مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

الصدى


فريق القافلة

إنه ألعوبة الأطفال أينما وجدوا مكاناً يردِّد أصوات صراخهم، وهو مادة بحث للعلماء أتاحت لهم تحقيق بعض أكثر الاختراعات تطوُّراً. إنه الصدى الذي أسر بمهابته وغموضه خيال الإنسان في العصر الحجري، فأضفى عليه مفاهيم خرافية. وهو نفسه ما يساعد الإنسان اليوم على استكشاف حقائق محجوبة عن العين، وتتوزَّع ما بين القلب والأعماق السحيقة في باطن الأرض. وما بين الإنسان القديم وعلماء اليوم، هناك الأدباء والشعراء الذين فتنهم الصدى، فاستمدوا منه مفاهيم مجازية للتعبير عما لا يمكن لمفردة أخرى أن تعبِّر عنه. في هذا الملف، ينصت فريق القافلة إلى ما تقوله العلوم والآداب عن هذه الظاهرة الطبيعية التي على الرغم من اكتشاف حقيقتها، إلاَّ أنها تفقد يوماً قدرتها على مخاطبة الخيال.

حتى اليوم، وبعدما فسّر العلم منذ زمن طويل حقيقة الصدى، يبقى من المدهش أن نسمع الكهوف أو الجبال تردِّد كلماتنا إذا ما هتفنا بها بصوت عالٍ. إنها دهشة لا تخلو من الإحساس بشيء من الغموض والشاعرية التي تخاطب الخيال وتدعوه إلى أن يذهب حيثما يشاء. وإذا كان هذا هو حالنا اليوم مع الصدى، فماذا عن الإنسان القديم الذي كان يسمعه في الأودية وداخل الكهوف المظلمة؟

في كتاب “الضجيج، تاريخ إنساني للصوت والإصغاء”، يحتل الصدى الفصل الأول بكامله، ولا غرابة في ذلك نظراً لما كان لهذه الظاهرة الطبيعية من أثر على وجدان الإنسان القديم الذي -بسبب عجزه عن تفسيرها- نسج حولها الأساطير ورفعها إلى مرتبة الماورائيات.

لدى قبيلة الهنود الحمر الشيروكي عدد لا يُحصى من أسماء الصخور التي تتكلم

يؤكد ديفد هِندي مؤلف هذا الكتاب أنه كان للصدى في الكهوف التي سكنها الإنسان خلال العصر الحجري الأوسط والمتأخر، أي منذ 40,000 إلى 20,000 سنة، دور حاسم في تحديد أماكن الرسم والنقش على الجدران الداخلية لهذه الكهوف، بدليل وجودها في الأعماق المظلمة، حيث الصدى أقوى وأوضح، وليس بالقرب من المدخل، حيث الضوء يساعد على الرؤية. ويضيف أن عالِم الموسيقى أياكور رزنيكوف كان أول شخص يحدِّد هذا التوافق المدهش بين الأصداء والفنون. ففي منتصف الثمانينيات من القرن العشرين دخل رزنيكوف كهوف أرسي سور كور (في فرنسا)، ووضع خريطة دقيقة ووصفاً مفصّلاً لكل ما رأى وسمع، وقرَّر أن حوالي 80 في المئة من الرسوم تقع في أماكن تكون فيها الأصوات غير عادية. ولم يختلف الإنسان القديم في فرنسا عن غيره في العالم على صعيد إيلاء الصدى أهميةً ماورائية، وإن كنا نجهل تفاصيل مفهومه له. إذ يؤكد هِندي أن الفن الصخري في هورش كانيون بولاية يوتاه الأمريكية، وفي وادي هايروكليف في ولاية أريزونا، هي بالتحديد الأماكن نفسها التي تكون فيها الأصداء أقوى، أو ينتقل فيها الصوت إلى أماكن أبعد. كما أن لدى قبيلة الهنود الحمر الشيروكي عدداً لا يُحصى من أسماء “الصخور التي تتكلم”. ويخلص الباحث إلى القول: “من الصعب مقاومة الفكرة القائلة إن الأماكن التي يصدر منها صدى خاص تُصنّف من قِبل هذه الصور المرسومة على أنها مليئة بالأرواح، فيُنظر إليها على أنها مقدَّسة”.

أساطير طال عمرها
طال بقاء الصدى أسير الأساطير الخرافية حتى ما بعد نشوء الحضارات القديمة. فعندما اجتهد الإغريق في تفسير ظواهر الطبيعة، غالباً ما نسجوا أساطير تفسِّر هذه الظواهر من خلال أبطالهم الأسطوريين وآلهتهم الوثنية.

اعتقد العرب قديماً أن الصدى هو صراخ طير يخرج من رأس جثة من مات مقتولاً يطلب الثأر له.

وكان للصدى نصيب وافر من هذه الجهود. تقول الأسطورة إن حورية حسناء اسمها إيكو أثارت حفيظة هيرا بكثرة ثرثرتها عن علاقة زيوس بالإنسيات، فعاقبتها بأن سلبتها القدرة على الكلام، وسمحت لها فقط بترديد الكلمة الأخيرة. وتضيف صياغة أسطورية أخرى أن إيكو أحبت نرسيس الجميل، لكنه هجرها عندما وجد أنها لا ترد عليه إلا بالكلمة الأخيرة، فذبلت وخارت قواها حتى لم يبق منها إلا هذا الصوت الذي يشكِّل الصدى في الجبال واسمها للدلالة على الصدى في اللغات الأوروبية “Echo”. وهناك أسطورة أخرى تروي أن بان أحبَّ إيكو، لكنها أهملته ولم تستجب له. فغضب وأثار الرعاة ضدها فقتلوها ومزَّقوها إرباً إرباً، ووزَّعوا قطعها على الأرض كلها. ومنذ ذلك الحين صارت إيكو في كل مكان، واستطاعت وهي ميتة أن تسمع صوتها. كما قيل أن نرسيس أهملها ولم يعبأ بحبها فذبلت وتوحّدت مع صخرة تعكس الضجة والأصوات. ومن هذه الروايات وكثير غيرها، يمكننا أن نستشف أن نظرة الإنسان القديم إلى الصدى اتسمت دائماً بشيء من السلبية، وربطته بالموت. وهذا ما نجده أيضاً عند العرب في الجاهلية.

فقد اعتقد العرب قديماً أن الصدى هو صراخ طير يخرج من رأس جثة من مات مقتولاً يطلب الثأر له. (راجع الصدى في اللغة). وما كان لهذه الأساطير أن تتبدَّد نهائياً إلا بظهور الجهود الأولى لدراسة الصوت علمياً، بدءاً من القرن التاسع الميلادي على يد العالِم المسلم الرازي، ومن ثم نضج هذه الدراسات في عصر التنوير الأوروبي على أيدي ليونار أولر وجوزف لوي لاغرانج وجان لورون دالامبير في القرن الثامن عشر، حين وضعت أسس علم الصوتيات الحديث الذي لا يزال يشهد مزيداً من الاكتشافات حتى يومنا هذا.

حقيقته العلمية
الصدى هو انعكاس لصوت يصل إلى مسامع الشخص متأخراً بعض الوقت عن الصوت الأصلي، ومن ثم يتلاشى ببطء. وترتبط مدة هذا التأخير بالمسافة الفاصلة بين مصدر الصوت والمساحة الصلبة العاكسة له مثل الجدران الكبيرة أو الجبال، أو حواف الآبار العميقة. ولهذا فإن الصدى الذي تردِّده الجبال عبر الأودية أو الكهوف العميقة، يستغرق وقتاً أطول بكثير من ذلك الذي يتردَّد في قاعة كبيرة. ولكي تستطيع الأذن البشرية سماع الصدى يجب أن تزيد المدة الزمنية الفاصلة ما بين إطلاق الصوت وعودة انعكاسه على عشر الثانية. ولأن متوسط سرعة الصوت في الهواء هي 343 متراً في الثانية الواحدة، يجب على المساحة العاكسة للصوت أن تكون على مسافة تزيد على 17 متراً لتشكل صدًى مسموعاً.

الفرق بينه وبين الارتداد والطنين
لأن الموجات الصوتية ترتد عند اصطدامها بأي حاجز، فإن وجود هذا الحاجز على مسافة أقل من 17 متراً من مصدر الصوت، يجعل من المتعذر على الأذن أن تميّز هذا الانعكاس بوضوح، ولكنها تسمع تضخماً أو تغيراً ملحوظاً طرأ على الشكل المألوف للصوت الأصلي. وهذا ما نلحظه في الأصوات التي نصدرها في غرفة خالية من المفروشات، أو في تبدل الصوت لدى الطرق على وعاء معدني كبير بين أن يكون فارغاً، أو ممتلئاً بشيء معيَّن. وعندما يتكرَّر الارتداد بسرعة عشرات ومئات المرات ضمن حاضنة صغيرة للصوت وعاكسة بشكل قوي، يسمى الطنين، مثل الصوت الذي يصدر عن الطرق لمرَّة واحدة على باطن جرس، أو برميل معدني فارغ. إذ إن شكله الأسطواني يمكّن الجوانب الداخلية من تبادل صدى الطرقة مئات المرَّات في الثانية الواحدة، وتعجز الأذن عن سماع كل منه وحدها، فتسمعها كصوت طويل متواصل.

المسح الزلزالي

في عام 2015م، بمبادرة من إدارة الحفر في أرامكو السعودية، تم إطلاق مبادرة إنشاء أكاديمية الحفر العربية السعودية، لتدريب نحو 4000 شاب سنوياً على تقنيات حفر آبار النفط وصيانتها، وتم الاختيار لاسم أكاديميتها المختصر “صدى”، المستوحى من أحدث تقنيات التنقيب عن النفط وأكثرها شيوعاً في العالم: المسح السيزمي أو المسح الزلزالي. بتبسيط شديد للأمور، يمكننا أن نقول إن المسح الزلزالي يشبه الطرق على شيء لمعرفة ما في داخله. ولكن عندما يتعلق الأمر بالجيولوجيا والبحث عن الزيت والغاز على أعماق تصل إلى مئات أو حتى آلاف الأمتار تحت سطح الأرض، يجب أن يكون الطرق عنيفاً وذا قوة “مزلزلة”. تعتمد هذه التقنية على إرسال موجات زلزالية إلى باطن الأرض في منطقة المسح. فتتحرَّك هذه الموجات عبر باطن الأرض مثلما يتحرَّك الصوت في الهواء. وتغور بين الطبقات الصخرية والمكوّنات الجيولوجية بسرعات تختلف باختلاف كل طبقة تمر بها. وترتد الموجات الصوتية من الأعماق إلى السطح بتواتر يختلف باختلاف الطبقة التي عبرت بها الموجة. وعلى السطح، تتولى أجهزة الاستشعار المنثورة في منطقة المسح التقاط هذه الارتدادات.

يسمى الوقت ما بين لحظة توليد الموجة الزلزالية وارتدادها إلى السطح بـ “زمن الذهاب والإياب”، وهو وقت قصير جداً يقاس عادة بالملّي ثانية، لا يمكن رصده إلا بأجهزة فائقة الحساسية. وبعدما يجمع طاقم الحفر البيانات من أجهزة الاستشعار، تبدأ معالجتها بأجهزة بالحواسيب الفائقة التي تعطي “صورة زلزالية” عن باطن الأرض. وتختلف هذه الصورة في شكلها عن الصور الفوتوغرافية والمقاطع العرضية، ولكن يمكن للمهندسين المختصين أن يقرأوها بوضوح، وأن يدركوا ما تتكشف عنه، أي ما إذا كان يوجد نفط في هذا الموقع أم لا. وثَمَّة طريقتان معروفتان للحصول على الأمواج الزلزالية، تقضي واحدة منهما بوضع متفجرات في ثقوب تُحفر في أرض موقع التنقيب، وعندما يتم تفجيرها ترسل الموجات الزلزالية المطلوبة إلى الأعماق. أما الطريقة الأفضل والأكثر شوعاً، فتكمن في استخدم آليات خاصة لهذه الغاية. وهذه الآليات هي عبارة عن مركبات ضخمة يمكن أن يزيد وزن الواحدة منها على الثلاثين طناً، وتحتوي على نظام هيدروليكي يمكِّنها من أن “تخبط” بقوة كبيرة على لوحات ثقيلة موضوعة على سطح الأرض، فتولّد الخبطة موجات زلزالية تغور عميقاً قبل أن تعود وترتد صوب أجهزة الاستشعار على السطح. وفي أعمال التنقيب البحرية، يبقى المبدأ الفيزيائي هو نفسه، ولكن التقنية تختلف تماماً. فبدل المعدات الثقيلة المستخدمة على اليابسة والمتفجرات التي قد تلحق أضراراً بالحياة البحرية، يُستخدم الهواء المضغوط الذي تُطلقه مسدسات خاصة، لتوليد موجات زلزالية تغور عبر الماء حتى القاع وتنتشر فيه، قبل أن ترتد على الطبقات المختلفة التي يتشكل منها هذا القاع، لتلتقطها أجهزة الاستشعار الخاصة بالعمل في البحار. وإن كان صحيحاً أن اسم “المسح الزلزالي” يوحي بالضخامة، أو كأننا أمام حدث مهول، فإنه في الواقع عملية ذات دقة تفوق دقة الساعات السويسرية. فإضافة إلى الوقت القصير الذي يفصل بين إرسال الموجة الزلزالية وتسجيل أصدائها، والذي يقاس بأجزاء الثانية كما أشرنا، تلفت المصادر العلمية إلى دقة أجهزة الاستشعار وحساسيتها بالإشارة إلى أن عملية المسح قد تتوقف إذا تجاوزت سرعة الرياح الثلاثين كيلومتراً، لأنها قد تحرِّك الأعشاب أو الرمال الموجودة على سطح الأرض في الجوار، كما أن مشي حشرة صغيرة فوق جهاز الاستشعار قد يؤثر على سلامة البيانات.

تطبيقاته في الاختراعات الحديثة
من أعماق البحار إلى الفضاء الفسيح

شهد القرن العشرون ظهور عشرات الاختراعات القائمة على مبدأ علمي فيزيائي واحد هو رجع الصدى، أي قياس المدة الزمنية بين إطلاق موجة صوتية، أو ما فوق الصوتية، وارتدادها عن جسم صلب، لإدراك طبيعة هذا الجسم وموقعه وحتى تصويره. ومعظم هذه الاختراعات التي لا تزال تتوالى وتتطوَّر يتضمن فوائد جمة للإنسانية. من باكورة هذه الاختراعات جهاز استشعار الصدى الصوتي “السونار” الذي تم اختراعه خلال الحرب العالمية الأولى، لمساعدة الغواصات على الإبحار في الأعماق، ورصد وجود غواصات أو سفن معادية. ومن ثم استخدمته سفن الصيد لرصد مواقع تجمع الأسماك. ولكي نختتم بسرعة الاستخدامات العسكرية للصدى، نشير إلى أن التطبيقات التي قامت على مبدئه الفيزيائي تمتد من أجهزة الرادار إلى أحدث الطائرات المقاتلة المعروفة بلقب “الشبح”، والمصممة بشكل يخفف من صفاتها العاكسة للموجات الصوتية وموجات الراديو والأشعة ما تحت الحمراء، ويجعل من الصعب على أجهزة الرادار اكتشافها.

في الطب الحديث
وبعيداً عن الاختراعات العسكرية، يمكن الجزم أن الإنسانية لم تستفد في أي مجال من معرفتها العلمية لطبيعة الصوت مهما اختلفت أطوال موجاته ورجع صداها، مثلما استفادت من ذلك في الطب الذي توصَّل إلى تصوير الأنسجة والأعضاء الداخلية في جسم الإنسان بفعل الصدى (Echography). وتعتمد هذه التقنية على جهاز يُسمَّى الترجام بتحويل التيار الكهربائي إلى موجات ما فوق صوتية يزيد ترددها على 20.000 هيرتز، غير مسموعة بالأذن البشرية، ويرسلها إلى أنسجة الجسم. وفي تلك المرحلة، تتم تغطية المساحة المراد تصويرها بهلام، يضمن احتكاكاً أفضل لمصدر الموجات ما فوق الصوتية بجلد الجسم لأن وجود فراغات هوائية ما بين الآلة والجلد قد يشوش حقيقة الصورة.

هذا ما نلحظه في الأصوات التي نصدرها في غرفة خالية من المفروشات، أو في تبدّل الصوت لدى الطرق على وعاء معدني كبير بين أن يكون فارغاً، أو ممتلئاً بشيء معيَّن.

وعندما ترتد تلك الموجات عن المكونات الداخلية للجسم، يلتقط المحول هذه الارتدادات، ويحولها إلى إشاراتٍ كهربائية. ومن ثم يتولى جهاز الكمبيوتر تحويل الإشارات الكهربائية إلى صورة يجرِي عرضها على شاشة، أو تسجيلها على شريط فيديو أو كصورة كمبيوتر رقمية. ومن أكثر استخدامات التصوير الطبي بالموجات ما فوق الصوتية استكشاف حالة القلب والأوعية الدموية، معرفة جنس الجنين بعد الأسابيع الأولى وصحة تكوينه ونموه، إضافة إلى تشخيص حالات المرارة، المثانة، الكبد، البنكرياس وغير ذلك الكثير من أعضاء الجسم الداخلية. والواقع أن مبدأ إطلاق موجات صوتية ورصد ما يتكشف عنه صداها، كان بدوره فاتحة تطوير سلسلة من الاختراعات والابتكارات القائمة على إطلاق نبضات مغناطيسية ورصد ارتداداتها. مثل جهاز التصوير الطبي بالطنين المغناطيسي، وأجهزة كشف المعادن في باطن الأرض. وهي أجهزة بلغت مستويات فائقة من الدقة، بحيث إن بعضها بات قادراً على اكتشاف نوع المعدن في باطن الأرض قبل بذل الجهد في استخراجه. ومن أهم استخداماتها الكشف عن الألغام المدفونة في الأرض لتفكيكها. ووصلت استخدامات الصدى إلى الموسيقى. فمنذ الخمسينيات بذل موسيقيون جهوداً أثمرت في إضافة صدى معيَّن على بعض الجُمل الموسيقية لاعتبارات فنية وجمالية، وذلك باختراع جهاز “الإيكوبلكس” الذي يعيد إنتاج الصوت المسجَّل على شريط ممغنط مرة أخرى أو عدة مرات بفارق زمني قصير جداً. ومنذ بدايات القرن الحالي، شاع استعمال الدوائر الإلكترونية للحصول على مؤثر الصدى في التسجيلات الموسيقية الحديثة.

الصدى في الحياة الفطرية

منذ زمن طويل، عرف علماء الحيوان أن بعض المخلوقات في الحياة الفطرية تعتمد في وجودها، وبشكل مصيري، على قدرتها الفائقة في رصد الصدى. ومن أشهر الأمثلة على ذلك طائر الخفاش.

فالمعروف أن غالبية أنواع الخفافيش، وخاصة الصغيرة منها، تبيت نهاراً في الكهوف، وتخرج ليلاً لتناول طعامها. وبعدما حيّرت قدرة الخفاش على الطيران سريعاً داخل الكهوف المظلمة ليلاً من دون أن يرتطم بجدران الكهف، تبيَّن لهؤلاء أن هذا الطائر مزوّد بجهاز صوتي وعصبي يشبه المستشعر “السونار”. فهو يطلق نبضات صوتية قصيرة ذات تردُّد عالٍ لا تسمعها الأذن البشرية، تنتشر موجاتها أمامه، وترتد من على جدران الكهف أو العوائق التي تقف أمام مجال طيرانه. وبشكل شبه فوري، يقدّر دماغه الصغير المسافة الفاصلة ما بينه وبين هذا العائق، فيغيِّر اتجاهه لتلافي الارتطام به. واللافت أن الخفاش لا يستخدم السونار هذا خارج الكهوف، بل يعتمد على حاسة الشم للوصول إلى الفاكهة التي يأكلها في الحدائق والبساتين.

وما سقناه عن الخفاش ينطبق على كائنات عديدة، بما فيها البحرية منها، مثل الحيتان والدلافين وخنزير البحر التي تهتدي إلى سبلها تحت الماء، وإلى أماكن وجود فرائسها من الأسماك، وتستكشف محيطها حتى مسافات بعيدة من خلال الرصد بالصدى.

إن التطبيقات التي قامت على مبدئه الفيزيائي تمتد من أجهزة الرادار إلى أحدث الطائرات المقاتلة المعروفة بلقب “الشبح”، والمصممة بشكل يخفف من صفاتها العاكسة للموجات الصوتية

صدى الانفجار الكبير!
يقول الإعلان الترويجي لفلم الخيال العلمي “غريب” (Alien) الذي ظهر عام 1979م، “لا يمكن لأحد أن يسمع صراخك في الفضاء”. وفي ذلك تعبير عما كان، وربما لا يزال، حقيقة علمية تقول إن الفضاء الخارجي خالٍ تماماً، وبالتالي، فإنه يفتقد إلى الوسيط القادر على نقل الصوت. ولكن نظريتين في الفيزياء ظهرتا في السنوات الأخيرة، واحدة تقول إن الفراغ المطلق ليس موجوداً، وأن ثَمَّة مادة لم تحدِّد طبيعتها تملأ الكون، وأخرى تقول إن الغبار والغازات الناجمة عن الانفجار الكبير قادرة على نقل صوته. وبما أن هذا الصوت قد حصل منذ نحو 14 مليار سنة، فإن صوته اجتاز موقعنا في الفضاء. ولكن، نظرياً، يمكننا أن نسمع صداه المرتد من الغازات والغبار الكوني. كل ما ينقصنا هو التقنية اللازمة لذلك.

بلغت الأجهزة مستويات فائقة من الدقة، بحيث إن بعضها بات قادراً على اكتشاف نوع المعدن في باطن الأرض قبل بذل الجهد في استخراجه. ومن أهم استخداماتها الكشف عن الألغام المدفونة في الأرض لتفكيكها.

المرغوب والمكروه من الصدى في فن العمارة
كل من زار تاج محل في الهند، سمع دليله السياحي يضيف الصدى إلى محاسن عمارة هذا الصرح التاريخي. وللدلالة على ذلك، يهتف الدليل باسم الجلالة بصوت عالٍ، فيتردَّد صداه أكثر من مرَّة بوضوح شديد. وقد يصرّ الدليل على أن مدة الصدى تستمر دقيقة كاملة، ولكن التدقيق العلمي أكد أن هذا الصدى يستمر ما بين 12 و14 ثانية فقط، وهي مدة تبقى مذهلة. والأغرب من ذلك، أن الصدى يردِّد الكلمة الواحدة 14 مرة!. الصدى في تاج محل مُتعمّد، وكان عنصراً أخذه المعماريون بعين الاعتبار عندما صمموا هذا المبنى ووضعوا مقاساته وتجاويفه الداخلية وارتفاعاتها. فلقد شاء شاه جاهان أن يكون ضريح زوجته تاج محل “شبيهاً بالجنة”. وهذا ما كان وراء بنائه بهذا الشكل الرائع، من أرقى أنواع الرخام وترصيعه بالحجارة الكريمة، وأيضاً هندسة الصوت فيه بشكل يردّد أصداء القراءات الكريمة في فضائه “كما ولو أن الملائكة تقرأ في فضائه مع القارئ على أرضه”.

الصدى في اللغة

في “معجم العين”، وهو أول معجم مُنسق للغة العربية، وضعه الخليل ابن أحمد الفراهيدي في أواسط القرن الثاني الهجري، نجد معنى كلمة صدى؛ مشتملاً على كل ما سيرد لاحقاً في باقي المعاجم والقواميس العربية، كما تضمَّن أيضاً عدداً من الإشكاليات الشائقة. يقول الخليل: “الصَّدَى: الهام الذكر، ويجمع أصداءً. والصَّدَى: الدماغ نفسه.”

ويقال بل هو الموضع الذي جُعِلَ فيه السمع من الدماغ. يقول امرؤ القيس في وصف الدار: صَمَّ صداها وعَفَا رَسْمُها/ واستَعْجَمَتْ عن منطقِ السائل. والصَّدَى: الصوت بين الجبل ونحوه يجيبك مثل صوتك. والصدى طائر تزعم العرب أن الرجل إذا مات خرج من أذنيه ويصيح: وافلاناه… والصَّدَى: العطش الشديد.

ويخبرنا الفيروزآبادي، المتوفى عام 817هـ، في “القاموس المحيط”، أن الصَّدَى: “طائِرٌ يَخْرُجُ من رأسِ المَقْتُولِ إذا بَلِيَ”.

وفي لسان العرب، يتوسع ابن منظور الأنصاري المتوفي عام 711هـ، في تبيان معاني الصدى، فيضيف إلى الفراهيدي والفيروزآبادي في ما يتعلق بمسألة الطائر تلك ما يلي: “طائِرٌ يَصِيحُ في هامَةِ المَقْتُولِ إذا لَمْ يُثْأَرْ به، وقيل: هو طائِرٌ يَخْرُجُ من رَأْسِهِ إذا بَلِيَ، ويُدْعَى الهامَةَ، وإنما كان يزعُم ذلك أَهلُ الجاهِلية”.

ثم يضيف معنى المشاهدة الحسية المباشر: والصَّدَى ما يُجِيبُكَ من صَوْتِ الجَبَلِ ونحوهِ بمِثْلِ صَوْتِكَ.

وينقل البعض، ومنهم التهانوي في “كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم”، عن فخر الدين الرازي (544هـ- 606هـ) واحدة من أدق الحقائق العلمية في قوله: “لكل صوت صدى، لكن قد لا يُحس به إما لقرب المسافة بين الصوت وعاكسه فلا يسمع الصوت والصدى في زمانين متباينين، بحيث يتقوى الحس على إدراك تباينهما، فيحس بهما على أنهما صوت واحد كما في الحمامات والقباب المُلس الصقيلة جداً، وإما لأن العاكس لا يكون صلباً أملس، فيكون الهواء الراجع كالكرة اللينة، فإنه لا يكون نبوؤها عنه إلا مع ضعف، فيكون رجوع الهواء عن ذلك العاكس ضعيفاً”.


تقلّب صوره في الشعر والأدب

لكل شاعر “صداه” الخاص في واحدة من قصائده، يقول أمير شعراء النبط محمد بن لعبون المتوفي في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي:
“أسأل الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟
قال الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟”

وبعده بنحو قرن ونصف القرن، كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب قصيدة “أنشودة المطر”، وجاء في أحد مقاطعها:
“أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
يا خليج يا واهب المحار والردى”

وقبل نحو ثماني سنوات من يومنا هذا، اندلع نقاش بين النقَّاد حول أسبقية ابن لعبون في إبداع هذه الصورة الشعرية التي تبدو لوهلة هي نفسها عند الشاعرين. فمنهم من رأى أن السيّاب استوحى بشكل واضح ما قاله سلفه، ومنهم من نفى. وكان لكل من الطرفين حججه المختلفة. ما يهمنا هنا هو ما يتبدى من اختلاف في مفهوم الصدى عند الشاعرين. فعلى الرغم من أن ابن لعبون أنسن الصدى بفعل “قال”، فإنه أبقاه على وظيفته الحقيقية، ألا وهي الترداد الدقيق للصوت. أما السياب، فقد حذف من جواب الصدى اللؤلؤ الذي هو رمز للخير والثروة، وأبقى على المحار والردى، للدلالة على الخواء والموت، وكأن الصدى بالنسبة إليه هو شخص محاور، يفكر قبل أن يجيب عن الصوت، ولا يكتفي بترداده. هذا التلوّن في التطلع إلى الصدى هو السمة البارزة في تعامل الشعراء معه، حتى ليمكن القول إن لكل شاعر قديم أو حديث، مفهومه الخاص للصدى، أو أن الصدى مادة طيّعة يمكن للشاعر أن يقولبها كما يشاء وفق مقتضيات استخدامه.

ففي فخره بنفسه، يقول المتنبي في قصيدته “لكل امرىءٍ من دهره ما تعودا” التي يمتدح بها سيف الدولة الحمداني:
“وما الدهرُ إِلّا مِن رُواة قصائدي
إِذا قلت شِعراً أَصبح الدهر مُنشداً
وَدَع كلّ صوت غير صوتي فإنني
أَنا الصائح المحكي والآخرُ الصَدى”

فالصدى عند المتنبي مقياس للقيمة. إذ إن قيمة الأصل تعلو عادة على قيمة ما يُشتقّ عنه، تماماً كما أن قيمة القول تعلو على قيمة ترداده. وتستمر صور الصدى في التقلب وصولاً إلى الشعر المعاصر، ليصبح في قصيدة لعبدالله البردوني مرادفاً للتجاوب المطلق، والتجرد من القدرة على التغيير أو المعاكسة، إذ يقول:
“من ذا يناديني؟ أحسّ نداء
يعتادني فيحيلني أصداء
فأشد أنفاسي وأعراقي إلى فمه

وأغزل من شذاه رداء”.

عنوان قصيدة البردوني هذه هو “صدى”، وهو أيضاً عنوان قصيدة لمحمود درويش يقول فيها:
“في الصدى بئر
وفي البئر صدى
وأنا أبحث ما بينهما
عن مصدر الصوت سدى!”

وفي هذا يصبح الصدى رمزاً للمجهول، وحافزاً للبحث عن حقيقة هذا المجهول، وكأن الأصل قد ضاع أو لم يعد موجوداً. وفي نثر درويش هناك حضور لافت للصدى أيضاً، يقول عنه في نصه “في حضرة الغياب”:

“الوداع هو الصمت الفاصل بين الصوت والصدى. أما الصوت فقد انكسر. وأما الصدى فقد حفظته وديان وكهوف مرهفة السمع كآذان كونية، ضخمته صدى للصدى. الصدى وصية الزائر للعابر، وقيافة الطائر للطائر، وإلحاح النهاية على إطالة الحكاية..الصدى هو نقش الاسم في الهواء”.

وبصورة الصدى كإلحاح على إطالة الحكاية، نقترب من أكثر مفاهيم الصدى شيوعاً عند الأدباء، ألا وهو استرجاع الماضي أو فصلاً منه. مفهوم عبّر عنه بصورة لا تقبل التأويل الشاعر أحمد شوقي في قصيدته “يا جارة الوادي”، حيث يخاطب مدينة زحلة اللبنانية بالقول:
“يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى
والذكريات صدى السنين الحاكي”

واستخدام الصدى كرمز لما يعفّ عنه الزمن ويحيله إلى ذكرى باهتة يحيلنا إلى عالم الأدب والرواية. كتب لا تُقرأ من العنوان بسبب ما يتسم به من قدرة على تحريك الخيال، كان الصدى ولا يزال عزيزاً على قلوب الأدباء، يُسبغون عليه مفاهيم وصور شتى، ويطوّعونه وفق أمزجتهم أداةً للتعبير تختصر فكرة أو أفكاراً تحتاج إلى مفردات كثيرة للتعبير عنها. وهكذا قفز الصدى إلى عناوين ما لا يُحصى من المؤلفات الأدبية.

إن ما في ذاكرة أي منّا من أعمال أدبية وروائية دخل “الصدى” في عناوينها للدلالة على شيء معيّن، ليس أكثر من نقطة في بحر العناوين التي نجدها في فهارس المكتبات وعلى شبكة الإنترنت. ليس أولها “قطر الندى وبل الصدى” لجمال الدين بن هشام الأنصاري، وهو كتاب في النحو يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، ولا آخرها رواية غربية بعنوان “أطول صدى”، للكاتب الإيرلندي إيون ديمسي، صدرت في فبراير من العام الجاري 2021، ومسرح أحداثها مقاومة الفاشية في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية. وما بين هذا وذاك، نجد أن نجيب محفوظ، على سبيل المثال، نشر خلال تسعينيات القرن الماضي، وبفارق زمني لا يتعدَّى السنوات الخمس، كتابين ظهرت مفردة الصدى في عنوانيهما وهما: “أصداء السيرة الذاتية” والمجموعة القصصية “صدى النسيان”. للدلالة على الاسترجاع الجزئي.

إن الربط الأدبي بين الذكريات والصدى حتى حدود التماهي ما بينهما، كما يظهر عند أحمد شوقي في الشعر، هو أكثر المفاهيم شيوعاً في لغة الأدباء، وخاصة كتّاب الروايات التي تجري فيها محاولات استرجاع الماضي أو استعراضه، للدلالة على أن هذا الاسترجاع يبقى جزئياً.

ومن باب الدلالة على ما يمكن للصدى أن يعبرّ عنه من أمور وقدرة صورته الأدبية على الاختزال، نتوقف أمام واحد من أشهر الأعمال الأدبية العالمية في السنوات الأخيرة، ألا وهو رواية “ورددت الجبال الصدى” للأديب الأفغاني الأمريكي خالد حسيني.

تدور أحداث هذه الرواية ما بين عامي 1952 و2012م، وبطلاها طفلان أفغانيان: عبدالله وباري متعلّقان جداً ببعضهما، حتى إن عبدالله يعمل جاهداً على جمع ريش الطيور الذي تحبه شقيقته البالغة من العمر ثلاث سنوات. ويفترق الشقيقان عندما يضطر الأب إلى أن يبيع طفلته بسبب فقره. وبعد خمسين سنة وحياة حافلة بالأحداث والأسفار، يلتقي الشقيقان في مدينة لوس أنجلس الأمريكية.

ولكن عبدالله المصاب بمرض الألزهايمر يعجز عن تذكر الكثير. وعندما تقدِّم ابنته إلى عمتها علبة الريش التي احتفظ بها والدها لشقيقته، تعجز باري عن تذكر ما تعنيه هذه العلبة، وتكتفي بالتعبير عن امتنانها لأن أخاها أبقاها في ذاكرته. ففي نهاية العمر، في هذه الرواية كما في كثير غيرها، ومهما بلغت محاولة استرجاع الأحلام والجهود والمعاناة والآمال، فإن كل ما يحصل عليه المرء هو مجرد “صدى”.

ومن دون أن يكون الأمر متعمداً، تشكل الأصداء التي تظهر بشكل عفوي في بعض المباني نقاط جذب للفضوليين. ففي محطة قطارات “سنترال بارك” في مدينة نيويورك، توجد أقواس حجرية بنيت لتحمل هيكل المبنى. ولكن، وبالصدفة، جاءت مقاييس تقوسها وارتفاعاتها، بشكل، يقال إنه “يأسر” الصوت مهما كان خافتاً وينقله من طرف إلى آخر كما ولو كان جهاز هاتف. والواقع، فإن هذه الأقواس هي ذات انحناءات توجه الصدى في اتجاه تقوسها بدلاً من رده صوب مصدر الصوت، فيصل إلى مسامع شخص يقف عند الطرف الآخر من القوس.

هذه الظاهرة معروفة في كثير من المباني التاريخية، ومن ضمنها كثير من الجسور القديمة في أوروبا التي بنيت خلال السنوات الأولى من الثورة الصناعية، حيث تتخذ الأصداء صيغاً مختلفة، تجذب الفضوليين والسياح إليها. ولكن الصدى ليس دائماً على مثل هذه الصورة الجذابة.

في قائمة الأفلام السينمائية التي يمكن أن نجمعها من الإنترنت تُطالعنا مجموعة كبيرة من الأفلام التي تشترك في ما بينها بعنوان من كلمة واحدة: “الصدى”

منع الصدى.. قضية
في فن العمارة، وخاصة في تصميم المباني الكبيرة التي يدخل الصوت في صميم وظيفتها، مثل قاعات المؤتمرات والمسارح ودور السينما وما شابه ذلك، يُعدُّ الصدى مشكلة يجب التصدي لها ومنعه من أن يتشكَّل، وذلك منذ وضع الخطوط الأولى للتصميم. ومما يزيد من تعقيدات هذه المشكلة، أن من وظيفة هذه المباني إيصال الصوت من مصدره في نقطة عند طرفه إلى آخر القاعة.

إن إيصال صوت متحدث من على خشبة مسرح أو منبر إلى الصف الآخير من المقاعد، يفسِّر المقاييس المتوسطة للمسارح القديمة التي بنيت قبل اكتشاف الكهرباء، ويفسّر أيضاً تميّز صوت المؤدين للفنون المسرحية بارتفاع ملحوظ عما هو عليه في الأداء السينمائي. أما الصدى فكان يُمنع تشكله بثلاثة عناصر رئيسة، هي:

  • انخفاض نسبي للسقف، لأنه كلما علا السقف، ازداد احتمال تشكّل الصدى.
  • إيجاد فجوات على جانبي القاعة الكبيرة، وخاصة في الجهة المقبلة لمصدر الصوت، مثل المقصورات الخاصة والأبواب.
  • تغطية الجدران بستائر ضخمة لا وظيفة لها إلا امتصاص الصوت ومنع ارتداده.

إن مستخدم الإنترنت يتعرَّض أقل فأقل إلى وجهات النظر المخالفة له، ويُعزل فكرياً داخل فقاعة المعلومات الخاصة به

أما في العصر الحديث، ومع تبدي الحاجة إلى بناء مسارح أكبر مثل دور السينما، واختراع أجهزة تكبير الصوت، ازداد خطر الصدى، وتعقدت مواجهته، واتخذت أشكالاً عديدة.
فعلى مستوى تصميم هيكل المبنى، انتهى زمن المكعب البسيط. ونلاحظ ذلك في كثير من المسارح التي ينخفض فيها السقف فوق خشبة المسرح، ويعلو بشكل ملحوظ عند الطرف الآخر من القاعة، وهذا الشكل القمعي يساعد على إيصال الصوت حتى مسافة أبعد من السقف الأفقي، كما أنه يجعل مسار الصوت أطول، وبالتالي يضعف زخمه وقوة ارتداده. كما أن الجدران الجانبية في كثير من المسارح لم تعد متوازية، بل تنفتح وتبتعد عن بعضها أكثر فأكثر كلما ابتعدنا عن المسرح، وهذا ما يساعد على إيصال الصوت حتى مسافة أبعد، ومنع تبادل انعكاساته على الجدارين. أما الجدار المقابل للمسرح في آخر القاعة الذي يهدد برد الصوت وتشكيل الصدى، فقد صغر حجمه بفعل تدرج المقاعد صعوداً من بداية المسرح حتى نهايته. والمقاعد، بالمواد المصنوعة منها، وبالفجوات الصغيرة الني تتضمنها ما بينها وتحتها، تمتص كثيراً من الصوت. ومع ظهور الأجهزة الصوتية المتطورة، مثل “الدولبي ستيريو”، ازدادت تعقيدات ضمان حسن الصوت في دور السينما وسهل حلها في الوقت نفسه. فمع تعدد مصادر الصوت الذي يسمعه الجمهور، أصبحت مسألة الصوت والصدى من اختصاص مهندسي الصوت. ولتلافي مزيد من التعقيدات، عاد تقليد تغطية الجدران الداخلية للمسارح بمواد طرية نسبياً تمتص الصوت وتمنع الصدى.

صائد الأصداء
لاسم تريفور كوكس في علم الصوتيات مكانة تشبه اسم أينشتاين في الفيزياء. فهذا العالِم الذي يحمل شهادة دكتوراة في الصوتيات، ويشغل حالياً منصب بروفيسور في الهندسة الصوتية في جامعة سالفورد في إنجلترا، كان قد وصل إلى هذا التخصص بفعل شغفه بالموسيقى. ولكن سرعان ما تحول شغفه هذا إلى دراسة الصوت والصدى في القاعات المقفلة، لتحسين مستويات السمع فيها، بناءً على دراساته التي تتراوح ما بين البحث المخبري واستطلاع ردود فعل الناس على صوت الغسالة المنزلية على سبيل المثال. ونتائج أبحاثه المنشورة في عدة كتب ومقالات جعلت منه مرجعاً عالمياً في هذا المجال.

تسجيل أطول صدى في العالم
في عام 2009م، سمع كوكس بوجود مخزن للوقود السائل على شكل أنفاق ضخمة بنتها البحرية البريطانية سراً في إسكتلندا خلال الحرب العالمية الثانية، وتُعرف بالاسم المستعار “إنشنداون”. ومن بين هذه الأنفاق خمسة يبلغ طول الواحد منها 237 متراً وعرضه 9 أمتار، وارتفاع سقفه المقوس 13.5 متر. ومن خلال اطلاعه على هذه المقاييس، عرف كوكس أن بإمكانه أن يسمع فيها أطول صدى في العالم. وبالفعل، عندما اختبر صدى هذه الأنفاق بإطلاق رصاصة من مسدس داخلها، استمر صدى الطلقة المُسجّل لمدة 112 ثانية، وهو رقم قياسي وبفارق كبير جداً عما كان يُعتقد أنه أطول صدى مُسجّل حتى آنذاك، وهو 15 ثانية فقط في معبد هاملتون الحجري في إنجلترا أيضاً.


وفي السينما الحديثة يستمر الصدى..خرافياً

بعد قرون من الزمن على معرفة حقيقة الصدى، وعلى الرغم من الفوائد الكثيرة التي جناها الإنسان منه في العصر الحديث، يبدو أنه لم يفقد كثيراً من غموضه الذي جعل الإنسان القديم يربطه بالماورائيات والأساطير والخرافات. أو على الأقل هذا ما تقوله السينما.

ففي قائمة الأفلام السينمائية التي يمكن أن نجمعها من الإنترنت تُطالعنا مجموعة كبيرة من الأفلام التي تشترك في ما بينها بعنوان من كلمة واحدة: “الصدى”، ومجموعة أخرى أضافت إلى الصدى تعبيراً آخر، مثل “حراك الصدى” و “أصداء قوس القزح” و “صدى الصمت” وطبعاً “أصداء الخوف”.

فباستثناء حفنة قليلة من هذه الأفلام استخدمت الصدى بمعناه المجازي للدلالة على ما يتبقى من استرجاع أمر ما أو مرحلة مضت، مثل الفلم الأمريكي “صدى الحرب” (2015م)، الذي يروي قصة قتال بين مجموعتين من المزارعين في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية، أو الفلم الدرامي الصيني “أصداء قوس القزح” (2010م)، الذي يروي قصة فتى يصاب بسرطان الدم، ومعاناة عائلته مع هذه المأساة، فإن غالبية الأفلام الأخرى هي أفلام رعب، يلعب الصوت وصداه دوراً أساسياً في مجرى أحداثها. ولا غرابة في ذلك، إذ إن المؤثرات الصوتية هي من العناصر الفنية الأساسية في كل فلم، وفي أفلام الرعب والتشويق القائمة على الغموض وإثارة الخيال، فإن استخدام الصدى يحقق هذه الغاية أكثر بكثير من الصوت المباشر.

من أكثر الأفلام النموذجية المعبرة عن هذا التيار الفني السينمائي، فلم “الصدى” (2008م) الذي أخرجه يام لاراناس، وروى فيه قصة سجين سابق يدعى بوبي يعود إلى السكن في عمارة في مدينة نيويورك.

وفي عزلته عن مجتمع لم يرحِّب بعودته، يبدأ بسماع أصوات شجار من الشقة المجاورة. وعندما استنجد بالشرطة ذات مرَّة، تبين أن الشقة المجاورة فارغة منذ سنوات. وبعد تصاعد الأحداث بشكل درامي، يكتشف بوبي أن الرجل الذي كان يسكن في الشقة المجاورة كان قد قتل زوجته منذ سنوات، وعندما حاولت ابنته طلب النجدة صراخاً، لم يرد عليها أحد، فرماها والدها في مكب النفايات الداخلي.. وما الأصوات التي يسمعها اليوم إلا أصداء الجريمة القديمة.

وفي الواقع، يصعب الحديث عن فلم واحد من أفلام الرعب والبيوت المسكونة بالأرواح، يخلو من اعتماد الصدى لغةً لهذه الأرواح. وهذا يدل على أن الصدى لا يزال اليوم قادراً على مخاطبة الوجدان وأعماق النفس البشرية، كما كان حال هذا الإنسان قديماً في العصر الحجري.


“رجع الصدى”
و”سجن الصدى”

بسبب القدرة التعبيرية الكبيرة لمفردة الصدى، تم إطلاقها اسماً لأشياء لا حصر لها. فبالبحث السريع على الإنترنت، نكتشف أن الصدى هو اسم لعدَّة صحف ومجلات وبرامج إذاعية، وأيضاً اسم بلدات ومدن وجبال وخلجان وبحيرات ووكالات سفر وشركات خدمات.. ولكن ثمَّة تعبيرين لا يمكن إغفالهما بسبب تأثير ما يشيران إليه على حياتنا اليومية وحضورهما شبه الدائم فيها.

“رجع الصدى”
يُطلق “رجع الصدى” في عالم الإعلام الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي على ما يعود إلى الإعلامي أو مستخدم هذه الوسائل من معلومات أو إشارات تتعلق برسالة كان هو قد بعث بها إلى مجموعة من الناس لا يمكنه تقدير حقيقة ردود فعلهم أو تجاوبهم، حتى ولو كانوا “أصدقاء” أو “متابعين” وفق مفهوم الصداقة على وسائل التواصل الاجتماعي.

قد يكون رجع الصدى إيجابياً، يشجِّع المصدر على الاستمرار في تقديم رسائل مشابهة، فهو يقوي ويدعم السلوك بشكل مطرد. أما رجع الصدى السلبي فلا يشجِّع المصدر على توجيه رسائل مشابهة. ولكننا نعرف أن في النفس البشرية غريزة يسميها علماء النفس “الانحياز التأكيدي أو الذاتي”، يلخصها الرائد في علم نفس التفكير بيتر واسون بالقول: “عندما يرغب الناس في أن تكون فكرة ما صحيحة، إما لمصلحة بذلك أو بدافع الخوف من البدائل، ينتهي بهم الأمر إلى الإيمان العميق بأنها صحيحة وإلى جمع وتبني المعلومات التي تؤكدها، واستبعاد كل ما يمكن من الدلائل التي قد تهدِّد قناعاتهم”. وعمليتا الجمع والاستبعاد هما من أسهل ما يمكن على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث تعبِّر التعليقات وحتى الإيموجي عن ردود الفعل، لتشكِّل “صدى” لا يمكن لصاحب الرسالة أن يغفل تأثيراته عليه.

“سجن الصدى”
وبفعل “الانحياز التأكيدي” والقدرة على اختيار الجهات المُخاطَبة، ظهر مصطلح “سجن الصدى” قبل عشر سنوات، وقد صاغه الناشط في مجال دراسات الإنترنت إيلي باريزر بقوله: “إن مستخدم الإنترنت يتعرَّض أقل فأقل إلى وجهات النظر المخالفة له، ويُعزل فكرياً داخل فقاعة المعلومات الخاصة به”.

وثمَّة عامل إضافي يعزِّز الصدى المرغوب ويُحكم الإغلاق على مستخدم الإنترنت في “غرف الصدى”، وهو يكمن في الخوارزميات المعززة بالذكاء الاصطناعي، التي تترصد مستخدم الإنترنت لمعرفة ميوله واهتماماته واحتياجاته من خلال تسجيل وتحليل كل ما أدلى به على الشبكة، لكي ترد عليه، كما الصدى، باقتراحات وأمور ترى الخوارزمية أنها تتوافق مع أفكاره واهتماماته.


مقالات ذات صلة

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.

إنه الجواب عن أي سؤال يبدأ بـ “كم؟”. هو كالهواء الحاضر دائمًا من حولنا حتى الالتصاق بنا، ننساه أو نتناساه، أو نتجاهله، رغم أنه وراء تشكيل كل ما أنتجه وسينتجه الإنسان، من الملابس التي على أجسامنا، إلى أبعد الأقمار الاصطناعية عن كوكبنا. إنه القياس، هذا الفعل الذي لا بدَّ منه، ليس فقط لضمان سلامة إنتاج […]


0 تعليقات على “الصدى”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *