من عدد شوال 1407هـ (مايو-يونيو 1987م)
إذا ألقينا النظر على خارطة للقسم الجنوبي من آسية، على ما كانت عليه الأحوال حوالي سنة 100 للميلاد، أمكننا أن نتعرف إلى أنطاكية، وصور، وغزة، والاسكندرية، على البحر المتوسط، وعدن عند مخرج باب المندب إلى المحيط الهندي. وهذه الموانئ جمعاء تقع في أقصى غرب الخارطة. أما في الشرق، في الصين وما إليها، نقع على “هايفونغ” في الصين و”سبانا” في جنوب الملايو، وهما من الموانئ، كما نرى على الخارطة، ومدينة “لانشو” الواقعة في شمال الصين على ضفاف النهر الأصفر.
وقد كانت الموانئ والمدن الشرقية نقط ابتداء طرق تجارية، برية وبحرية، تخرج منها وتصل الموانئ الواقعة في الغرب. وعلى هذه الطرق كانت تسير القوافل، في الشمال، عبر آسية الوسطى، كما كانت تنتقل السفن، في الجنوب من ميناء إلى ميناء. وكانت السفن شأن القوافل، تحمل من الصين الحرير غربًا والكثير من السلع الغربية إلى الشرق. وسنترك، مؤقتًا، طرق القوافل لنتحدث عن التجارة البحرية بين بلاد العرب والصين.
ومع أن هذه التجارة قديمة، إلا أن نشاطها ازداد بشكل واضح بعد قيام الامبراطورية الرومانية وتنظيمها أيام “أغسطوس”. فإن هذا كان معناه فتح أسواق على نطاق واسع في البحر المتوسط، كانت مستعدة للحصول على التجارات الصينية والهندية وما تنتجه الجزر الإندونيسية. فالحرير والبهارات والطيوب وما إليها كانت تُحمل من الأسواق القصية في الشرق، كما كانت تُحمل الأخشاب العطرة من المناطق المتوسطة. أما من الغرب فقد كانت رومة تدفع الذهب والفضة أصلًا، وبعض الزجاج والأقمشة. أما بلاد العرب، وخاصة الجزيرة، فقد كان يُحمل منها البخور، كما كانت المناطق الإفريقية المتاخمة تزود التجار بالعاج وسن وحيد القرن والذبل. وكانت بلاد الشام تزود التجار بالأقمشة وبعض المصنوعات المعدنية وبالزيتون وزيته.
لتصفح العدد: 393_87.pdf (qafilah.com)
والمهم هو أنه حتى القرن السادس للميلاد كانت هذه المتاجر تنقلها شرقًا وغربًا سفنٌ محلية تبدأ طرقها من الموانئ الهندية أو موانئ الجزيرة العربية. ولم تبدأ السفن بالانتقال من سيلان (سرنديب، سريلانكا) إلى الموانئ الصينية محملة بالسلع، وتعود من هناك بالحرير والقيشاني إلا في القرن السادس للميلاد. وكانت تجارة المحيط الهندي، من الهند إلى الخليج العربي والبحر الأحمر والقرن الإفريقي حكرًا على العرب.
وحدث في القرن السابع الميلادي تبديل أساسي في التركيبة السياسية في المنطقة الشرقية (الصين) والمنطقة الغربية (المنطقة الممتدة من مصر إلى إيران). فقد اتحدت الصين تحت قيادة دولة تانغ (618م-906م)، وقامت الدولة العربية الإسلامية (الراشدة والأموية والعباسية). ومعنى هذا تكون جماعتين كبيرتين، في منطقتين واسعتين، وإنشاء بلاط أو أكثر، كان يتطلب الكثير من الحاجات، الضروري منها والكمالي. فكان أن نشطت التجارة البحرية ثانية بعد ركود جاء في أعقاب تأخر الدولة الرومانية الشرقية اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا (حوالي 275م-500م).
