما يجعله بمثابة فضاء شاسع الآفاق للرمز، ويعزِّز حضوره منفردًا في المواطن التي تُحجم الحروف عن الوصول إليها.
في ملف هذا العدد، ينظر فريق تحرير القافلة إلى العلم بأبعاده المختلفة، يتأمَّل ما يشف عنه من رمزية كثيفة، ويتقصَّى بعض أدواره ومضامينه، ويستطلع حضوره في اللغة، كما يحتفي بالراية الخضراء للمملكة العربية السعودية.
الأعلام.. وخفقاتها الأولى في التاريخ
يُرجّح أن النواة الأولى للأعلام نشأت من حاجة الإنسان البدائي إلى التواصل، وربما تمثَّلت البداية في استخدام جذوع الأشجار لإيصال الرسائل للأفراد البعيدين حين يعجز الصوت عن أداء المطلوب، ولا يكفي التلويح بالأيدي لأداء الغرض. ومع مرور الوقت، ربما تطوَّر الأمر لتوظيف شيء في الأعلى تكون رؤيته أوضح من بعيد، وربما استُخدم هذا الأسلوب أيضًا كأداة للتواصل عند الخروج للصيد وفي رحلات استجلاب الطعام.
هذا الاستخدام البسيط لغرض التواصل، هو ما تطوَّر لاحقًا ليجد طريقه إلى ميادين المعارك. فمن المعروف أن من أبرز وظائف الراية هو استخدامها في المعارك، حيث تُسهّل على أفراد الجيش معرفة الصديق من العدو، كما تتيح لهم التعرف على القائد بسهولة لحمايته وتلقي التعليمات عنه.
وفي مرحلة سابقة أو لاحقة، طور الإنسان استخدامًا آخر للأعلام، وهو تحديد الانتماء إلى الهوية والرمز إليه ، وقد نما هذا التوظيف وشاع ليعبِّر عن الجماعة الصغيرة والقبيلة، ثم المجموعة المدنية أو الدينية الأكبر، وصولًا إلى استخدامها لترمز إلى الدول والمنظمات الحديثة في عصرنا الراهن.
من أي حضارة جاءت؟
من المؤكد أن العرب في الجاهلية كانوا يستخدمون الرايات في معاركهم، كما يظهر ذلك جليًّا من أشعارهم، التي تُظهر أيضًا أن استخدامها لم يكن مقتصرًا على مضاربهم بل تجاوزها إلى غيرهم من الأمم كالفرس والروم. لكن المؤرخين يحيلون استخدام الرايات إلى عصر أقدم بكثير، ويذكر بعضهم أن قادة الجُند الرومان كانوا يستخدمونها قبل عام 100م.
أما أقدم استخدام للأعلام مع توظيف القماش، فتذكر الموسوعة البريطانية أنه يعود إلى الصين القديمة في عهد سلالة تشو الحاكمة (1046 – 256 قبل الميلاد)، حيث يُنسب إلى مؤسسها استخدامه علمًا بقماش أبيض كان يُحمل أمامه. وهكذا كان استخدام الأعلام بهذا الشكل منتشرًا في الهند في زمن مقارب، ومنهما ربما انتقل إلى أماكن أخرى عبر طريق الحرير.
كما يظهر من لوح الفرعون نعرمر أن الأعلام ربما كانت مستخدمة في مصر القديمة كرمز للجيش أو الدولة، كما تذهب إلى ذلك بعض المصادر. وإذا صح ذلك، فإن استخدام الأعلام يعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
الفيكسيلولوجيا.. عِلْم الأعلام
بشكل عام، يُرجّح أن الأعلام هي تطور لاحق للطوطم في عصور ما قبل التاريخ. ففي عصور ما قبل اكتشاف الزراعة، كانت البشرية تعيش ضمن جماعات قتّاتة صيادة، يُطلق عليها اسم “العصائب الباليوليتية”، وكانت كل جماعة تعرّف نفسها بطوطم معيَّن، له قدسية خاصة ورمزية عالية. وفي الغالب الأعم كان هذا الطوطم إما حيوانًا أو شجرة. ويستدل الأنثروبولوجيون على هذه الأطروحة بوجود الحيوانات على بعض أعلام الدول المعاصرة العامة أو الرئاسية في يومنا الراهن، كالنسر ذي الرأسين في علمَي ألبانيا وصربيا، وعصفور الجنة في علم بابو غينيا الجديدة، والأسد في أعلام سريلانكا وبوتان وغيرها.
وفي الوقت الراهن، يوجد عِلم خاص يُسمى بالفيكسيلولوجيا يختصّ بدراسة الرايات ومنشئها وتاريخها وتطورها، وكل ما له علاقة بها. كما أنه يدرس الأسباب التي تجعل جماعة ما تعرّف نفسها بهذا الشعار أو هذا العَلَم. وهو عِلم حديث نسبيًّا، تطوّر في النصف الثاني من القرن العشرين على يد الدكتور ويتني سميث في جامعة هارفارد.
أعلام اليوم
أما الأعلام الوطنية القومية المُستخدمة اليوم، فأغلب تصاميمها تعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بجذور تاريخية تعود أحيانًا إلى فترات أقدم من ذلك. وهناك على الأقل 193 علمًا وطنيًّا مختلفًا تمثِّل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ولكن بالتأكيد هناك آلاف الأعلام التي يصعب إحصاء عددها للولايات والأقاليم والمناطق داخل الدول، والجماعات والأحزاب السياسية والحركات المناهضة والانفصالية والمتمرِّدة، والمؤسسات والمنظمات الدولية والحقوقية، والتيارات الفكرية المختلفة، والجامعات والمؤسسات التعليمية، والأندية والألعاب الرياضية.
يُضاف إلى ما سبق الأعلام التي أنتجتها آلة الإعلام في التلفزيون والسينما، كأعلام “حرب النجوم” و”صراع العروش”، وكذلك الأعلام الشخصية الفردية التي يبتكرها أصحابها لتعبِّر عنهم في الألعاب الإلكترونية المختلفة.
أعلام الدول.. ظاهرة عالمية لهدف واحد وبأساليب مختلفة
من الواضح أن الوظيفة الأبرز للأعلام في عصرنا الراهن هو تمثيلها للدول، في إطار النظام الدولي العالمي، بما لها من سيادة ومقدرات ونظام مستقل، وبما تحمله شعوبها من قيم دينية وأخلاقية وثقافية، وما تتماهى معه من رموز تاريخية وحضارية.
ما يستحق التأمل أن الأعلام تنهض لأداء هذا الدور الضخم في أغلب الأحيان من خلال تصاميم بسيطة، تعتمد على الدمج بين ألوان وأشكال محدودة، مع حضور بارز لبعض الرموز ذات الدلالات الدينية أو التاريخية، مع وجود محدود للحروف أو الرسوم المعقَّدة.
وتكاد تستقر معظم الدول اليوم على الشكل المستطيل لأعلامها، لأسباب تتعلق بالبساطة والتوظيف العملي، لكن هذه القاعدة ليست بلا استثناء، فالاتحاد السويسري ودولة الفاتيكان اعتمدا الشكل المربع في علميهما.
رموز دينية وطبيعية
وتحضر الرموز الدينية بقوة في الأعلام، كالهلال الذي يحضر في أعلام عدد من الدول الإسلامية، مثل الجزائر وتونس وباكستان وأذربيجان وتركيا وماليزيا، والصليب الذي يبدو حاضرًا بشكل خاص في أعلام بعض الدول الأوروبية.
وهناك أيضًا رموز كونية أخرى تحضر في الأعلام لا تخلو من دلالات دينية أو ثقافية، كالشمس في علم اليابان وبنغلاديش وراوندا والأرجنتين والأوروغواي، والسماء في علم البرازيل.
أما النجمة بمختلف أشكالها فهي الأكثر حضورًا من بين كل الرموز، لكن معنى وجودها يتفاوت بين علم وآخر. فهي مثلًا قد ترمز للتوحيد والوحدة القومية، كما في علم المملكة الأردنية الهاشمية، أو للاتحاد بين أقاليم متعدِّدة، كما في علم الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يتضمَّن 50 نجمة ترمز إلى ولاياتها المختلفة، أو لمعنى آخر مختلف، كالإشارة إلى كوكب المريخ الذي يكتسب أهمية تاريخية لدى شعب جمهورية تشيلي.
وللطبيعة الحيوانية والنباتية ببعديها الثقافي والأسطوري حضورها في أعلام بعض الدول، كشجرة الأرز في علم لبنان، وورقة القيقب في علم كندا، والنسر في علم مصر، والتنين الأسطوري في علم ويلز. وبينما يتضمَّن علم المكسيك نسرًا يجلس على رأس نبتة الصبار ويثب بمخالبه ومِنسَره على ثُعبان، نجد ببغاء أرجواني اللون يتوسط علم دولة دومينيكا.
ومع أن حضور الكلام قد يبدو خجولًا في الأعلام عمومًا، حيث يُراد لها أن تُعرب عن نفسها من دون وساطة الحروف، إلا إن بعض الدول تختار إضافة نص أو عبارة تؤكد بها هويتها، وتُعلي بها قيم شعبها، كما هو الأمر مع كلمة التوحيد في علم المملكة، والتكبير في علم العراق. وربما كان جمال الخط العربي وأصالته عاملًا مغريًا مكّنه من أن يجد طريقه على أعلام الدول العربية والإسلامية، لكن حضور الكلمات لا يقتصر على هذه الأعلام، فعلم البرازيل مثلًا يتضمَّن شعار “النظام والتقدم”، بينما يتضمن العلم الإسباني عبارة لاتينية تُشير إلى الأراضي التي اكتشفها كولومبوس.
الألوان.. القيم والمعاني
تحضر الألوان بأطيافها المتنوِّعة في الأعلام، لكن أكثرها حضورًا هو الأحمر والأبيض والأزرق والأخضر والأصفر والأسود. وغالبًا ما ترمز الألوان إلى قيم ومعانٍ متشابهة تشترك في تقديرها الشعوب المختلفة. فالأبيض كثيرًا ما يُشير إلى السلام والصفاء والعدل، والأحمر للتضحية والصمود ودماء الشهداء. بينما قد يُشير الأزرق إلى مضامين السمو والرفعة والماء والسماء، والأخضر إلى الرخاء والخصب والطبيعة، والأسود إلى الجلال والهيبة والقوة واحترام الشهداء. وبينما تختار بعض الدول لونًا واحدًا ليغلب على علمها، تدمج دول أخرى بين لونين أو ثلاثة أو أربعة في العلم الواحد.
ومن الجدير بالذكر أن اللون الأرجواني هو أندر الألوان حضورًا في أعلام الدول، فلا يظهر إلا في ببغاء دومينيكا وقوس قزح نيكاراغوا. ويعود ذلك إلى حقيقة تاريخية وهي أن الصبغة الأرجوانية كانت باهظة الثمن في الماضي حين كان استخلاص كمية قليلة من تلك الصبغة يحتاج الى آلاف الحلزونات البحرية، مما جعل الأرجواني لونًا مميزًا للملوك والأمراء في أوروبا على وجه الخصوص.
والمتأمل في ألوان أعلام الدول العربية سيجد تكرارًا لافتًا للّون الأسود والأبيض والأحمر، كما يحضر الأخضر أحيانًا. ويظهر التشابه واضحًا بين أعلام السودان ومصر واليمن والكويت وفلسطين وسوريا والإمارات العربية المتحدة والأردن، ويُعزى ذلك إلى نقاط الاشتراك في الهوية والقيم التي تتبناها هذه الدول. كما أن هذه الألوان تنطوي على إرث تاريخي عريق يمثّل إرث الحضارة الإسلامية في أوجها، إذ يرجِّح بعض المؤرخين أن الدولة الأموية كانت قد اتخذت اللون الأبيض شعارًا لها، بينما اختارت الدولة العباسية الأسود، ويُقال إن كلا اللونين استُخدما أيضًا قبل ذلك في رايات صدر الإسلام. أمَّا اللون الأخضر فتذكر بعض المصادر أنه كان من نصيب الفاطميين، في حين يُنسب اللون الأحمر لراية الهاشميين في عصور لاحقة.
لحظة فخر.. ونظرية مؤامرة
نظرًا إلى الارتباط الشديد بين الأعلام ولحظات الفخر والإنجاز، لا سيما التي تأتي في سياقات وطنية، من الصعب تجاهل أحد أبرز الشواهد على ذلك في تاريخ العصر الحديث: صورة العلم الأمريكي على سطح القمر!
انطوت تلك الصورة الرمزية على رسائل لا حصر لها، وتقبلت التأويل على كافة الأصعدة السياسية والعلمية والشاعرية والإنسانية المتجرِّدة، وهي رسائل لا تزال أصداؤها تتردَّد رغم انصرام أكثر من 50 عامًا منذ أن خطا الإنسان أولى خطواته على سطح القمر عام 1969م.
هذا الحدث الضخم تعرَّض للتشكيك بناءً على أدلة عدة ساقها المشكِّكون، وكان العَلَم أحد أبرز أدلّتهم. ويدَّعي منظرو المؤامرة أن “حركة” العلم الأمريكي الذي وضعه نيل ارمسترونغ هناك تثبت أن مقطع الهبوط “المزعوم” على القمر مصوَّر في الغلاف الجوي، إذ لا توجد رياح على القمر تجعل العلم يخفق. ولا تزال هذه الأدلة تلقى رواجًا لدى البعض.
والحقيقة أن ناسا طوَّرت آلية قفل أفقي لمنع العلم من الترهل، ولكن هذه الآلية فشلت في مهمة أبولو 11، وتسبب ذلك في ظهور بعض التجاعيد على العلم، ما جعله يبدو وكأنه يتحرك. كما تسبب تحريك العلم أثناء محاولة التثبيت أيضًا في ظهور التموجات عليه.
دلالات تنمو مع الوقت
المدهش في أمر الرايات والأعلام هو أنها تحمل طيفًا من المعاني الغزيرة التي تعبِّر عن نفسها من دون أي كتابة أو حديث. فقطعة قماش مستطيلة بلون معيَّن وبأشكال متقاطعة أو متوازية، تكفي لأن يعدها البشر تمثيلًا لهم، وتجسيدًا لكينونتهم، فيثورون غضبًا إن تم تدنسيها أو إهانتها، بأي شكل من الأشكال.
وهكذا نجد أن أعلام الدول لا تحمل أسماءها، ومع ذلك يكفي النظر إلى الرايات المرفرفة بشموخ لتعتلج في الأفئدة تلك المشاعر الجيّاشة. ننظر إلى العَلَم في لحظة فخر وطنية فنرى الكفاح الذي جعل هذا العَلَم خفاقًا مرفرفًا، ونسمع صليل السيوف وعزاوي الأبطال وأصوات البنادق، ونستنشق رائحة البارود مختلطة برائحة دماء الشهداء الأبطال، الذين كافحوا فجعلوا المنجز الوطني حقيقة واقعة.
تاريخٌ من الدلالات
وربما يعود طيف من هذه المضامين والدلالات التي يزخر بها العَلَم في الأصل إلى استخدامه الأول في المعارك. فمن الميدان أخذت الرايات ترتبط شيئًا فشيئًا بمضامين الانتماء والوحدة وانصهار الذات في المجموعة قبل بدء الصراع، والفخر والزهو والاحتفال عقب الانتصار.
أما سقوط العَلَم في المعارك فيعني الهزيمة. لذلك يكون الهجوم على حامل الراية أشرس ما يكون، كما يكون الدفاع عن الراية أشد ما يكون، بينما يكتسب حامل الراية بطولة خالدة.
وفي تاريخنا الإسلامي شواهد كثيرة على هذا المشهد، لعلَّ من أبرزها قصة جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – في غزوة مؤتة، حين حمل الراية ببسالة أمام جيوش هرقل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
إذ تقول الروايات إنه تعرض لهجوم شرس أسفر عن بتر يده اليمنى التي يحمل بها اللواء، فما كان منه إلا أن حمله بيسراه حتى بُترت، فإذا به يحمل الراية بعضديه حتى الشهادة، لذلك أبدله الله بجناحين في جنة النعيم، واستحق لقبه البطولي “الطيار”.
الرمزية العصرية
أما في عصرنا الحاضر، حيث أصبحت الأعلام ترمز إلى الدول، فقد توسَّعت المضامين التي تختزلها الأعلام كما توسَّع إطار استخدامها وحضورها، لنجدها في جميع لحظات الفخر، حتى تلك المرتبطة بالإنجازات الشخصية، مثل حفل تخرج، أو عند تسنُّم قمة جبل، أو استلام جائزة. كما أصبحت الأعلام ملازمة للاحتفالات والمناسبات العامة، سواء الوطنية منها أم غيرها.
أما على صعيد إظهار الانتماء، فاستخدام الأعلام وجد طريقه إلى كل ناحية من نواحي الحياة، فمن استخدامها في الجهات الرسمية خارج البلد وداخله، وحضورها في المناسبات الرياضية، إلى وجودها في بيئات العمل عمومًا، واستخدامها من قبل الطلاب المبتعثين، وانتهاءً بتوشيحها للمركبات واستخدامها بغرض الترويج للسلع بمختلف أشكالها.
ولا يمكن إغفال دور التقنية والتطوُّر في انتشار الاستخدام وترسيخه، بدءًا من الماكينات التي ساعدت على نمو صناعة الأعلام بكميات كبيرة وأحجام مختلفة ومواد قليلة التكلفة، ومرورًا بالإنترنت الذي ساعد على عبورها إلى ميادين جديدة، وانتهاءً بالتقنيات الرقمية التي جعلت المباني الضخمة تكتسي جلبابها، وحوَّلتها إلى أيقونات تلوِّح بالانتماء عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ولفرط الرمزية وشدة التعبير التي تكتنف الأعلام، لم يعُد عجبًا أن تجد الصغار يسعون وراءها في الألعاب الإلكترونية التي استغلَّت بدورها هذا الشغف للترويج لسلعها.
فلسفة الرموز
تقودنا الرمزية المكثفة التي تنطوي عليها الأعلام إلى أطروحة الفيلسوف الألماني، إرنست كاسيرر، حول فلسفة الأشكال الرمزية. فالإنسان على حدّ تعبيره “حيوان رامز”، وللرمز وظيفة بنيوية علائقية تحل قبل اللغة، فالرمز يحكي كل شيء بلا كلمات ولا عبارات.
وقد ظهرت فلسفة الرمز هذه في القرن العشرين، وكان ظهورها مدويًّا على عدة أصعدة، حيث بدت وكأنها نقطة التقاء بين عدة مدارس لم يكن اللقاء بينها ممكنًا طيلة القرون الماضية. فالبراغماتية والتجريبية بلورتا مفهوم الرمز والعلامة على يد تشارلز بيرس، الأمر الذي استخدمه الفيلسوف والرياضي الكبير برتراند راسل ليطور المنطق الرياضي الحديث المسمى بـ”المنطق الرمزي”، الذي أصبح بدوره القاعدة الأساس لما عُرف لاحقًا بعلوم الحاسب والكمبيوتر والبرمجة. أما الفلسفة المثالية، فقد تلقت هذه الفكرة لتنشئ ما يُعرف بالـ”كانطية الجديدة”، التي كان إرنست كاسيرر أحد أبطالها.
الوعي من دون لغة
كان الإنسان يعرَّف بأنه “حيوان ناطق” وفقًا للفلسفة الأرسطية، وكان الفلاسفة يعتقدون أن الوعي خصيصة من خصائص اللغة، وأنه لا يكون ممكنًا من دونها، فـ”اللغة ذراع العقل”. ومن هنا اكتسب المنطق هذا الاسم، مشتقًا من ملكة النطق، وهي الترجمة البليغة التي ترجمها الفلاسفة العرب لكتب أرسطو واليونانيين القدماء.
تلقف إرنست كاسيرر فلسفة الرموز، ووجد فيها وجاهة تفسيرية مقبولة. ففي تلك الأيام كانت الفتاة الظاهرة، هيلين كيلر، حديث الفلاسفة والأكاديميين والأطباء والعلماء والساسة؛ فهذه الفتاة كانت قد وُلدت عمياء صماء بكماء، ولكن بفضل جهود معلميها استطاعت اكتساب اللغة والتعبير عن أفكارها.
شكَّل هذا الأمر صدمة قوية لكل المهتمين وأثار موجة من النقاش الفكري، استغلَّها كاسيرر ليفند مقولة أرسطو بأن الإنسان حيوان ناطق، ذاهبًا إلى أن اللغة ليست سببًا للوعي بل إنها مظهر له، وأن هناك جزءًا ما تحت اللغة ويميز الإنسان عن الحيوان، وهذا الجزء هو الرمز.
الإنسانية بين العلامة والرمز
في كتابه “فلسفة الأشكال الرمزية”، يستخدم كاسيرر مبدأ بيرس للتفريق بين العلامات والرموز. فالعلامات تشير إلى شيء، أو إلى صورة ذهنية محددة سلفًا، في حين أن الرمز يستمد دلالته من ظلال العلامة، فالرمز إذن علامة العلامة. لذلك تكون العلامات دائمًا أقل من المفهوم الذي تمثله، بينما يحتوي الرمز على أكثر من معناه الواضح والفوري.
استعمل كاسيرر هذه التفرقة على مستوى الفهم والمعرفة عندما قابل بين الفهم الحيواني الذي يتحد بالعلامات فقط، والتواصل الإنساني الذي يستعمل العلامات الرمزية. مثلًا: يتواصل النحل فيما بينه بواسطة رقصات معينة، ولكن هذه اللغة تختلف كليًا عن لغة الإنسان، وذلك لأن لغة الحيوان ذات طابع مادي حركي، في حين أن العلامة اللغوية الإنسانية ليست دائمًا ذات طابع مادي؛ لماذا؟ لأنه يستطيع تسمية الأشياء في غيابها.
وتتميز اللغة الإنسانية بانقطاعها وانفصالها عن الأشياء، في حين أن لغة وعلامات الحيوان هي دائمًا جزء من الشيء. وعليه، فإن الحيوان يتواصل بواسطة علامات بوصفها إشارات أو مؤشرات، أما الإنسان فيتواصل بواسطة علامات بوصفها رموزًا. إن العلامة-الإشارة تبقى متصلة ومرتبطة بعالم الأشياء، أما العلامة-الدالة فإنها تتصل بالأشياء اتصالًا اصطلاحيًا، وبالتالي فإن الرمز هو العلامة الدالة.
العلَم في لغة العرب وشعرهم
يُستفاد من مراجعة المصادر اللغوية أن لفظ “العَلَم” في أصل اشتقاقه يُطلق على كل ما من شأنه أن يُعلَم بنفسه، فهو مستغن عن التعريف بغيره، وربما أُطلق كذلك على كلّ ما يُهتدى به إلى غيره. ومن هذا المعنى العام ينتقل الذهن إلى معانٍ خاصة متفرعة عنه، لها وجه ارتباط بالمعنى الأصل توثقه كثرة الاستخدام وشيوعه.
وفي لغة العرب الأوائل، كان العَلَم يُطلق على الجبل، لأنه من الظهور والبروز بمكان بحيث يستغني عن الإشارة إليه، وعلى هذا المعنى جاء اللفظ القرآني العزيز. وهذا المعنى لهذا اللفظ جاء به أحمد شوقي في مطلع قصيدته “نهج البُردة”:
ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلَمِ
أحلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
كما يتبادر إلى الذهن هنا قول الخنساء في رثاء أخيها صخر “كأنه عَلَمٌ في رأسه نارُ”، فكأنها أرادت أن تجمع لأخيها ما للجبل والنار من الظهور والمعرفة.
ومن المعنى العام، اشتق النحويون أيضًا المعنى المصطلح للعَلَم في النحو، فهو أحد أقسام المعرفة، التي تُقابل النكرة من الألفاظ.
العَلَم للراية
أما استخدام العلَم للإشارة إلى لواء المعركة أو الراية التي ترف وترمز لجماعة معيَّنة، فيبدو أنه كان قليل الانتشار في أول الأمر، رغم أن هذا المعنى ربما يكون الأكثر تبادرًا إلى الذهن عند استخدام اللفظ اليوم. وممن استخدم اللفظ بهذا المعنى أيام الأمويين الراعي النميري:
وَالمَوتُ يَسبِقُنا إِلى أَعدائِنا
تَهفو بِهِ الراياتُ وَالأَعلامُ
وبالانتقال إلى اللواء والراية، يبدو أن لفظيهما كان أسبق في الاستخدام للمعنى المراد من لفظة العلَم. أما لفظ الراية فمشتق من مصدر ريي، أي أنها تُرى واضحة للعيان. أما اللواء فهو ما يُلوى ويُثنى، ولعله سُمِّي هكذا لأنه يُلوى على سارية ثم يُرفع، وربما سُمِّي بذلك لأن الجيش يلتوي عليه ويلتف حوله. ولعلَّ هناك شيئًا من الفرق بينهما، فكأن اللواء له ميزة الوحدة في المعركة، بينما قد تكثر الرايات فيها، وهذا ما نستشفه من قول الفرزدق:
وكأنَّمَا الرايَاتُ حَولَ لِوَائِهِمْ
طَيْرٌ حَوَائِمُ، في السمَاءِ تَدُورُ
والأسماء السابقة، الراية واللواء والعَلَم، هي عربية الأصل. وهناك أيضًا مفردة الخافق والخفّاق، وهي في أصلها صفة للعَلَم التصقت به واقترنت، فاستُخدمت بمثابة الاسم له.
العِراك ميدانًا للتبادل اللغوي
وهناك ما تم تعريبه من الأسماء للعلَم، فالبيرق والبند والدرفس يُحتمل أنها ألفاظ معرَّبة عن أصول أعجمية. وهكذا جاء البند في قول عنترة بن شداد:
فهل من يبلغ النعمانَ عنا
مقالًا سوف يبلغه رشيدَا
إذا عادت بنو الأعجامِ تهوي
وقد ولَّت ونكَّست البنودَا
أما أبو الطيب فيقول:
عش عزيزًا أو مت وأنت كريمٌ
بين طعن القنا وخفق البنودِ
وورد الدِرَفس في شعر البحتري:
والمنايا مواثلٌ وأنو شروان
يُزجي الصفوفَ تحت الدرفسِ
وأخيرًا هناك البيرق، وأصله فارسي معرب، وعنهم أخذه الترك والكرد أيضًا، فالبيرقدار تعني حامل الراية.
من المعركة إلى ميادين أخرى
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظِرنا نخبّرْك اليقينا
بأنا نُورد الرايات بيضًا
ونصدرهن حمرًا قد رَوينا
هكذا خاطب عمرو بن كلثوم ملكَ الحيرة عمرو بن هند، متحديًا ومباهيًا بشجاعة قومه ومنعتهم، مستخدمًا صورة رمزية كثيفة الدلالة، ليصف الرايات قبل المعركة وبعدها. فرايات قومه – بني تغلب- بيضاء اللون، ترفرف ناصعة بشموخ عندما تنزل الميدان. ولكنها تعود منه وقد اصطبغت بلون الدم حدّ ارتوائها.
ومن الواضح أن استخدام المفردات المختلفة المشيرة إلى الرايات والأعلام جاء أولًا وفي أغلب المواطن في سياق المعركة والميدان، فكان استخدامًا مباشرًا يترادف مع السيف والرمح وغيرها من آلات الحرب وأدوات الصراع. لكن هذا لم يمنع الشاعر العربي من أن يبتكر بخيالاته توظيفات أخرى للفظ، تستفيد من خصوبة المعنى وقابليته الواسعة للمجاز. فهذا أبو تمام ينقل ميدان المعركة إلى السماء الملبَّدة للغيوم، ويخلق للسحب راياتها الخاصة:
ومُعرَّسٍ للغيثِ تخفقُ بينهُ
رَايَاتُ كل دُجُنَّةٍ وَطفَاءِ
أما العباس بن الأحنف، فلا يأنف من أن يحمل راية العشق حين يقول:
ورضيتُ بعد تنكُّبي طرقَ الهوى
أن قيلَ: صاحبُ رايةِ العشَّاقِ
في آفاق الأوطان
ومع مرور الوقت، عندما أخذت رمزية العَلَم تنمو شيئًا فشيئًا، وأصبح بحق رمزًا يطوي في معناه الأوطان الرحبة، وجَد الشعراء مساحة أوسع للاستفادة من مفرداته وتوظيفها بطريقة مختلفة.
فالجواهري يتساءل عن موعد النصر الأخير، لكن في صراع مختلف لا صلة له بصراع الحضارة المادية التي تحقِّق الفتح تلو الآخر، فهو ينتظر أن تُرفع الراية التي تحقِّق للإنسان إنسانيته، حيث يقول:
“قالوا قد انتصرَ الطبيبُ
على المُحالِ من الأمورِ
زرع الجماجمَ والقلوبَ
وشدَّ أقفاصَ الصدورِ
فأجبتهمْ: ومتى ستُرفَعُ
رايةُ النصرِ الأخيرِ؟!
زرعَ الضمائِر في النفوسِ
العارياتِ عن الضميرِ”
أما محمد الثبيتي، فيعود إلى “ديار عبلة” ليُلقي التحية ويحنُّ إلى الماضي الجميل، حين كانت البطولات تُسطَّر بلون الدم على صفحات البيارق:
“كتبتُ على صفحاتِ البيارقِ
ملحمةً من دمي
وألبستُ أرصفة الوطن المتمرّدِ
ثوبًا قشيبًا من الأرجوانْ”
وهذا محمود درويش، يغتنم الارتباط الوثيق بين الراية والهوية، ليتساءل عن مصير الهوية حين تتبدَّل الراية:
“في رُكامِ التَّحَوُّلِ: أَعرفُ مَن كُنتُ أَمسِ، فَماذا أَكُونْ
في غَدٍ تَحتَ رَاياتِ كولومبوسَ الأَطلَسِيَّةِ؟”
وينظر سركون بولص إلى الراية من عين أخرى لا ترى سوى رايات الحِداد في الأوطان التي أنهكها الفقر:
“افتحْ يديك. ضَعْ قلبكَ في المزاد. واسمع القصة.
اليومُ آتٍ. لا حصْرَ للعلامات.
الشعبُ يطلب خبزًا. كلُّ رغيفٍ رايةٌ للحِداد”
ولأن مفردة العَلَم أو الراية أصبحت تحمل في طياتها هذه الرمزية الهائلة، وتستوعب هذا الكم الضخم من المضامين، فقد وجدت طريقها إلى العناوين أيضًا، لأنها تختزل المعنى الواسع، كما أنها قابلة للتأويل والتفسير، ومن ذلك قصيدة “المرأة تنسج الرايات” لقاسم حداد، وقصيدة “لا راية في الريح” لمحمود درويش، وديوان “معركة بلا راية” لغازي القصيبي.
دول العَلَم
في الملاحة البحرية هناك مصطلح اسمه “دولة العَلَم” (flag state)، وهذه الدولة هي الولاية القضائية التي بموجب قوانينها يتم تسجيل السفينة أو ترخيصها، وتُعدُّ بمثابة الجنسية للسفينة. وهكذا، من الشائع جدًّا أن ترفع السفن والناقلات عَلَم دولة أخرى غير عَلَم الدولة التي تنتمي إليها فعلًا.
وتُعد بنما وجزر مارشال وليبيريا أشهر دول العَلَم، حيث تتصدَّر قائمة الدول التي تسجل فيها السفن التجارية وتحمل أعلامها. ويختار مالكو السفن رفع عَلَم دولة من دول العَلَم لأسباب تجارية، من أهمها قلة الرسوم والضرائب المفروضة.
الأعقد تصميمًا
يُعدُّ عَلَم تركمانستان الأصعب على الاستنساخ يدويًّا، وذلك بسبب تطريزات نسج السجاد الخمسة المعقدة على الجانب الأيسر منه والتي تمثل صناعة السجاد التي تفخر بها تركمانستان.
الأقدم قيد الاستخدام
بحسب كتاب غينيس للأرقام القياسية فإن عَلَم دولة الدانمارك هو أقدم عَلَم من أعلام الدول، فمازال مستخدما منذ 1625م وحتى الآن.
غير المستطيل والمربع
علم النيبال هو الوحيد في العالم الذي ليس مستطيلًا أو مربعًا، بل يتألف من مثلثين حمراوين متداخلين يرمزان إلى جبال الهملايا، وضمن المثلث الأعلى شمس متداخلة مع هلال، وفي الأسفل قرص الشمس كاملًا.
ارفعه عاليـــًا
إن كان هناك كثير من الأمور المشتركة بين أعلام بلدان العالم، فإن للعَلَم السعودي خصائص يمتاز بها عن سواه: فهو لا يُنكس أبدًا، بينما تُنكس معظم الأعلام حدادًا وتأبينًا، كما لا تُلف به جثامين الموتى مهما علت بهم الرتب، ولا ينزل الأرض ولا يمس الماء. فإذا ما بهت لونه وشارف على التلف، بُعث به إلى الجهات الرسمية لتقوم بحرقه بطريقة إجرائية معيَّنة.
قصة الخفّاق الأخضر
العَلَم السعودي متوارث من الدولة السعودية الأولى. فقد أتى في وصف أول راية سعودية رُفعت أنها “خضراء منسوجة من الخزّ والإبريسم، مكتوب عليها كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله، معقودة على سارية بسيطة”. كانت الراية خضراء، وكان الجزء الذي يلي السارية جزءًا أبيض، أما شهادة التوحيد فكانت منسوجة على سطرين متتاليين.
وكان الإمام المؤسس محمد بن سعود هو من يعقد الراية ويقود الجيوش بنفسه، أو يكتفي في بعض الأحيان بعقد الراية ويوكّل أحد أبنائه بتسيير الجيش وقيادته. واستمر الأمر بالطريقة نفسها مع ثاني الأئمة عبدالعزيز بن محمد، بنفس الكيفية تمامًا التي كان يتم بها الأمر في وقت أبيه، فهو يعقد الراية بنفسه أو يوكّل بذلك ابنه سعود، الذي أصبح فيما بعد ثالث الأئمة.
وكان المؤسس وأبناؤه يرسلون رسلهم إلى عموم قبائل الجزيرة، ويضربون لهم موعدًا في يوم معلوم ومكان معلوم، قريبًا من الماء في غالب الأحيان، ثم ينصبون الراية على جانب هذا الماء فتكون علامة بينة للجميع، يُستدل بها كما يستدل البحارة بالفنار. وهكذا تتوافد عليهم وفود القبائل لتبايع ولتنضم لجيش التوحيد. وكانت الراية علامة فارقة بين الفوضى والدولة، وكان الانضمام إليها يعني الانضمام إلى الأمة، وترك الفرقة والتشرذم.
وفي بحث محقق من دارة الملك عبدالعزيز بعنوان “رحالة إسباني في الجزيرة العربية”، نطالع يوميات ومذكرات دومينجو باديا ليبيلخ، الذي تظاهر بالإسلام وتخفى تحت اسم “الحاج علي العباسي”، ليعمل لحساب نابليون الأول، وليسبر غور الحركة الإصلاحية في نجد.
وصل الرحالة إلى مكة المكرمة في 14 ذي القعدة عام 1221هــ (يناير 1807م)، وأُتيحت له حينها رؤية دخول جيش الإمام سعود بن عبدالعزيز إليها وهم في ثياب الإحرام، وكان عددهم 45 ألفًا، كما شاهد الجيش يزحف إلى مكة ليؤدي المناسك يتقدمه عَلَم أخضر، طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
أما جون لودفيغ بوركهارت (1784-1817م)، الذي وصف أيضًا جيش الإمام سعود بن عبدالعزيز، فقد دوّن في ملاحظاته أن لدى كل شيخ أو أمير من أمراء الإمام سعود راية خاصة، وأن سعودًا يمتلك عددًا من الرايات المختلفة.
حاملو الرايات
أبرز من حمل الراية في الدولة السعودية الأولى هو إبراهيم بن طوق. أما في الدولة السعودية الثانية فأبرز من حملها: عبدالله أبو نهية، والحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري.
وفي الدولة السعودية الثالثة، حمل البيرق عبداللطيف بن حسين المعشوق، الذي شهد كل معارك التوحيد، فلم يتخلف عن معركة واحدة حتى كانت معركة البكيرية فاستشهد فيها. وقد كُلِّف ابنه منصور بحمل الراية في المعركة نفسها، فحملها ببسالة كما فعل والده، ولم يلبث أن استشهد في المعركة نفسها مدافعًا عن البيرق حتى الرمق الأخير. ودُفن الاثنان معًا في أرض البكيرية.
ثم انتقلت الراية إلى أسرة آل مطرف، فحملها الجد عبدالرحمن، ثم ابنه منصور، ثم حفيده مطرف. وهناك طبعًا عشرات الأبطال الأفذاذ الذين حملوا الرايات متقدِّمين كتائب التوحيد. فلكل جيش من الجيوش عَلَم يحمله شخص من بينهم، وهو العَلَم الوطني نفسه الذي يحمله الحاكم من آل سعود، الذي ينطلق من عاصمة الدولة.
وقد كان لكل قبيلة من القبائل راية خاصة بها وعزوة خاصة بها أيضًا، فلما انخرطت هذه القبائل كلها في هذا المشروع الوحدوي العظيم، ائتلف شملهم تحت راية التوحيد، واستبدلوا العزى المختلفة بعزوة “إخوان من طاع الله”، حتى تحقق الحلم وأصبح حقيقة.
بعثٌ جديد للراية الخضراء
وفي الدولة السعودية الثانية، أدت الراية دورها المناط بها كما أدته في الدولة السعودية الأولى. فمن بين ركام الدرعية، ومن تحت رماد نخيل الطريف وحطام البجيري، انتُشِلت الراية مرة أخرى، ولُويت على سارية رفيعة لتنتصب عاليًا، ولتتوافد الحواضر والبوادي كرّة أخرى مبايعة الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، والجد الخامس لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
اجتمع السعوديون كما اجتمع آباؤهم من قبلهم مبايعين أئمتهم تحت الراية نفسها، الراية المصنوعة من الإبريسم الأخضر المنسوج عليها عبارة التوحيد، فكان أن قامت الدولة مرة أخرى، ورفرفت رايتها خفّاقة.
يقول المؤرخ الشهير ابن بشر عارضًا سيرة الإمام تركي بن عبدالله: “كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معيَّن وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بخمسة عشر يومًا، ثم يخرج الراية فتُنصب قريبًا من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة. وعندما تجتمع الجيوش يأمر الإمام بحمل الراية وجعلها متقدِّمة أمام الصفوف”.
واستمرت الراية مرفوعة طيلة الدولة السعودية الثانية، بنفس هيئتها التي كانت عليها سابقًا، لما يربو على ثمانين عامًا.
وقد شاهد القبطان الإنجليزي، آي آر بيرس، من على ظهر سفينة “بيرسيوس” التابعة للبحرية البريطانية استعدادات الشيخ مبارك الصباح والإمام عبدالرحمن الفيصل لمعركة الصريف 1318هــ (1901م)، حيث وصف الاستعدادات بقوله: “كان مشهدًا رائعًا وفريدًا، وأظن أنه كان يوجد ما لا يقل عن عشرة آلاف رجل، ومن بينهم قوات آل سعود التي كانت تحمل راية خضراء اللون، وقد كُتب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
الجوهر نفسه بتغييرات طفيفة
أما في الدولة السعودية الثالثة، فقد حدثت تغييرات طفيفة في شكل الراية خلال بواكير توحيد المملكة، فأصبح الجزء الأخضر مربعًا بعدما كان مستطيلًا، وكان مخيطًا بجزء أبيض هو الذي يلي العَلَم. كما توسطتها عبارة التوحيد نفسها مكتوبة على سطرين متتاليين، يعلوهما سيفان متقاطعان، مثَّلا الإضافة الأولى على الراية.
انقضت عدة معارك تحت هذه الراية، ثم أُجري تعديل آخر تمثَّل في إلغاء السيفين المتقاطعين، والاستعاضة عنهما بسيف واحد في الأعلى. وتحت الراية بهيئتها الجديدة، خاض السعوديون عدة معارك حاسمة، ثم حدث بعد ذلك تعديل جديد، حيث جُعل السيف في الأسفل عوضًا عن الأعلى، وكُتبت تحته جملة جديدة، وهي “نصر من الله وفتح قريب”. واستمرت الراية بهذه الهيئة حتى تاريخ ضم الحجاز عام 1344هــ (1926م).
بعد ضم الحجاز، عادت الراية مستطيلة كما كانت، تتوسطها عبارة التوحيد مكتوبة باللون الأبيض خالية من السيوف والعبارات الأخرى. ثم بعد ذلك تطوَّر العَلَم التطور الأخير مكتسبًا شكله الحالي، حيث أصبح عرضه يساوي ثلثي طوله بلون أخضر كامل يمتد من السارية، وتتوسطه الشهادتان وتحتهما سيف مسلول يتجه من اليمين إلى اليسار ومقبضه إلى الأسفل. وفي عام 1357هــ (1938م)، أصدر الملك عبدالعزيز النظام الخاص برفع العَلَم، ونُشر في جريدة أم القرى، الجريدة الرسمية للبلاد.
عَلَم الملك
في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – صدر الأمر الملكي رقم م/3 في 10/2/1393هــ (1973م) الخاص بنظام العَلَم السعودي، وجاء ضمنه استحداث عَلَم الملك الخاص، وهو العَلَم الوطني مضافًا إليه شعار المملكة باللون الذهبي في الركن الأيمن أسفل العَلَم. فقد نصَّت المادة الثانية من النظام على أن: “يكون لجلالة الملك عَلَم خاص يطابق العَلَم الوطني في أوصافه، ويطرَّز في الزاوية الدنيا منه المجاورة لعود العَلَم بخيوط حريرية مُذهبة شعار الدولة وهو السيفان المتقاطعان تعلوهما نخلة”.
العلَم الأخضر..رمز يحفل بالرموز
كما ذكرنا سالفًا، ينطوي العَلَم على رمزية كثيفة في جوفه كما تنطوي البذرة على الشجرة في أحشائها. فالعَلَم يخبر الآخرين بشكل من الأشكال عن هوية أصحابه وماهيتهم، عن قيمهم وأخلاقهم وفضائلهم، ناهيك عن حروبهم وانتصاراتهم، أيامهم العظيمة وأمجادهم التليدة. لذلك تعبّر هذه الرموز عن الهوية القومية لهذا الشعب، كما تستلهم القوانين الخاصة بالعَلَم نفحة من روح أصحابه وثقافتهم.
وبالتأمل في تجليات الرمزية في العَلَم السعودي، نجد أن العقيدة الصافية الصادقة هي ما توحَّد عليه الناس وبايعوا ولاة أمرهم، وتظهر هذه العقيدة بصورتها الناصعة في عبارة التوحيد التي تتوسَّط العَلَم. أما اللون الأخضر فيرمز إلى القيم الإنسانية العميقة التي تميِّز السعوديين، ومنها الكرم والجود والسخاء والصفح والتسامح، وسائر ضروب المروءة، كما أن له ارتباطًا أيضًا بمدلولات ذات صلة بالعقيدة نفسها، فهو مثلًا ينطوي على إشارة إلى لون الجنة ورياضها، ويتصل بقيمتي السلام والرخاء.
أما السيف فهو رمز للقوة والمنعة. فصحيح أن أخلاق السعوديين تأبى الظلم والعدوان، ولكنهم في الوقت نفسه يأبون الذل ويرفضون الضيم. وهذه الرمزية للسيف لها جذور عربية قديمة، حيث يُعد السيف صنوًا للنبل والمروءة العربية.
يخفق في البر والبحر
وإذا نظرنا إلى المواد القانونية المتعلقة برفع العَلَم السعودي في النظام الأساسي للحكم، سنرى مباشرة وبقليل من الجهد تلك الأنفة العربية العريقة، وتلك الكبرياء التي تميِّز أهل الجزيرة منذ فجر التاريخ.
فالقوانين تنص على وجوب رفع العَلَم السعودي ما بين شروق الشمس وغروبها على جميع مباني الحكومة والمؤسسات العامة داخل المملكة، وعلى دور الممثليات السعودية في الخارج بما تقتضيه المجاملة والعرف الدولي، خفاقًا من طلوع الشمس حتى غروبها بما في ذلك أيام الجمع والأعياد.
والأمر ليس مقتصرًا على البر، بل يجب أن يكون العَلَم خفاقًا في البحر أيضًا، على السفن والقطع البحرية السعودية للملاحة في أعالي البحار، عند دخول الموانئ أو الخروج منها، وعند إبحارها على مرأى من سفينة أخرى، أو ميناء أو حصن أو قلعة أو مركز مدفعية أو منارة، وبناءً على طلب أية سفينة حربية. ونرى في هذه الأنظمة انعكاسًا لقيم العرب من الفروسية والنبل، إن أخذنا بالاعتبار أن هناك سفنًا تجارية تُضطر لرفع أعلام دول غير دولها عندما تمر بأماكن يكون فيها خطر عليها، أو اشتباه بأعمال قرصنة بحرية.
بين الحرب والسلم
ولأن الراية موئل الرموز فإن حضور الراية وغيابها على حد سواء يكتسبان رمزية هائلة؛ فهي تحضر في أوقات الحرب، فيعتليها غبار المعارك، وتحيطها زمجرات الفرسان، وصهيل الخيول. أما عندما يستتب السلم عقب تحقيق النصر المؤزر، فإن الراية تتحلل من رداء الحرب وترتدي أزهى ألوانها، ثم تُزف كالعروس محاطة بأهازيج الانتصار وإيقاعات طبول العرضة النجدية.
وتتقدَّم الراية نحو العاهل بتؤدة وكبرياء، وترتفع الدفوف مزركشة بكتل الخيوط الملونة وتهبط بإيقاع منتظم، وهي مرفوعة على سارية رفيعة محاطة بفرسان الملك وقادتهم الأبطال الذين يتقدَّمون ببطء متمايلين طربًا يلاعبون الأسنة والسيوف حتى يقتربوا من العرش. ثم يقومون بمحاكاة أحداث المعركة الأخيرة كما لو أنها حدثت بالأمس، ويصدحون بصوت واحد: “تحت بيرق سيدي، سمعٍ وطاعة”، مكررين مشهد المبايعة الذي حدث بين أجدادهم والملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود.
رقصةٌ مهيبة
يتكرَّر هذا المشهد في كل مناسبة وطنية، ويتفاعل معه الملوك بتأثر بالغ، فيستلون السيوف وينزلون إلى الساحة محتفلين مرددين أهازيج النصر. وتكون الراية بجانب الملك تمامًا، ويكون حاملها أقرب شخص للملك.
وفي وصف هذا المشهد، يقول الأديب المصري عباس محمود العقاد في كتابه “مع عاهل الجزيرة العربية”: “العرضة من أحب الرياضات إلى الملك عبدالعزيز، هي رقصة مهيبة متزنة تثير العزائم وتحيي في النفوس حرارة الإيمان. ويتفق أحيانًا أن يستمع جلالته إلى أناشيدها، ويرى الفرسان وهم يرقصونها، فتهزه الأريحية ويستعيد ذكرى الوقائع والغزوات، فينهض من مجلسه ويزحزح عقاله ويتناول السيف وينزل إلى الحلبة مع الفرسان، فترتفع حماستهم حين ينظرون إلى جلالته بينهم”.
العَلَم في القصائد الوطنية
للعَلَم السعودي حضور كبير في القصائد الوطنية، لا سيما أنها قصائد حماسية تُغنى في لحظات الاحتفال والمناسبات الوطنية. وقد يحضر العَلَم بشكل مباشر، كما في قصيدة سعيد فياض الشهيرة “بلادي منار الهدى”، أو بشكل مضمر، كما في قصيدة الأمير بدر بن عبدالمحسن “فوق هام السحب”.
ففي قصيدته، يقول فياض: “باسم المهيمن حامي العَلَم”، مؤكدًا أن الله سبحانه وتعالى هو من سيحفظ هذا العَلَم شامخًا مرفرفًا، وذلك لوجود عبارة التوحيد مسطَّرة على وجه العَلَم.
أما البدر فيخاطب الراية في لحظة شاعرية، لحظة صباح باكر في وسط ميدان مليء بالجنود، يتقدَّم جندي السارية ليرفع العَلَم على السارية الرفيعة، يراقبها البدر ترتقي وترتقي حتى تصل قمة السارية، ثم تستقر.
لكن الشاعر لا يكتفي بذلك بل يطلب المزيد، إذ يودُّ للراية أن تستمر في الارتقاء حتى تعلو السحاب وتتخطاه، فيصدح بهذه القصيدة الرائعة مخاطبًا الوطن كله، مصورًا كفاح الآباء والأجداد، الذين تكاتفوا واتحدوا تحت هذه الراية، حتى جعلوا هذا البلد “ما مثله بها الدنيا بلد”.
اترك تعليقاً