برع الفنان السعودي عبدالله المرزوق باستخدام اللون الأسود في أعماله، وفرض سيطرته على لوحاته، في سبيل الحصول على لون موحد لعناصر متعددة من أعماله الفنية. كما كان دائم البحث عن قدرة هذا اللون في تأسيس بنية اللوحات التشكيلية، ومهاراته البصرية في امتصاص بقية الألوان المحيطة به والسيطرة عليها، بما يمتلك من جاذبية وقدرة تامة.
لطالما كان الأسود اللون الوحيد، الذي يمكن أن ترى من خلاله كل الألوان، اللون الذي يحمل الكثير من المكانة الرفيعة والذائقة الراقية، “ملك الألوان” الذي طالما اكتسب دلالات ثقافية تعزو ارتباط هذا اللون بمشاعر الحزن والرثاء، بينما يمثل اللون الاختزالي ذو السيادة الذي تستطيع من خلاله رؤية كل المشاعر، وربما حان الوقت لكي نجرِّد الأسود من خلال أعمال المرزوق من هذه الدلالات السلبية ونعيد تعريفه.
قيمة لونية تلامس الواقع
يتسلل اللون الأسود إلى لوحات المرزوق، معلنًا سيادته وحضوره بالغ الدلالة. في مطلع حرب الخليج، بدأ المرزوق استخدام هذا اللون بشكل مكثف، مرتديًا رداء الحزن والعمق. يقول المرزوق: “كنت أريد شيئًا يلامس واقعنا، وفي حرب الخليج، أخذت وقفة فيما كان اللون الأسود حاضرًا. للأسود قيمة لونية مطلقة، وهو يجذب العين ويبرز ألوان اللوحة”.
مسيرة المرزوق لم تكن مكللة بالسواد دائمًا. تجربته الفنية ذات تجارب متعددة وكثيرة دأب فيها على توسيع مداركه وقدراته الفنية، فقد بدأت مسيرته منذ بدايات الحركة الفنية التشكيلية في المملكة، عندما بدأت ملامحها تتضح إبان تنظيم قطاع الثقافة والفنون في مطلع السبعينيات. وكان يجرب الكولاج والرسم التجريدي، كما كان يميل إلى استخدام الخامات البسيطة المتوفرة في بيئته بطريقة أشبه ما تكون بإعادة تدويرها وإعطائها بُعدًا مختلفًا ومتجددًا، مثل: الخيش والكرتون وقطع الترانزستور المتنوعة.
بدأ شغف عبدالله المرزوق بالفن منذ صغره، في التاسعة من عمره تحديدًا، كان يميل إلى الرسم، وبتشجيع من أساتذته استطاع تطوير موهبته. كان أساتذة الفن في المدرسة يستخدمون رسوماته كمرجع في الشرح والتعليم، ما ساعد في تعزيز ثقته بنفسه وتطوير موهبته وتوجيهها. لم يقف المرزوق عند هذه النقطة، ولكنه عزم على أن يستثمر جل وقته وجهده في أخذ تجربته الفنية لأبعاد جديدة ومتعددة. وجد المرزوق أن الطريقة الأفضل لتحقيق ذاته كفنان هي من خلال الدراسة الأكاديمية.
في عام 1979م، بدأ المرزوق مسيرته الأكاديمية في جامعة أتلانتا بجورجيا للفنون الجميلة، وخلال دراسته في أمريكا، ركز على دراسة الفن وتاريخه أكاديميًا، وكان ذلك بهدف اكتساب فهم أعمق للفن وتحسين تجربته الفنية. يقول المرزوق إن دراسة الفن أكاديميًا قادرة على صقل الموهبة وتجويدها، وإنها الفارق بين الهاوي والفنان الحقيقي. ويضيف: “يجب التمييز بين الذي تعلم فنونًا ودرس وبين الهاوي الذي يجيد الرسم، لا يمكن أن تكون فنانًا بدون دراسة واستثمار في المهنة. الدراسة تصقل موهبة الفنان دون شك. لقد تعلمت الكثير من الأشياء التي كنت أفتقدها، وبإصرار جنوني، كنت أنوي دراسة الفنون، الأمر الذي كان حتميًا وضروريًا بالنسبة لي، رغم أن الفن في ذلك الوقت لم يكن له مكان في المجتمع”. لم تقتصر فائدة دراسة المرزوق للفن في تسليحه معرفيًا بتقنيات اللون واللوحة وتاريخ الفن، ولكنها كانت مرحلة إثرائية حصل فيها على الكثير من التبادل الثقافي والمعرفي، وفي ذلك يقول: “الفنان يؤثر ويتأثر، وتناولت في دراستي ثقافات العالم من بداية رسومات الكهوف إلى يومنا هذا”.
داخل البيئة وخارج سرب التقليد
لجأ المرزوق إلى بيئته كمصدر للاستلهام، فكان لأبواب الأبنية ونوافذها بتقاسيمها الهندسية نصيب في أعماله، وكان الإلهام طبيعيًا كما يقول، فأحب رسم البيوت، وأمضى أربع سنوات في رسم مجموعة البيت العربي، وجميعها كانت أعمال مسطحة من دون تركيبات.
في مسيرته الفنية المتميزة، لم يقف المرزوق عند حدود الرسم التقليدي، بل كان دائم البحث والتجديد، ولم يتقيد بأسلوب معين أو مواد محددة. ومنذ مطلع ثمانينيات العقد الماضي، دأب هذا الفنان على التجريب والاختبار والمحاولات التي كان يهدف من خلالها أن يجرد نفسه من القيود إلى حرية التجريب؛ فبدأ بالأعمال الواقعية والتأثيرية، ومع الوقت تطورت أعماله نحو المدارس الحديثة، وانتقل من التأثيرية إلى التجريد، معبرًا عن موضوعات مثل العزلة والفراغ بأسلوب يستلهم جماليات البساطة والتكثيف اللوني تتسلل إليها بعض من الحروفية العربية أحيانًا، مبتكرًا بذلك صيغًا لونية جديدة خاصة به، تستطيع من خلالها تمييز أعماله عن سواها.
شارك المرزوق في العديد من الأسابيع الثقافية والمعارض المحلية والدولية، محققًا جوائز متقدمة. كما كان عضوًا في لجان تحكيم مختلفة، وأقام دورات في تعليم الرسم على مدى 14 سنة، مشاركًا خبراته ومعرفته مع الأجيال الجديدة.
بحثًا عن “غير المنسي”
يعتبر المرزوق الفن لغة عالمية، ويؤمن بأن اختيار المواضيع التي تمس الثقافة السعودية تعد شاهدًا ورمزًا على هويتها. وبينما يعتقد جازمًا أن كل فنان له اتجاه في اختيار المواضيع، ويقرر كيف يكون اتجاهه بحسب ميوله وذاته، يعتبر المرزوق نفسه فنانًا عابرًا للحدود، ويميل إلى أن يكون مرآة للتجربة الإنسانية ككل وبعيدًا عن الحدود الجغرافية والهوية الوطنية، ويوضح ذلك بقوله: “الفن بالنسبة إلي فن عالمي، صحيح أن الرسم يكون مستلهمًا من البيئة المحلية، ولكن يوجد نوع من التوق لتمثيل الهوية بين الفنانين، ورغم ذلك أقول إن الفن للجميع، ولا أجد نفسي أتوق لتمثيل أو عكس هويتي. الفن عالمي مهما كانت هويته ولا يوجد له حدود”.
بالنسبة إلى المرزوق، الفن تجربة ذاتية، فهو يطمح من خلال تجاربه الفنية لأن يكون إنسانًا فقط، وأن يسبر أغوار النفس الإنسانية ويعبر عن الواقع المحيط به وتغيراته الاجتماعية والسياسية، ففي نهاية المطاف، “أروع أنواع الفنون المقدمة هي تلك التي تكون مرآة للواقع، وسجلًا تاريخيًا يستطيع الرائي من خلاله أن يلج إلى زمن آخر وتاريخ آخر، يستطيع من خلاله أن يعيش تجربة إنسانية وجودية قد مضت”.
يسعى المرزوق إلى أن يتجرد من أعباء تمثيل هوية ما، ويطمح إلى أن يكون فنه ذا لغة عالمية قادرة على أن تلامس التجارب الإنسانية لدى المتلقي، وبعيدًا عن قيود الهويات؛ ليجتهد في أن يقدم إسهامات لا تُنسى في عالم الفن.
التجربة وتحقيق الذات
العزلة والفراغ، تجربة وجودية كانت وما زالت حاضرة في لوحات المرزوق، الذي يهدف إلى إيصال العزلة كتجربة من خلال لوحات أحادية البعد، سلسة وصامتة، ومثيرة للمشاعر الحزينة والمعقدة لدى المتلقي. يعلل المرزوق محاولاته لإثارة هذه المشاعر غير المحبذة لدى الكثير، بقوله: “عندما تنظر للأعمال، تستوحي العزلة والفراغ والسكون، فليس هناك أي شيء يدل على الحركة، وهذا ما تسجله العين، كما أن المنظور شبه معدوم، وأقصد بذلك سطح اللوحة ذا البعدين الذي يحقق انسجامًا في الوحدة اللونية على قماش اللوحة”.
قد يكون الفن بالنسبة إلى المرزوق نوعًا من أنواع الاستجابة والتفاعل مع محيطه الكوني، إذ يتوق من خلال أعماله أن يعبر عن ذاته ومكنوناتها. كما يرى أن تجاربه متعددة الوسائط والخامات في مجملها تهدف إلى أن تكون حلقة وصل بين ذاته وبين اللوحة، فهو يأمل من خلالها إيصال مشاعره والتعبير عنها، واستجابة لأي حالة تعبير يرى أنه يخدم طبيعة العمل، فلا يتردد في استخدامه. ويضيف في هذا السياق: “إنها مشاعر ونزعات ذاتية وخبرات وإحساس جمالي لما سوف ينتهي إليه العمل، فكثيرًا ما أدخلت الكولاج مثل الورق والخشب والخط العربي والترانزيستر والشبك الحديدي وأشياء كثيرة”.
ثقة المرزوق المتواضعة، جعلته راضيًا بما أنتج إلى حد بعيد، ساعيًا للمزيد من التطوير والتجديد والإسهاب في تجربته كفنان، لم يقف يومًا عن التجريب والمحاولة. يستثمر المرزوق ذاته في أعماله قبل أدواته ووقته وماله، إذ يُمضي ما يزيد على خمس ساعات يوميًا في مرسمه، معتزلًا بذاته عن ذاته، ومنغمسًا في لوحته، ومتأملًا فيما تمليه عليه يده، ويهدف إلى أن يكون فنه هو ما يتحدث عنه وما يشرح تجربته الذاتية كإنسان، رافضًا أن يقيد نفسه بعمل أو بأسلوب أنتجه، آملًا أن تكون أعماله شاهدةً على متغيرات نفسه وأهوائها، وتروي قصته التي تستمر في التغيير والتحول، وهو كما يقول “لم أكن في يوم من الأيام متوترًا، يضع الفنان بصمته على اللوحة بما يراه مناسبًا، ومن الصعب تحديد عمل واحد ليمثل الشخصية، فجميع الأعمال تمثلني شخصيًا”.
اترك تعليقاً