مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

تفكير الصغار قد لا يكون بالبساطة التي نظنّها

الطفولة والتأثير المعكوس


نتالي المر وفريق القافلة

مرّت نظريات علم النفس والفلسفة حول علاقة الكبار بالأطفال والصغار، بتغيرات عميقة في العقدين الأخيرين. فقبل ذلك، كان الرأي السائد لدى معظم العلماء يتلاقى، إلى حد بعيد، مع الآراء الشعبية التي اختصرتها عالمة النفس الأمريكية في جامعة كاليفورنيا، أليسون جوبنيك، بقولها: “الأطفال بنظرهم مجرد بالغين ناقصين، أو بالغين بدائيين، هم في طريقهم إلى الوصول تدريجيًا إلى كمال الكبار ونضجهم”. اليوم، يتعزز باستمرار الاتجاه الذي يرى أن عقول الأطفال معقدة وقوية بالقدر نفسه. وهناك علماء كثيرون يرون أن عالم الأطفال، وهو عالم الخيال والتجدّد والتغير والاستكشاف المستمر، قادر على التعامل بشكل أفضل مع تطورات العصر والمستقبل التي تشبه أكثر عالم الأطفال هذا. وعلى الكبار، كما يشيرون، إقامة علاقة معرفية تبادلية معهم.

بدأ الاهتمام العلمي بمجال النمو الذهني للطفل منذ الولادة حتى البلوغ، في أوائل القرن العشرين. قبل ذلك، جرى تجاهله إلى حد بعيد طوال معظم تاريخ البشرية. كان يُنظر إلى الأطفال في كثير من الأحيان على أنهم مجرد نسخ صغيرة عن البالغين. ولم يُولَ سوى القليل من الاهتمام بالتطورات العديدة في القدرات المعرفية، واستخدام اللغة، التي تحدث أثناء مرحلة الطفولة والمراهقة؛ وذلك باستثناء الاهتمام ببعض حالات الأمراض النفسية.

تغيَّر ذلك ابتداءً من النصف الأول من القرن العشرين مع ظهور عدة نظريات حول التطور المعرفي لدى الإنسان بشكل عام. منها التحليل النفسي الذي أسّسه سيغموند فرويد، ونظرية النمو النفسي الاجتماعي، وما إلى ذلك. لكن الأبرز والأكثر تأثيرًا بينها، هي نظرية علم النفس التنموي للعالم السويسري، جان بياجيه (1896م – 1980م)، التي راحت تَدرس النمو المعرفي عند الأطفال في ثلاثينيات القرن العشرين.

بداية اهتمام العلم بالأطفال

اعتبر بياجيه أن الأطفال قبل عمر 12 سنة غير قادرين على التفكير الفلسفي؛ لأنهم قبل ذلك يكونون غير قادرين على “التفكير في التفكير”. وقسَّم مرحلة الطفولة إلى ثلاث مراحل. الأولى: هي الفترة الزمنية بين الولادة وسن الثانية، وتكون خلالها معرفة الرضيع بالعالم محدودة بإدراكه الحسي، وتقتصر سلوكياته على الاستجابات البسيطة الناتجة عن المحفزات الحسية. والمرحلة الثانية: هي الفترة ما بين عمر 2 و6 سنوات، يتعلم خلالها الأطفال استخدام اللغة، لكنهم لا يفهمون بعد المنطق الملموس، ولا يمكنهم التعامل عقليًا مع المعلومات، ولا يستطيعون فهم وجهة نظر الآخرين. أما المرحلة الثالثة: فهي الفترة التي تتراوح بين 7 أعوام و11 عامًا، إذ يكتسب خلالها الأطفال فهمًا أفضل للعمليات العقلية، فيبدؤون في التفكير بشكل منطقي حول الأحداث الملموسة، ولكنهم يجدون صعوبة في إدراك المفاهيم المجردة أو الافتراضية. بعد هذه السن يبدأ الإنسان باكتساب القدرة على التفكير في المفاهيم المجردة.