بلغ هذا النشاط التجاري ذروته أيام العباسيين بسبب الحضارة التي عاشت في أكنافهم والتي نعموا بمباهجها. والتجار العرب، الذين كانوا المشرفين على التجارة البحرية قبل الإسلام، اندفعوا الآن إلى البحار الشرقية النائية، بحيث إنهم وصلوا، في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) إلى الموانئ الصينية عبر مضيق ملقا وموانئ إندونيسيا. وعندنا وثيقة تعود إلى القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) تبين أن التجار العرب المسلمين من سيراف وصلوا كنتون “خانفو”.
وقد كانت السفن التي تمخر عباب البحار إلى الصين ضخمة عالية، إذ كان ثمة حاجة إلى سلم طوله ثلاثة أمتار يستعمله البحارة للوصول إلى سطح السفينة. والوثيقة التي أشرنا إليها قبلًا هي التي خلَّفها سليمان التاجر عن سيره إلى الصين. وفي “سيراف” كانت تجتمع السفن، وقد تُحمل المتاجر في صغار السفن من البصرة إلى “سيراف”، حيث توضع في السفن الكبار. وكانت السفن تحمل النفاطين والمقاتلين “خشية متلصصة البحر”. ويضيف أنه كان أمام السفن طريقان، إما على محاذاة شواطئ فارس ثم شواطئ السند، وإما أن تعرج السفن على صحار ومسقط، حيث تحمل بضائع أخرى وتتزود بالماء ثم تسير مع الرياح الموسمية إلى ساحل مالابار غرب الهند. وكانت السفن تقضي سنة في الانتقال من سيراف إلى الصين. وكان يُنقل عليها الأقمشة والخيوط الحريرية والكافور والمسك والأفاوية والعاج والحديد وقضبان النحاس وغيرها، إما غربًا أو شرقًا.
ويقول سلمان التاجر، بعد أن يصف الطريق بشيء من التفصيل: “وإذا دخل البحريون الميناء من البحر، قبض الصينيون متاعهم وصيَّروه في البيوت وضمنوا الدرك إلى ستة أشهر إلى أن يدخل آخر البحريين. ثم يؤخذ من كل عشرة ثلاثة (أي 30 في المائة) عينًا (رسوم الميناء)، ويسلم الباقي إلى التجار وما احتاج إليه السلطان أخذه بأغلى الثمن وعجله ولم يظلم فيه. وما تبقى يُعرض في الأسواق للبيع”.
وكانت كنتون (خانفو العرب – وكوان تشو الصين) ملتقى التجار العرب المسلمين في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، لكن زيتون (وتسوان – تشو هو اسمها الصيني) أصبحت الميناء المفضل عند التجار العرب المسلمين فيما بعد. وكما كان جميع الأجانب يقيمون في حي خاص بهم في كنتون، أصبح هذا هو العرف بالنسبة لزيتون وغيرها فيما بعد. والذي نعرفه هو أن أحد أعيان الجالية الأجنبية كان يُعهد إليه بالإشراف على هذه الجماعة.
وهكذا فقد كان للمسلمين شخص منهم يتولى شؤونهم. فقد روى سليمان التاجر “أن لخانفو (كنتون)، وهو مجتمع التجار، رجلًا مسلمًا يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون إلى تلك الناحية، وإذا كان في العيد صلى بالمسلمين وخطب ودعا لسلطان المسلمين. وأن التجار العراقيين لا ينكرون من ولايته شيئًا في أحكامه وعمله بالحق وبما في كتاب الله عز وجل وأحكام الإسلام”.
وقد كان في كل ميناء موظف هو “مراقب التجارة البحرية”. فإذا وصل الربابنة الأجانب (أي غير الصينيين) إلى الميناء، سلموا ما معهم من المتاجر على نحو ما ذكرنا. ومثل ذلك يقال بالنسبة للربابنة الذين يكونون قد ابتاعوا ما شاءوا من المتاجر واعتزموا الخروج. فإنه يترتب عليهم أن يسجلوا السفن عند “مراقب التجارة البحرية”، ثم عليهم أن يقدموا البيانات “المانفستو” عن المتاجر. وبعد ذلك يدفعون ما يترتب عليهم من رسوم التصدير والخروج من الميناء، بإرشاد البحارة الصينيين، وعندها يغادرون الميناء.
