يعدُّ التدريب المهني والتعليم ما دون الجامعي في ألمانيا، المزدهرة اقتصاديًا، سرًّا من أسرار نجاحها وريادتها، فبفضله انخفضت معدّلات البطالة، وارتفعت معدلات التشغيل في الفئة العمرية من 20 إلى 34 لتصل إلى %92.7.
وفي المملكة، يبلغ إجمالي المنشآت التابعة للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أكثر من 260 منشأة، تغطي كافة أرجاء المملكة، في حين يصل عدد المتدربين بمختلف التخصصات إلى أكثر من 240 ألف متدرب.
في هذا العدد من مجلة القافلة، توجهنا بالسؤال إلى عدد من القرَّاء الأعزاء: ما قيمة الشهادة الجامعية في رأيكم؟ وهل ما زالت تعدُّ ضرورة في الحياة العملية؟ وما الذي استفدتموه شخصيًا من شهادتكم الجامعية في مجال العمل؟ وإلى أي مدى كانت المعرفة التي اكتسبتموها من دراستكم عملية وفي محلها؟
طرق متعدّدة للنجاح المهني والمعرفة
يمكن للشهادة الجامعية أن تكون مفتاحًا لبناء قاعدة معرفية قوية، وكذلك توسيع الشبكة المهنية. ففي بعض المجالات، تعدُّ الشهادة الجامعية أساسية لتوفير الأسس النظرية والمهارات اللازمة للممارسة المهنية.
ولكن الشهادة الجامعية ليست السبيل الوحيد لتحقيق النجاح، فالطرق المؤدية إلى النجاح المهني متعددة ومتنوعة. وبنظرة إلى بعض الشركات الكبرى، نجد أنها تُقدِّر الخبرة والمهارات العملية، وتُتيح الفرص للذين يستطيعون إثبات قدراتهم، حتى من دون شهادة جامعية، وهو ما يُظهر تغيُّرًا في التوجهات داخل الصناعة.
هذا يقود إلى استنتاج أن كثيرًا من الأشخاص حققوا النجاح في مسيرتهم المهنية من خلال التعـلُّم المستمر، إضافة إلى الخبرة العملية، وتطوير المهارات الشخصية كذلك.
من ناحية أخرى، يجدُر تحديد الهدف من الحصول على شهادة جامعية أو مهنية قبل الشروع في البدء بأيّ منهما.
اكتساب المعرفة لا يقتصر على الشهادات المعترف بها، فلا يمكن إغفال القدرة على التعـلُّم من خلال قنوات المعرفة المفتوحة وغير المكلفة، التي يمكن ارتيادها بحسب الفراغ والرغبة. تلك المعرفة التي من شأنها رفع مستوى التفكير، ودعم الثقة بالنفس، والدفع بالطموح إلى الأعلى.
تقدُّم مهني مقيّد.. وترقيات محدودة
في الآونة الأخيرة، تعالت الأصوات التي تشير إلى أمثلة من شركات عالمية لا تشترط الحصول على شهادة جامعية للتوظيف.
ومع ذلك، فإن علينا أن ندرك أن الفرص الوظيفية، التي قد تكون متاحة من دون شهادة جامعية، غالبًا ما تكون مقيدة ومحصورة من حيث القدرة على التقدُّم المهني وتطوير المستوى الوظيفي؛ إذ قد تفتقر إلى الفرصة الجيدة للترقية وزيادة الراتب، مقارنة بالموظفين المتخصصين والحاصلين على الشهادات الجامعية.
ربَّما هناك كثير من الوظائف التي لا تتطلب الحصول على شهادات جامعية، ولكن هناك دراسات أظهرت أن الحصول على شهادة جامعية لا يُؤهلك فقط للحصول على فرص وظيفية متنوعة ودخل أعلى وترقيات أسرع، وإنما يفتح لك أيضًا آفاقًا جديدة، ويمنحك مهارات يصعب الحصول عليها خارج البيئة الجامعية، مثل: التفكير النقدي، ومهارات التحليل، وحل المشكلات.
مع تطور سوق العمل، تظل الشهادة الجامعية أداة قوية لبناء حياة مهنية مرضية ومزدهرة. وبلا شك، تختلف الظروف الاجتماعية والاقتصادية بين المملكة وباقي الدول من جوانب عديدة، أهمها أن التعليم مكفول ومدعوم من الدولة. وفي كل الأحوال، يجب مراجعة قرار عدم الحصول على تعليم عالٍ من دون وجود خطة بديلة، مثل تجارة أو سعي وراء شغف معيَّن.
نجاح الأفراد غير مرتبط بشهاداتهم
الشهادة الجامعية وسيلة للتعلم والتطوير الشخصي والمهني، ولكنها في الوقت نفسه ليست أساسًا مطلقًا في نجاح الإنسان أو تميّزه، ولا يمكن الحكم على إنسان بالفشل لمجرد عدم حصوله على شهادة جامعية أو مواصلة تعليمه، فأهمية الحصول عليها مرتبط بطموح كل شخص في حياته وأهدافه الخاصة ومجال عمله.
هناك عديد من العوامل التي تؤثر على نجاح الإنسان في حياته، مثل: الشخصية، الموهبة، الاجتهاد، المهارات الإبداعية، القدرة على التكيف، التعاون، والقيادة، وغيرها. كما إن هناك عديدًا من الأمثلة على أشخاص نجحوا في مجالات مختلفة دون أن يحصلوا على شهادة جامعية، مثل بيل غيتس، ستيف جوبز، ومارك زوكربيرغ، وغيرهم.
نجاح أفراد أو تميزهم دون إكمالهم للدراسة، لا يعني التقليل من أهمية الشهادة الجامعية، فهي من دون شك تمنح الإنسان معارف ومهارات وثقافة، تساعده على فهم العالم من حوله، وتفتح له آفاقًا وفرص عمل وتطور أكبر في المستقبل، كما تزيد من احترام الإنسان وتقديره لذاته، وتشجعه على الإسهام في تنمية مجتمعه. لذلك، يجب على الإنسان أن يستغل فرصة التعليم الجامعي إذا كان بإمكانه ذلك، وألا يضيع وقته أو جهده في أشياء غير مفيدة.
على المستوى الشخصي، فأنا أعمل في مجال هندسة وصيانة السيارات، وكنت شغوفًا بهذا المجال منذ صغري، ولطالما رغبت في زيادة معرفتي وإلمامي بهذا المجال، حتى تخرجت من المرحلة الثانوية، والتحقت بالمعهد العالي السعودي الياباني للسيارات، واستفدت خلال دراستي المهنية كثيرًا من المعلومات، وإلمامًا بالمصطلحات التي كانت معرفتي بها مقتصرة على اللغة العربية قبل دخولي للمعهد، كما أصبحت معرفتي العامة بمجال تخصصي أوسع وأعمق، واكتسبت هوايتي وشغفي بهذا المجال صفة الاحتراف والتخصص، حيث عملت بعد تخرجي في كبرى الشركات اليابانية للسيارات، حتى أصبحت الآن مدربَ ميكانيكا في المعهد نفسه الذي تخرَّجت منه.
الشهادة.. سلاحٌ علمي ومعرفي
لا شك أن للشهادة الجامعية أهمية كبيرة على المستويين العلمي والمهني، ولكن أهميتها تختلف من مجال إلى آخر، ولكل مجال خصوصيته ودرجاته العلمية التي يتطلبها.
وتختلف أهمية الشهادة الجامعية ومجالها التخصصي، بحسب ميول كل شخص ورغباته وقدراته وطموحاته. فعلى سبيل المثال، من يطمح لأن يكون طبيبًا، فإن ذلك يتطلب منه دراسة دقيقة ودرجات علمية محددة، إضافةً إلى كتابة وقراءة كثير من البحوث والمقالات، وكذلك تعليمًا مستمرًا ودورات تدريبية مكملة، وغالبًا ما يضطر إلى التغرُّب والسفر في سبيل تحقيق بعض من تلك المتطلبات. وفي هذا المثال، تعدُّ الشهادة الجامعية مهمة جدًا ولا يمكن لأحد أن يصبح طبيبًا من دونها! ومثلها الكثير من التخصصات التي تحتاج إلى شهادة أكاديمية متخصصة.
في حالتي الشخصية، لم أتمكن من الالتحاق بالعمل في المجال الصحي، والترشّح للوظيفة التي أزاولها، من غير حصولي على شهادة البكالوريوس، ثم حصولي على درجة الماجستير التي ساعدتني كثيرًا في الإلمام بمجال تخصصي بشكل أكبر، ومن ثَمَّ نيل الترقية الوظيفية.
في المقابل، هنالك عدد من المجالات الوظيفية التي تتطلب مهارات وخبرات عملية متعلقة بمجالات محددة من دون الحاجة للشهادة الجامعية. فمجال التسويق، مثلًا، يتطلب مهارات في البحث، وفن اختيار وسيلة الإعلان، والقدرة على التخطيط وحل المشكلات. كما أن العمل في شركات التكنولوجيا والمعلومات، مثل: غوغل وأبل ومايكروسوفت وغيرها، تتطلب مهارات تقنية مختلفة قد لا تستدعي الحصول على شهادة أو على درجة علمية محددة.
لا يمكننا التقليل من أهمية الشهادة الجامعية بشكل عام، كما لا يمكننا مطالبة الجميع بالحصول عليها، فالأمر يعود إلى طموح كل شخص وهدفه الوظيفي ومجال عمله.
ولكن في رأيي، أن الشهادة الجامعية تعدُّ سلاحًا علميًا ومعرفيًا، حتى إن لم تخدم حاملها في مجال وظيفته.
اترك تعليقاً