يحتفل العالم في الأول من مارس من كل عام باليوم العالمي للعلاج بالموسيقى. ويظلل هذه المناسبة قول لودفيج فان بيتهوفن: “الموسيقى هي نوعٌ من الوحي، قد يكون أعمق من الحكمة والفلسفة. الموسيقى هي التربة الخصبة للنفس حتى تحيا وتفكر وتخترع”. فالموسيقى هي لغة عالمية، والعلاج بالموسيقى متجذر في معظم الحضارات، ومُورِس عبر التاريخ القديم والحديث؛ لتلبيته احتياجات جسدية ومعرفية واجتماعية وعاطفية، للأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة. وقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة القوة العلاجية للموسيقى من خلال الفهم العلمي لتأثيراتها الفيزيولوجية والنفسية. ويبدو أنه سيزدهر في عصر تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ لأنه يقدم مزايا لم تكن موجودة من قبل.
عاشت المفاهيم السحرية والغيبية للمرض جنبًا إلى جنب لآلاف السنين مع الطب “العقلاني”، إلى أن وُضِعت الأسس العلمية للطب ولعلم النفس والتمييز بينهما في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على أساس أن الطب هو علاجٌ للجسد، وعلم النفس علاجٌ للسلوك. ولهذا السبب، اختلط الأمر على كثير من الباحثين باعتبار العلاج بالموسيقى لا ينتمي إلى الطب. لكن، هذا التمييز سمح لهذا العلاج بالتقدم على مدى أكثر من قرن، بدءًا “من اعتباره غير علمي، إلى تصنيفه ضمن العلوم الإنسانية، ليتكرَّس مؤخرًا كفرع من علوم الدماغ الفعلية”، كما جاء في مقالة في دورية “بروجرس إن برين” (Progress in Brain)، 2015م.
من الماضي البعيد إلى عصرنا
يُعتبر العلاج بالموسيقى أحد أقدم أنواع العلاج الموجودة في العالم. فقد كان يُمارس في العصور القديمة تبعًا للاعتقادات السائدة آنئذٍ. فقد رأى أفلاطون أن الموسيقى يمكنها أن تؤثر في العواطف، ومن ثَمَّ فإنها تؤثر في طبيعة الفرد. أمَّا أرسطو، فقد اعتقد أن الموسيقى تؤثر في الروح، ووصف الموسيقى بأنها قوة تطهّر المشاعر. واستُخدمت الموسيقى في الحضارة المصرية القديمة في علاج المرضى؛ إذ إن الطبيب “حتب”، وهو أول طبيب مصريّ قديم في عصر الأسرة الثالثة (3500 قبل الميلاد)، يُعتبر أول من أنشأ مؤسسة طبية تستخدم العلاج بالموسيقى. وكان يوجد في “منف”، معبد صغير بُني في عهد الأسرة السادسة (2280 قبل الميلاد)، مخصص لعلاج المرضى الذين يعانون أمراضًا نفسية وعصبية عن طريق فرق موسيقية خاصة بالمعبد، تعزف ألحانًا هادئة، مع تناولهم بعض الأعشاب المهدئة للأعصاب. وهناك عدة حضارات أخرى حول العالم استخدمت الموسيقى بوصفها خطًا علاجيًا.
وقد بُني في العالم العربي والإسلامي ما يُعرف بالبيمارستانات (المستشفيات) المشهورة بالعلاج بالموسيقى، ومن أشهرها بيمارستان “سيدي فرح” في مدينة فاس، الذي بُني عام 685هـ (1286م)، على يد السلطان المريني، أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق، وقد أوقف هذا السلطان عليه أملاكًا كبيرة، مما مكَّنه من الوصول إلى أوج ازدهاره، خصوصًا في القرن الرابع عشر الميلادي. واعتُمِد هذا البيمارستان نموذجًا مثاليًا لبناء أول مستشفى للأمراض النفسية في العالم الغربي عام 1410م في إسبانيا. وانتشرت هذه البيمارستانات أيضًا في القاهرة للعلاج بالموسيقى منها بيمارستان قلاوون، الذي صرف عليه سلاطين مصر أموالًا كثيرة، وكان المرضى المصابون بالأرق يُعزلون في قاعة منفردة، لسماع ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون بالاستماع إلى القصص التي يلقيها عليهم القصّاص، وكانت تُمثّل أمامهم الروايات المضحكة.
أمَّا في القرن العشرين، فقد اُفتتح أول مركز للعلاج بالموسيقى في مصر عام 1950م، حين أُسّست “الجمعية الوطنية للعلاج بالموسيقى”. ثم أُسّس بعد ذلك في تونس المعهد الوطني لحماية الطفولة، الذي استخدم الموسيقى للعلاج والتربية. وكذلك، أُطلق مشروع مركز الشرق الأوسط للعلاج بالموسيقى في الأردن عام 2008م. يهدف هذا المشروع إلى تأهيل مجموعة من حملة البكالوريوس في تخصص العلاج بالموسيقى من جهة، وتقديم هذه الخدمة لمن يحتاج إليها من المرضى صغارًا وكبارًا، ومن ذوي الاحتياجات الخاصة، والمساجين، والأشخاص الذين يتعرضون للعنف في الحروب، وغيرها من الأمراض النفسية والاجتماعية. وأُسّست الجمعية اللبنانية للعلاج بالموسيقى عام 2017م، وبدأ في ذلك الوقت تدريس هذه المادة في الجامعة الأنطونية. أخيرًا، أطلقت مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، في دولة الإمارات العربية المتحدة، في شهر فبراير 2023م، الدفعة التاسعة من كادر المدينة في “برنامج العلاج بالموسيقى” الذي تنظّمه منذ عام 2013م، بالتعاون مع جامعة “إيوا” من كوريا الجنوبية، والجمعية الكورية للعلاج بالموسيقى. من أبرز الأهداف الرئيسة لهذا المشروع، هو التركيز على فعّالية العلاج بالموسيقى في تطوير مهارات الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وقدراتهم، من خلال مشاركة أحدث الخبرات والممارسات والدراسات في مجال العلاج بالموسيقى وتقديمها محليًا وإقليميًا ودوليًا.
الموسيقى والعقل البشري
يشمل العلاج بالموسيقى مجموعة متنوعة من الأنشطة، مثل: الاستماع إلى الموسيقى، والعزف على الآلات الموسيقية، والغناء، والتأليف الموسيقي. ويمكن أن يستفيد من العلاج بالموسيقى الأشخاص من جميع الأعمار، ويشمل مجموعة واسعة من الحالات الصحية والعقلية. ويعتمد المعالِج المتخصص على استعمال الموسيقى ودمجها في مساقات العلاج النفسي ونظرياته. فعلى سبيل المثال، يفيد تطبيق هذا النوع من العلاج في إيجاد طريقة ملائمة لعلاج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل: الأطفال الذين يعانون التوَّحد، وصعوبات في التعلّم، ومشكلات سلوكية واجتماعية، أو مَن يعانون ضغوطًا نفسية. ولطالما استمع الجراحون إلى موسيقاهم المفضلة لتخفيف الضغط والتوتر أثناء العمل في غرفة العمليات.
كيف تؤثر في العقل والعواطف؟
تؤثر الموسيقى في العقل والعواطف البشرية، علميًا، بإطلاق الدوبامين في الدماغ، وهي مادة كيميائية أو هرمون موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، يعزّز من الشعور بالسعادة؛ بالإضافة إلى أنه ناقل عصبي، أي أنه يُرسل إشارات بين الجسم والدماغ. والمعروف أن التوازن الصحيح للدوبامين في جسم الإنسان، هو أمرٌ مهم جدًا؛ لأنه يؤدي دورًا في التحكّم في المهارات الحركية والاستجابات العاطفية، ما يجعله ضروريًا للصحة البدنية والعقلية. فعندما يواجه المرء تجربة ممتعة، مثل الاستماع إلى أغنيته المفضلة، تضيء هذه المناطق في الدماغ.
يشمل العلاج بالموسيقى
الاستماع إليها، والعزف على
الآلات الموسيقية، والغناء،
والتألي ف الموسيقي،
ويشمل مجموعة واسعة من
الحالات الصحية والعقلية.
التأثير في الوظائف المعرفية والإدراكية
بهدف عقد مقارنة بين الأبحاث التي استخدمت الموسيقى كنوع من العلاج لتحسين الوظائف المعرفية والإدراكية، أُجريت ثماني دراسات نُشرت نتائجها في مجلة “يوروبيان سايكياتري”، 2010م، وشارك فيها 689 شخصًا، وكانت أربع منها في أوروبا (اثنتان في فرنسا واثنتان في إسبانيا)، وثلاثة في آسيا (اثنتان في الصين وواحدة في اليابان)، وواحدة في الولايات المتحدة الأمريكية. وأظهرت النتائج أنه بالمقارنة مع مجموعات المراقبة (الضابطة) المختلفة، هناك تحسن في الوظائف المعرفية والإدراكية بعد تطبيق العلاج بالموسيقى. وقد ظهر تأثيرٌ أكبر عندما شارك المرضى في صنع الموسيقى عند استخدام التدخل الموسيقي النشط (Active music intervention). لكن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لفهم تأثيرات العلاج بالموسيقى بشكل كامل، وتحديد إستراتيجية التدخل الأمثل، وتقييم التأثيرات طويلة المدى على الوظائف الإدراكية والمعرفية.
التأثير في العواطف
أمَّا عن تأثير العلاج بالموسيقى في العواطف الإنسانية، وهو الجانب الأقوى، فيمكن للموسيقى أن تساعدنا في توسيع وعينا العاطفي؛ لأنه يصبح التعرّف على المشاعر أسهل بعد العلاج بالموسيقى. فالموسيقى تضخّم المشاعر، وقد تسرّع عملية التخلص من المشاعر المكبوتة. وهناك دراسة أخرى تناولت تأثير الموسيقى على قدرة الأطفال المصابين بالسرطان على التعبير عن عواطفهم أثناء فترة العلاج، ونُشرت في المجلة الأوروبية للعناية بمصابي السرطان (European Journal of Cancer Care) عام 2023م. أُجريت الدراسة على فترتين: الأولى بين يناير ومايو 2020م، والثانية من نوفمبر 2021م إلى فبراير 2022م، وتخللتها 65 جلسة علاج بالموسيقى، وكانت جميعها عبارة عن جلسات فردية أُجريت في غرفة المريض أو في المستشفى. وفي المتوسط، تلقى الأطفال المشاركون جلستين أو ثلاث جلسات علاج بالموسيقى، أُجريت 21 منها عبر الإنترنت. فأظهرت النتائج قوة التحول الإيجابية التي أضافتها جلسات العلاج بالموسيقى على الأطفال المصابين بالسرطان من حيث عواطفهم. فقد شجعت الموسيقى التعبير عن المشاعر لدى الأطفال وحسّنت حالتهم المزاجية. بالإضافة إلى ذلك، شجعت أيضًا التفاعلات الاجتماعية في المستشفى على التعامل بشكل أفضل مع مرضهم من خلال الوعي الذاتي.
تقليل الاضطرابات العصبية
يمكن أن تمثل الأنشطة القائمة على الموسيقى تدخلًا إيجابيًا لتقليل الاضطرابات النفسية والسلوكية المرتبطة بالاضطرابات، وتعزيز التعافي الوظيفي من دون آثار جانبية. وعلى وجه التحديد، يمكن التعرّف على أهم نتائج التدخلات الموسيقية على الجانب النفسي في الجوانب الأكثر ارتباطًا بالمزاج، خاصة في تقليل الاكتئاب والقلق؛ إذ غالبًا ما يكون الشخص المكتئب محصورًا في دائرة من الإدراك السلبي والمدمر للذات، وغير قادر على تذكر البدائل المعقولة للدائرة الضيقة من السيناريوهات المنفّرة. هذه الإدراكات تكون مصحوبة أيضًا بحالات غير طبيعية من الإثارة، مثل: القلق الشديد أو الأرق أو الخمول. وتؤثر الموسيقى، خاصةً المقطوعات الموسيقية المختارة جيدًا، في مساعدة الأفراد على الخروج من الاكتئاب، فيرتاح الشخص المصاب ويتحسّن مزاجه من خلال المشاركة في جلسات العلاج بالموسيقى، وكتابة الأغاني كوسيلة للتعبير عن مشاعره واتخاذها وسيلة لتغيير حالات الإثارة في اتجاهات إيجابية. إضافة إلى تحسين التواصل ومهارات التعامل مع الآخرين واحترام الذات.
يمكن تفسير فعّالية الموسيقى على الصحة النفسية من خلال عدة مستويات. على مستوى الكيمياء العصبية، نعلم أن الموسيقى يمكن أن تنشط الأجزاء الحوفية وشبه الحوفية (limbic and paralimbic) في الدماغ، مثل: اللوزة الدماغية والحصين والنواة المتكئة (nucleus accumbens)؛ وهي الأجزاء في الدماغ المسؤولة عن الاستجابة للانفعالات والمشاعر ذات التأثير الإيجابي في الإنسان، والتي تعمل بشكل غير طبيعي في المرضى الذين يعانون عنصرًا اكتئابيًا مرتفعًا. وعلى المستوى النفسي، يمكن للموسيقى أن تنشط العديد من الوظائف الاجتماعية، ويمكن أن تزيد من التواصل والتماسك الاجتماعي، ويمكن أن تعزز العلاقات التعاطفية. وأخيرًا، على مستوى إعادة التأهيل، يمكن أن يشمل تأثير الموسيقى في عمل المناطق الحركية وتنظيمها. وذلك لأن الموسيقى ترتبط بالمتعة، ومن ثَمَّ يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي في الحالة المزاجية وتحسين عملية إعادة التأهيل.
ومن أبرز قصص العلاج بالموسيقى الناجحة هي اعتمادها علاجًا لتحسين الصحة النفسية للمحاربين القدامى الذين يعانون “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD). ففي كثير من الحالات، ساعدت جلسات العلاج بالموسيقى الجنود السابقين في التعبير عن مشاعرهم والتغلب على بعض الأعراض المرتبطة بهذا النوع من الاضطراب.
التطور التكنولوجي في علاج الموسيقى
يوفر دمج الذكاء الاصطناعي في العلاج بالموسيقى مميزات ثورية لم تكن موجودة سابقًا. ويستطيع الخاضعون للعلاج الاستفادة من قدرة الذكاء الاصطناعي على التعبير عن أفكارهم وعواطفهم، مما يحفز موجة من الإبداع والثقة. فيصبح بإمكانهم، على سبيل المثال، كتابة الأغاني وتأليف موسيقى أصلية بناءً على موضوعات تناسبهم. ويوفر الذكاء الاصطناعي الكلمات الأولية، ويعمل كنقطة انطلاق يمكن للأشخاص من خلالها الغوص في عملياتهم الإبداعية الخاصة. إن فرصة تعديل هذه الكلمات وتجربتها تمكنهم من استكشاف طرق جديدة للتعبير، وتسريع تقدم جلسات العلاج. لكن على الرغم من مزاياه العديدة، فإن الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا للمكوّنات الأساسية للعلاج بالموسيقى، مثل: التواصل البشري والتعاطف والفهم البديهي. إنها أداة يمكنها، عند استخدامها بكفاءة، أن تعزّز النتائج العلاجية بشكل كبير. ودور المعالجين بالموسيقى هنا، هو تحقيق التوازن بين الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي مع الاحتياطات اللازمة لتوفير تجربة أجدى للمرضى.
المستقبل المشرق للعلاج بالموسيقى
إن فهم دور الموسيقى ووظيفتها في العلاج والطب يخضع لتطور سريع، توافقًا مع التقدم الكبير في أبحاث علم الأعصاب والدماغ. والعلاج بالموسيقى فعَّال في إدارة الأمراض بسبب سهولة تطبيقه وانعدام الأضرار أو الآثار الجانبية له. لذلك، من الضروري إجراء المزيد من الدراسات حول الأبحاث المتقدمة لاستكشاف الفعالية العلاجية للموسيقى على الجسم، والتحقق من صحة تدخل العلاج بالموسيقى. واليوم، يعمل آلاف المختصين بالعلاج بالموسيقى في العالم في المستشفيات والمراكز الصحية ومراكز التأهيل والرعاية المختلفة، جنبًا إلى جنب مع الأطباء والمختصين؛ للوصول إلى تحسين حالة المرضى، وتحقيق تطور إيجابي في العلاج.
اترك تعليقاً