وفيما يتعلق بإشراف مسلم على الجماعات الإسلامية في الموانئ، أو غيرها من المدن، فلنلاحظ أن عدد التجار المسلمين ازداد تدريجًا، كما ازداد عدد المقيمين منهم في المدن الصينية. لذلك فإننا نجد أنه في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) لم يقتصر الأمر على تعيين رجل للاهتمام بشؤون المسلمين، بل أصبح لهم قضاة وأئمة مساجد، كما أصبح لهم أسواقهم الخاصة.
وليس من شك في أن الأخبار المفيدة عن المسلمين في بعض المدن الصينية هي التي جاءتنا من شيخ الرحالين المسلمين ابن بطوطة. وابن بطوطة، كما يعرف القراء مغربي، وُلد في طنجة (703هـ / 1304م). وفيها تلقى علومه الأولى، في الشرع والفقه والأدب واللغة. وفي الثانية والعشرين من سنِّه، خرج من طنجة يريد أداء فريضة الحج. لكنه أُغرم بالسفر، فلم يرجع إلى موطنه إلا بعد 25 سنة قضاها يذرع بلاد الله، دار الإسلام ودار الحرب. فقطع ما لا يقل عن 120,000 كيلومتر! ولم يبق من العالم المعروف يومها أصقاع كبيرة أو ذات قيمة في آسية وإفريقية لم يزرها ابن بطوطة. عاد ابن بطوطة، بعد زيارتين أخريين لبلاد السودان وللأندلس، إلى المغرب وتوفي هناك سنة 770هـ / 1369م.
زار ابن بطوطة الصين في أواسط القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) بين سنتي 748 و750هـ / 1345 و1347م)، وكان ذلك في أواخر عهد أسرة يوان (1297م-1368م). وكان عدد المسلمين قد ارتفع كثيرًا. ومن المؤكد أنه لم يكن جميع المسلمين أجانب، بل لا شك في أن بعض الصينيين كانوا قد اعتنقوا الإسلام.
كان ابن بطوطة قد أقام في الهند ثماني سنوات، وولي القضاء في العاصمة “دلهي”. وقد انتدبه سلطان دلهي، غياث الدين محمد شاه ابن طُفلق (725-752هـ / 1325-1351م) في مهمة إلى إمبراطور “خان” الصين، وسلمه هدية ثمينة لينقلها إليه، إلا أن السفينة التي كانت فيها الهدية تحطمت وخسر ابن بطوطة كل شيء. وخشي اللوم إن هو عاد إلى دلهي، فاتجه إلى جزيرة سرنديب “سيلان، سريلانكا” وجزر المالديف وسومطرى، ثم ذهب إلى الصين، وهناك ذكر أنه رسول سلطان دلهي إلى الخان، فاسُتقبل بحفاوة. وقد يسر له ذلك، وعلمه ودقته ونظرته الفاحصة، أن يتعرف إلى أمور كثيرة في المنطقة التي زارها، وهي بطبيعة الحال جزء صغير من الصين. والذي نريد أن ننقله عن ابن بطوطة هو بعض الملاحظات التي ذكرها عن المسلمين ومنزلتهم في المدن التي مر بها.
كانت أول مدينة وصل إليها ابن بطوطة زيتون “تسوان تشو”، و”هي مدينة عظيمة.. مرساها من أعظم مراسي الدنيا. رأيت به نحو مائة جُنك (مركب) كبار، أما الصغار فلا تحصى”.
ويُحدثنا ابن بطوطة: “وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين، خُيّر في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين مُعيَّن، أو في الفندق. فإن أحب النزول عند التاجر، حُصر ماله وضمنه التاجر المستوطن، وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله، فإن وجد شيء منه قد ضاع أغرمَه التاجر المستوطن الذي ضمنه. وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه. وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه، وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه. ويقولون: لا نريد أن يُسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا”.
وبعد هذا التقرير العام يتطرق ابن بطوطة إلى ما أصابه هو بالذات فيقول: “وفي يوم وصولي إليها (زيتون) رأيت بها أميرًا كنت أعرفه، فسلم عليّ وعرّف صاحب الديوان بي، فأنزلني في منزل حسن، وجاء إليّ قاضي المسلمين وشيخ الإسلام، وجاء إليّ كبار التجار”.
وجدير بالذكر هنا أن ابن بطوطة يشير إلى صاحب الديوان، وهذا، في رأينا، هو “مراقب التجارة البحرية” الذي مر بنا ذكره. وقد آثر ابن بطوطة أن يقيم في الفندق في الميناء. فالديوان كانت فيه مكاتب الجمرك ومخازن والفندق وسوق “خان” للمعاملات التجارية. ولنلاحظ أن الجماعة الإسلامية في زيتون كان لها قاضٍ وشيخ للإسلام.
كان على ابن بطوطة أن ينتظر الإذن من الخان أو القان (الإمبراطور) كي يتجه إليه. لذلك طلب من المسؤول في زيتون أن يرتب له زيارة لمدينة صين الصين أو صين كلان في الشمال. وتم له ذلك، وبعث الحاكم معه من أصحابه من يوصله. ويقول رحالتنا: “وركبت النهر في مركب يجذف فيه المجذفون وهم وقوف. ويظللون على المركب ثيابًا تُصنع من نبات ببلادهم يشبه الكتان”. ووجد في صين كلان السنجاري، أحد الفضلاء الأكابر، وهو الذي استضافه أسبوعين. وكان للمسلمين هناك قاض وشيخ ولهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق. ويضيف: “وكانت تُحف القاضي والمسلمين تتوالى عليّ، وكل يوم يصنعون دعوة جديدة ويأتون إليها بالمغنين”.
ولما عاد إلى زيتون وجد أن إذن الخان قد وصل. فاختار السفر إلى الخنسا (هانغ-تشو) نهرًا، فجُهز له مركب حسن من المراكب المعدة لركوب الأمراء. وسار في الضيافة يتغدى بقرية ويتعشى بأخرى. فوصل بعد سفر عشرة أيام إلى مدينة “قَنجَنفو”. وقال: “وهي مدينة كبيرة حسنة في بسيط أفيَح.. وعند وصولنا إليها خرج إلينا القاضي وشيخ الإسلام والتجار، ومعهم الأعلام والأبواق والأنقار وأهل الطرب. وأتوا بالخيل فركبنا، ولم يركب معنا غير القاضي والشيخ. وضيف السلطان عندهم معَظَّم أشد التعظيم. ودخلنا المدينة ولها أربعة أسوار.. ويسكن في داخل السور الثالث المسلمون. وهنالك نزلنا عند شيخهم”.
وبعد إراحة في قنجنفو، عاد ابن بطوطة ومرافقوه إلى النهر، فركبوه سبعة عشر يومًا قبل أن يصلوا الخنسا. يقول الرحالة: “وعند وصولنا إليها خرج إلينا قاضيها وشيخ الإسلام بها وأسرة من كبار المسلمين ينتسبون إلى عثمان ابن عفان المصري. و(كان) معهم علم أبيض والأطبال والأنقار والأبواق، وخرج أميرها في موكبه، ودخلنا المدينة وهي ست مدن”.
يُعدد ابن بطوطة المدن الست على النحو التالي: الأولى لحراس المدينة وأميرهم، والثانية لليهود والنصارى والتُرك، والثالثة يسكنها المسلمون (وقد أقام ابن بطوطة هنا خمسة عشر يومًا). والمدينة الرابعة هي دار الإمارة، وبها سكنى الأمير، والمدينة الخامسة يسكنها عامة الناس، أما المدينة السادسة فيسكنها البحرية والصيادون والنجارون والرماة والرَجالة، أي المشاة من المقاتلين.
يصف ابن بطوطة المدينة الثالثة، وهي التي يسكنها المسلمون بقوله: “وفي اليوم الثالث من وصولنا الخنسا دخلنا المدينة الثالثة، ويسكنها المسلمون. ومدينتهم حسنة وأسواقهم مرتبة كترتيبها في بلاد الإسلام وبها المساجد والمؤذنون. سمعناهم يؤذنون بالظهر عند دخولنا. ونزلنا بها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري، وكان أحد التجار الكبار. وقد استحسن هذه المدينة فاستوطنها وعُرفت بالنسبة إليه، وأورث عقبه بها الجاه والحرمة. وهم على ما كان عليه أبوهم من الإيثار للفقراء والإعانة للمحتاجين. ولهم زاوية تُعرف بالعثمانية، حسنة العمارة لها أوقاف كثيرة، وبها طائفة من الصوفية. وبنى عثمان المسجد الجامع بهذه المدينة، ووقف عليه وعلى الزاوية أوقافًا عظيمة. وعدد المسلمين بهذه المدينة كثير. وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يومًا”. وكانت الجماعة تحتفل بابن بطوطة وصحبه كل يوم وليلة في دعوة جديدة. وكانوا يحتفلون بأطعمتهم، ويركبون معه كل يوم للنزهة في أقطار المدينة.
وفي المدينة الرابعة، وهي مدينة الإمارة على ما مر بنا، ذهب أصحاب ابن بطوطة عنه ولقيه الوزير الذي حمله إلى الأمير قُرطاي. وقد احتفى بابن بطوطة. وعلى حد تعبير الرحالة: “أضافنا) قُرطاي) بداره وصنع الدعوة، وحضرها كبار المدينة، وأتى بالطباخين المسلمين، فذبحوا وطبخوا الطعام. وكان هذا الأمير يناولنا الطعام بيده… وأقمنا في ضيافته ثلاثة أيام”.
وسار ابن بطوطة بعد ذلك إلى خان بالق (بكين). ويقول إنه إلى الشمال من الخنسا لا يوجد “أحد من المسلمين إلا من كان حاضرًا غير مقيم”. ومن هنا عاد إلى جنوب الصين ثم إلى الهند ثم إلى بلاده.
وقد روى ابن بطوطة قصة حدثت له لما كان في قنجنفو، قال: “بينا أنا يومًا في دار مضيفي (القرلاني) إذ بمركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم. فاستؤذن له علي. وقالوا: مولانا قوام الدين السبتي (وسبتة مدينة في شمال المغرب على شواطئ المتوسط)، فعجبت من اسمه (لأن طنجة، مدينة ابن بطوطة، قريبة من سبتة)، ودخل عليَّ. فلما حصلت المؤانسة بعد السلام سنح لي أني أعرفه. فأطلت النظر إليه. فقال: أراك تنظر إليَّ نظر من يعرفني! فقلت له من أي البلاد أنت؟ فقال من سبتة. فقلت له وأنا من طنجة. فجدد السلام عليَّ، وبكى حتى بكيت لبكائه، فقلت له: هل دخلت بلاد الهند؟ فقال لي نعم دخلت حضرة دهلي. فلما قال ذلك تذكرته. وقلت أأنت البُشريُّ؟ فقال لي نعم. وكان وصل مع خاله أبي القاسم المرسي (من مرسية بالأندلس)، وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه، من حذاق الطلبة يحفظ الموطأ (وهو كتاب الإمام مالك في الفقه). وكنت أعلمت سلطان الهند بأمره فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وطلب منه الإقامة عنده فأبى. وكان قصده بلاد الصين. فعظُم شأنه بها واكتسب الأموال الطائلة”.
ويضيف ابن بطوطة عبارة لها دلالة، يقول: “ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان (الغربي)”.
هذا هو المجال التجاري والحضاري الواسع الذي كان العرب والمسلمون يتنقلون ويعملون فيه.
اترك تعليقاً