لاحقًا، مع بداية الألفية، أصبح معظم علماء النفس مقتنعين أن بياجيه كان مخطئًا بشأن القدرات المعرفية للأطفال الصغار بشكل كبير. وأصبح الرأي السائد بينهم أن الأطفال هم مفكرون قادرون على التفكير المجرد ومبدعون. وفي الواقع، يذهب بعض العلماء إلى أن الأطفال في بعض النواحي، هم فلاسفة أفضل من البالغين؛ لأنهم يشككون في الأشياء التي يعتبرها الكبار أمرًا مفروغًا منه، ومنفتحون على الأفكار الجديدة، وليسوا مكبَّلين بقوة العادات المجتمعية كما هم الكبار. لذلك، يرى هؤلاء أننا يجب أن نتعلم الكثير من الاستماع إليهم والتفكير معهم.

“فلسفة الأطفال” حركة عالمية

بدأت تظهر بعض الانتقادات المتفرقة لنظريات بياجيه في سبعينيات القرن العشرين، عندما شعر أستاذ الفلسفة في جامعة مونكلير الأمريكية، ماثيو ليبمان، بالإحباط لعدم قدرة طلابه في الدراسات العليا على التفكير النقدي. فأسّس برنامجًا للتلاميذ الأصغر سنًا بالتعاون مع أستاذة التربية في الجامعة نفسها، آن شارب. كان هدفهما توفير منهج للتفكير باستخدام نصوص فلسفية مكتوبة خصوصًا للصغار، وراحوا يستعملون مصطلحات جديدة مثل: “استفسار” بدلًا من “درس”، وما إلى ذلك؛ لأن التركيز ينصبّ على النقاش بين المجموعة التي تستفسر وتستقصي معًا. وأسّسا في ذلك الحين، حركة “فلسفة للأطفال” التي أصبحت الآن حركة عالمية راسخة تضم آلاف العلماء والمختصين. ونتيجة لجهود هذه الحركة، أصبحت الفلسفة للأطفال فرعًا علميًا أكاديميًا في الولايات المتحدة الأمريكية. وأسهمت في إعداد أجيال جديدة من الأكاديميين وطلاب الدراسات العليا والباحثين في مجالات التعليم، والفلسفة، وفلسفة التعليم، وفلسفة الطفولة.

وعن إسهام هذه الحركة في تعزيز التفكير النقدي والإبداعي، تقول أستاذة الفلسفة في جامعة سالزبوري في الولايات المتحدة الأمريكية، كريستينا كمَّارنو: “من خلال هذا العمل تعلّمت متابعة خيوط التفكير والاهتمام ببنية الحجج المقدمة لمراقبة الجوانب العلائقية، مثل: تبادل الأدوار والاستماع والمشاركة وتلقي الملاحظات، والتعرف على الأفكار الجديدة والإبداعية التي تولدها المجموعة والإشارة إليها. لقد طورت إحساسًا قويًا بجودة التفكير الفلسفي لدى مجموعة من الطلاب الشباب الذين أتقدم إليهم في الفصل الدراسي في جامعتي”.

“فلسفة للأطفال” أصبحت الآن حركة عالمية راسخة تضم آلاف العلماء والمختصين. ونتيجة لجهود هذه الحركة، أصبحت الفلسفة للأطفال فرعًا علميًا أكاديميًا في الولايات المتحدة الأمريكية.

هل للعمر أهمية؟

عن علاقة تقدّم عقول الأطفال بالعمر، يقول سكوت هارشوفتز، من جامعة ميتشيغان في مقال في صحيفة “أتلانتيك”، 26 أبريل 2022م: “يرفض معظم علماء النفس التنموي في الوقت الحاضر، فكرة أن عقول الأطفال تتحسن مع تقدمهم في السن”. ويستشهد بكتاب عالمة النفس الرائدة أليسون جوبنيك، وعنوانه: “الطفل الفلسفي” (2010م)، التي ورد ذكرها آنفًا. وتقول جوبنيك أيضًا: “إن نمو الطفل يشبه التحوّل، مثل تحوّل اليرقات إلى فراشات، أكثر من النمو البسيط (الشائع)، على الرغم من أنه قد يبدو أن الأطفال هم الفراشات المتجولة النابضة بالحياة التي تتحول إلى يرقات تتحرك ببطء (كما هم الكبار) على طول مسار النمو”.

