يعيش المشهد الثقافي السعودي فترة ذهبية تشهد فيها مختلف القطاعات الثقافية نموًا ملحوظًا. ويأتي هذا الازدهار في ضوء ما توليه رؤية المملكة من دعم نوعي وشامل للقطاع الثقافي بمختلف مجالاته. ومن أبرز ما يجسِّد هذا الدعم تأسيس الصندوق الثقافي؛ ليكون الممكّن المالي الأول للقطاع وفق الإستراتيجية الوطنية التي تنتهجها وزارة الثقافة في المملكة. لكن ما هي الفوائد المرجوّة من الاستثمار في الثقافة؟ وكيف يتكامل دور الصندوق مع مختلف الجهات المعنية بالثقافة ليبثّ الحياة في مفاصل الحراك الثقافي الوطني؟
فريق التحرير
استثمرت المملكة خلال السنوات القليلة الماضية استثمارًا كبيرًا في القطاعات الثقافية والأنشطة الترفيهية لأثرها الملموس في تحسين جودة الحياة. وتنهض وزارة الثقافة والهيئات الثقافية بدور فعّال في تنظيم هذا القطاع من خلال السياسات والأنظمة التي ترفع مستوى جودة الأنشطة الثقافية. ومن أوضح ما يجسِّد هذا الاستثمار تأسيس الصندوق الثقافي، الذي يُعدّ أبرز جهود الدعم والتمكين لبيئة الثقافة والإبداع وفقًا لتقرير الحالة الثقافية في المملكة لعام 2021م.
تأسَّس الصندوق بمرسوم ملكي في يناير 2021م، ليكون صندوقًا تنمويًا يرتبط تنظيميًا بصندوق التنمية الوطني. ويهدف إلى أن يكون الممكّن المالي الأول في إطار السعي إلى تفعيل القطاعات الثقافية الـستة عشر، التي حدّدتها وزارة الثقافة في الإستراتيجية الوطنية للثقافة. وبهذا يتكامل دوره مع دور المنظومة الثقافية العامة بقيادة وزارة الثقافة، ليسهم في تعزيز هوية المملكة وإعلاء قيمتها الثقافية محليًا ودوليًا، من خلال السعي لتوفير حلول مالية وغير مالية تدعم نمو المشاريع الثقافية.
لكن هذا الاستثمار، إلى جانب قيمته الاجتماعية والمعنوية في تعزيز الانتماء والتواصل وتحسين جودة الحياة، ينطلق من القناعة بوجود العديد من الفرص الواعدة في القطاع الثقافي التي تمكنه من أن يصبح أحد محركات الاقتصاد السعودي، إذ يتطلع هذا القطاع إلى أن يسهم بنسبة تصل إلى %3 من اقتصاد المملكة بحلول عام 2030م.
لماذا الاستثمار في الثقافة؟
في كتابه “أرباح الفنون.. ماذا نربح من الاستثمار في الثقافة” الصادر عام 2016م، يسرد الرئيس التنفيذي لجمعية الفنون في إنجلترا، دارين ريتشارد هنلي، سبع فوائد رئيسة تعود بها الثقافة والفنون على حياتنا. فيذكر أن الثقافة تحفّز الإبداع الوطني، وتسهم في تطور حركة التعليم، وتترك أثرًا إيجابيًا على الصحة والرفاه، كما أنها تساند حركة الابتكار والتقدم التقني، وتؤدي إلى خلق هوية ذات ملامح مميزة للقرى والمدن، وتعزز حضور الدول على الساحة الثقافية العالمية؛ ويمكن أن تُصنّف هذه الفوائد الست ضمن الآثار غير المادية للثقافة، فهي من هذا المنظور شبيهة بالتعليم والصحة وغيرها.
مع ذلك، يؤكد المؤلف أن الاستثمار في الثقافة يعود بالنفع من ناحية اقتصادية مباشرة أيضًا، فهو عامل مساهم في الازدهار الاقتصادي. وترتبط هذه الفكرة بمفهوم “الاقتصاد الإبداعي”، الذي نظَّر له المؤلف البريطاني جون هوكنز في كتابه “الاقتصاد الإبداعي.. كيف يحوّل الناس الأفكار إلى أموال” الصادر عام 2001م، والذي يؤكد فيه أن الأفكار الإبداعية يمكن أن تتحول إلى اقتصاد ضخم يدرّ أموالًا مربحة، مستشهدًا لرؤيته بنماذج من واقع خبرته العملية في مجالات النشر والتلفاز والأفلام وغيرها.
يحظى هذا التوجه اليوم بمزيد من الاهتمام من قبل الدول والشركات على حد سواء. فقد أصبح من الواضح أن ازدهار القطاعات الثقافية وأنشطتها والاستثمار فيها له أثر مباشر على الازدهار الاقتصادي والتنمية المستدامة، إذ يمثل القطاع الثقافي %3.1 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وفقًا لتقرير توقعات الاقتصاد الإبداعي لعام 2022م الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد”، مع توقعات بنمو متسارع وكبير في السنوات المقبلة. ولهذا السبب، تخصص الدول جزءًا من استثماراتها للقطاع الثقافي بغية جني ثماره الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، تذكر إحصائيات “يوروستات” أن مجموع الإنفاق الحكومي على الخدمات الثقافية في عام 2021م بلغ 18 مليار يورو في فرنسا، وقرابة 15.5 مليار يورو في ألمانيا.
يخلق وظائف ويجذب السُيّاح
تكمن إحدى أهم الفوائد المباشرة للاستثمار في الثقافة في إيجاد وظائف جديدة ترتبط بالقطاعات الثقافية، من خلال خلق تخصصات جديدة وشركات لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات الثقافية والشركات الداعمة لها، مما ينمي سوق العمل وقدراتها. ويذكر “الأونكتاد” أن الصناعات الثقافية والإبداعية تولّد ما يقرب من 50 مليون وظيفة في أنحاء العالم. ووفقًا لإحصائيات “يوروستات”، بلغ عدد الموظفين في القطاع الثقافي للاتحاد الأوروبي 7.4 مليون شخص في عام 2021م، وهو ما يمثل نسبة %3.7 من العدد الإجمالي للوظائف في الاتحاد.
إلى جانب ذلك، يعود الحراك الثقافي بالفائدة على تعزيز السياحة الداخلية وجذب الزوار من أنحاء العالم، للاستمتاع بالتجربة الغنية للبلد المزور في ما يُعرف بالسياحة الثقافية. وتُعد الثقافة أحد العوامل الرئيسة الباعثة على السياحة والسفر، حيث يُقدر إسهام السياحة الثقافية ضمن قطاع السياحة بنسبة %37 على مستوى العالم وفقًا لتقديرات منظمة السياحة الدولية. وفي هذا الجانب، يمكن أن يتكامل دور الصندوق الثقافي مع صندوق التنمية السياحي، لتُسهم الاستثمارات بمجملها في صنع حالة من الحركة السياحية الثقافية المستدامة التي يستفيد منها القطاعان معًا. ووفقًا لما رصده تقرير الحالة الثقافية لعام 2021م الصادر عن وزارة الثقافة، فقد حققت الرحلات السياحية الداخلية التي تتضمن أنشطة ثقافية نموًا بلغت نسبته %18 خلال الفترة بين 2017م و2021م.
كما يُسهم النشاط الثقافي عمومًا في تحسين مشهد المدن والأماكن الريفية على حد سواء، حيث يرتبط إثراء المشهد الثقافي فيها بتحسين البنية التحتية واستثمار المناشط السياحية وإحياء المواقع الأثرية والاهتمام بالجماليات المكانية في إطار تحسين جودة الحياة. فوفقًا لتقرير الحالة الثقافية لعام 2021م، شهد ذاك العام زيادة في عدد مشاريع المسح الأثري في المملكة التي بلغت 23 مشروعًا، إلى جانب إطلاق مشروع إعادة إحياء جدة التاريخية. وعلى نحو مشابه، يمكن أن ينعكس أثر الاستثمار في الثقافة على تنمية البنية التحتية، كما نلاحظ ذلك في قطاع السينما الواعد في المملكة، حيث سجّلت أعداد صالات العرض نموًا بنسبة %63.6 بين عامي 2020م و2021م.
وحينما تزدهر الثقافة، يساعد ذلك على زيادة الصادرات المحلية للخارج من المنتجات الثقافية والسلع الإبداعية، كالأفلام المحلية التي تنقل القصص والثقافة المحلية إلى التجربة العالمية. ولهذا، تتسابق الدول إلى استغلال منتجاتها الثقافية والترويج لها حول العالم. فوفقًا لتقرير “الأونكتاد”، بلغت صادرات الصين من السلع الإبداعية 169 مليار دولار في العام 2020م، بينما صدّرت الولايات المتحدة الأمريكية ما تبلغ قيمته 32 مليار دولار.
حزمة برامج ومبادرات
والشراكة فرس الرهان
يستمر الصندوق الثقافي منذ تأسيسه في تقديم عديد من المنتجات والخدمات للعاملين في القطاعات الثقافية، وهي تتنوع بين المنتجات المالية، كالقروض والاستثمارات والحوافز غير المستردة والضمانات، والخدمات غير المالية، كالاستشارات وبناء القدرات ودعم جاهزية المشاريع الثقافية.
وفي الطريق نحو تحقيق الأهداف المطلوبة، هناك مساحة كبيرة لشركات القطاعين الخاص وغير الربحي، تسمح لها بانتهاز هذه الفرص وتحقيق استدامة القطاعات الثقافية من خلال الاستثمار فيها وخلق البرامج الداعمة لنمو المشاريع الثقافية. ولهذا يسعى الصندوق لبناء شراكات مع الجهات المختلفة في القطاعات الحكومية والخاصة وغير الربحية؛ لإيجاد حلول تمويلية للقطاع الثقافي وتوفير الدعم للعاملين فيه، وخلق برامج مشتركة من خلال هذه الشراكات.
وتمثّلت آخر مبادرات الصندوق في برنامج تمويل قطاع الأفلام، الذي أُطلق مؤخرًا بميزانية تبلغ 879 مليون ريال سعودي، بغية المساهمة في تنمية قطاع الأفلام السعودي الواعد. ويهدف هذا البرنامج إلى جعل المملكة مركزًا رئيسًا لهذه الصناعة بما ينعكس إيجابًا على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. ويفعّل البرنامج نوعين من الأدوات التمويلية هما الإقراض والاستثمار. ويوفر مسار الإقراض، الذي انطلق بالفعل في شهر مارس، حزمًا تمويلية للدعم المادي تستهدف الشركات الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الأخرى في قطاع الأفلام. أما مسار الاستثمار، الذي من المعتزم إطلاقه لاحقًا هذا العام، فيتضمَّن سلسلة من الصناديق الاستثمارية التي تستهدف الشركات الصغيرة والمتوسطة ومشاريع البنية التحتية ومشاريع الإنتاج في قطاع الأفلام.
لكن تركيز الصندوق الثقافي لا يقتصر على قطاع الأفلام فحسب، بل يمتد الدعم ليشمل جميع القطاعات الثقافية الستة عشر. وما إطلاق برنامج تمويل قطاع الأفلام إلا امتداد لجهود تمكين المشهد الثقافي العام في المملكة، لا سيما أن لهذا القطاع أثرًا مباشرًا على تنمية القطاعات الأخرى. وقد أطلق الصندوق سابقًا عدة برامج تسعى إلى دعم الشركات العاملة في القطاعات الثقافية وتمكينها، من بينها برنامج تحفيز المشاريع الثقافية بالشراكة مع جودة الحياة، الذي يقدّم حوافز غير مستردة للمستفيدين، وبلغت ميزانيته التمويلية 181 مليون ريال سعودي. كما أطلق الصندوق برنامج الضمانات بالشراكة مع شركة كفالة وبنك الرياض، الذي يقدّم الضمانات اللازمة للجهات الممولة بنسبة %90، حيث يصل الحد الأعلى للقروض المقدمة 15 مليون ريال سعودي، بميزانية إجمالية تبلغ 100 مليون ريال.
وخلال العام 2022م، دعم الصندوق الثقافي 37 مشروعًا استفادت من الحوافز المالية غير المستردة ضمن برنامج تحفيز المشاريع الثقافية. وقد جرى بالفعل إطلاق بعض هذه المشاريع، بينما سيرى بعضها الآخر النور قريبًا. ومن بين المشاريع المدعومة: المعارض الفنية من مركز المدينة للفنون، وسلسلة “فلان” الوثائقية من شركة ثمانية، ومختبر تلفاز 11 لإثراء المحتوى الرقمي، ودبلوم إدارة فنون الطهي من المعهد العالي للسياحة والضيافة، وحاضنة “الحالمون” للأعمال الثقافية، و”معمل الصنّاع” من حاضنة المشتل الإبداعي، و”هُنا الرياض بارك” لرواد الأعمال وصنّاع الفنون، والشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) في مبادرة “إثراء المحتوى العربي”، وغيرها من المشاريع الثقافية. وبينما يستفيد المناخ الثقافي بأكمله من هذه المبادرات، تمكِّن بعضها الأفراد المشتغلين بالثقافة والمهتمين بها من الاستفادة المباشرة، مثل “مبادرة 100 كتاب” من مؤسسة أدب التي تسعى إلى دعم المؤلف السعودي، ومشروع مكتبة الأطفال المتخصصة “كان يا ما كان“.
اترك تعليقاً