وتضيف جوبنيك في كتابها: “في العقد الماضي، حدثت ثورة في فهمنا لعقول الرضع والأطفال الصغار. كنا نعتقد أن الأطفال غير عقلانيين، وأن تفكيرهم وخبراتهم محدودة… (لكن) أحدث الأبحاث العلمية والنفسية كشفت أن الأطفال يتعلمون أكثر، ويخلقون أكثر، ويهتمون أكثر، ويختبرون أكثر مما كنا نتخيله. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الأطفال هم في الواقع أذكى، وأكثر تفكيرًا، وأوعى من البالغين”.

أمثلة واقعية

وذهب الفيلسوف الأمريكي غاريث ماثيوز (1929م – 2011م) إلى أبعد من ذلك، وجادل بإسهاب بأن بياجيه فشل في رؤية التفكير الفلسفي واضحًا لدى الأطفال الذين درسهم. ففي كتابه “الفلسفة والطفل الصغير”، (1982م)، يقدم ماثيوز عددًا من الرسوم التوضيحية للحيرة الفلسفية لدى الأطفال الصغار جدًا من خلال عدد كبير من الحوارات الممتعة معهم. وعلى سبيل المثال، سأله ابنه تيم (يبلغ من العمر حوالي ستة أعوام) وهو منهمك في لعق الـطبق: “بابا، كيف يمكننا التأكد من أن كل شيء ليس حلمًا؟”. هنا يحضر الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل منذ أسابيع حول مشهد الطفلة الفلسطينية الجريحة في مدينة غزة، وعمرها حوالي خمس سنوات، وهي تسأل المُسعف بعد إنقاذها من تحت الركام: “عمو نحنا بنحلم ولا بجد؟”؛ أي: هل نحن نعيش حلمًا أم واقعًا؟

يوضح ماثيوز أن الأطفال لديهم القدرة على التحيُّر والتمثيل الذهني، الذي يقودهم إلى معالجة العديد من المشكلات الكلاسيكية للمعرفة والقيمة والوجود، التي شكّلت تقليديًا جوهر الفكر الفلسفي.

ويرى ماثيوز أن البالغين والأطفال يقدّمون هدايا مختلفة إلى طاولة الحوار: “قد يمتلك الشخص البالغ قبضة أقوى على اللغة وربما على المفاهيم، والطفل بدوره يبدي سذاجة فلسفية، أو حيرة. فما هو سبيلنا إلى فهم أن هذه السذاجة هي هبة، وليست عجزًا؟ السذاجة هي نظرة صريحة وغير متأثرة يعبِّر فيها الأطفال عن الجديد والبريء… لماذا لا ينبغي لنا أن نقبل هذه العطية فحسب، أو حتى أن نسعى إليها بنشاط؟ إذا تمكنا، نحن البالغين، من التخلي عن دفاعنا في حماية حدود الممارسة الفلسفية، فيمكننا الاستمتاع بفوائد البحث الفلسفي الأكثر انفتاحًا وفضولًا وإبداعًا مع الأطفال. يمكننا تجديد قدرتنا على الحيرة والتساؤل وقبول عدم الاكتمال”.

الأبحاث تكشف أن الأطفال يتعلمون أكثر، ويخلقون أكثر، ويهتمون أكثر، ويختبرون أكثر مما كنا نتخيله. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنهم في الواقع أذكى، وأوعى من البالغين.

وتشرح أستاذة التربية في جامعة بلايموث، جوانا هاينز، في كتابها “الأطفال كفلاسفة” (2002م)، قدرة الأطفال على الانخراط في عمليات متطورة من الحوار والتحقيق حول مجموعة واسعة من القضايا. وتؤكد أهمية الاستماع إلى أفكار الأطفال والتعلّم منهم. كما تناقش المتعة والتحديات التي يواجهها الكبار في إدارة النقاش والرد على مطالبات الأطفال بالمعرفة في الساحة الفلسفية.

الكبار، كما يقول بأسفٍ كاتب السيناريو والمنتج الأمريكي المعروف، دانييل جيمس هارمون، فقدوا متعة التعلّم التي عند الصغار: “إن العالم من حول الأطفال، وخاصة الأطفال الصغار، في حالة تغير مستمر. كل ما يرونه أو يسمعونه أو يتذوقونه هو جديد ومختلف، وينعكس ذلك في متعة التعلّم التي يتقبّلها جميع الأطفال تقريبًا بسرعة. نحن كبالغين نشعر في كثير من الأحيان أننا نعرف كل شيء. ويا لها من خسارة لنا، لكن باستطاعتنا أن نتعلم منهم كثيرًا”.

الذكاء الاصطناعي يتعلم من الأطفال

وجد بعض مطوري الذكاء الاصطناعي، حديثًا، أن تعلّم اللغة من قبل البرامج المرتكزة على نماذج لغوية واسعة، مثل “شات جي بي تي” (ChatGPT) وغيرها، التي تتعلم اللغة من مليارات وحدات رصد البيانات، هي بعيدة عن التجارب الواقعية. واعتبروا ذلك عيبًا بنيويًا في هذه البرامج. لذلك، اتجهوا لدراسة كيف يتعلم الرضع اللغة، من خلال تحليل تسجيلات كاميرا الرأس لأوقات محددة من حياة طفل أسترالي في الفترة العمرية ما بين 6 أشهر وسنتين، وذلك للتعرّف على كيفية تعلّمه لكلمات مثل: “سرير” و”كرة” وغيرها.

وقد أثبتت الدراسة التي نُشرت في مجلة “ساينس”، 1 فبراير 2024م، أن الأطفال يتعلمون اللغة من خلال بناء الارتباطات بين الصور والكلمات التي رأوها معًا، ولم تعتمد على أي معرفة مسبقة أخرى حول اللغة. ويقول المؤلف المشارك للدراسة والباحث في الذكاء الاصطناعي بجامعة نيويورك، واي كين فونج، إن هذه النتيجة تتحدى بعض نظريات العلوم المعرفية التي تقول إن الأطفال، لكي يربطوا معنى بالكلمات، يحتاجون إلى بعض المعرفة الفطرية حول كيفية عمل اللغة؛ وهي النظرية التي أطلقها عالم اللغات نعوم تشومسكي في منتصف القرن العشرين. وأضاف فونج: “نحن لا نحصل على الإنترنت عندما نولد”. فالأطفال يكتسبون اللغة وغيرها من خلال بذل جهود جبارة في أدمغتهم.

وهكذا، فإن تعلّم اللغات في العالم الحقيقي للأطفال، هو أثرى وأكثر تنوعًا من تجربة الذكاء الاصطناعي. ويقول الباحثون إنه نظرًا لأن الذكاء الاصطناعي يقتصر على التدريب على الصور الثابتة والنصوص المكتوبة، فإنه لا يمكنه تجربة التفاعلات المتأصلة في حياة الطفل الحقيقية.

التكنولوجيا والأطفال

لقد أوجدت التكنولوجيا، وخاصة ألعاب الفيديو المتجددة باستمرار، مساحات جديدة للأطفال مغايرة عن مساحة البيت والأهل والمدرسة. وقد منحت هذه الفضاءات الجديدة، التي لم توفرها الألعاب التقليدية، الأطفال خيالًا واسعًا وقدرة كبيرة على الاستقلالية. وربَّما يرى كثيرون أن هذه هي ظاهرة سلبية تشجع الأطفال على التمرد على الأهل والمدرسة والمجتمع. لكنها في واقع الأمر، ليست تمردًا عليهم بقدر ما هي تمرد على علاقة قديمة بين الجيلين لم تعد متناسبة مع العصر الذي نعيش فيه.

والحال أن عالم الأطفال هو عالم الاكتشاف والابتكار والتجدد والتغيّر باستمرار، وهذه صفات تتلاءم مع المرونة المعرفية التي تُعتبر من المهارات الضرورية في الثورة الصناعية الرابعة، والتي يقول عنها أستاذ التقنيات التعليمية في جامعة ميشيغان، راند سبيرو: “هي قدرة المرء على إعادة هيكلة معرفته جذريًا، وبطرق عديدة، والتكيُّف استجابةً لمتطلبات المواقف والظروف المتغيِّرة”. عالم الأطفال هو بالفعل عالم المستقبل، وعلى الكبار التعلّم منه لحل المشكلات الكبيرة التي صنعوها لهم. فالكبار، على رأي الروائي الأمريكي الشهير المعروف بـ”دكتور سوس”: “هم أطفالٌ عفا عليهم الزمن”.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “الطفولة والتأثير المعكوس”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *