مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

الشعراء العرب والحنين إلى الديار قبل المِعْمَار


المهندس نبيه البراهيم

في كل مراحله، كان للشعر العربي منابعه التي يستقي منها صوره الشعرية، وفقاً لعناصر الطبيعة ومعطيات الحياة المتاحة له ومن تلك المعالم أيضاً كانت المباني والقصور وما جادت به يد المعماريين من فنون ومنجزات وآثار. ولكن ما الذي ألهب وجدان الشعراء العرب؟ أهو المعمار بحد ذاته؟ أم الحنين إلى ديار الأحبة؟
في زمن الجاهلية وصدر الإسلام كان الاهتمام بالعمارة ينصبّ بشكل خاص على وظيفة المبنى سواء أكان داراً أو حصناً، يحمي من حر الصيف وبرد الشتاء وهجمات الأعداء ويحافظ على الخصوصيات. لذلك، لم يجد الشعراء في المعمار ما يستهويهم في الوصف. فكان الشاعر يقف على أطلاله متذكراً تلك الأيام الجميلة التي جمعته بالحبيب، ثم يشكو لوعة الرحيل والفراق. كما قال امرؤ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

ومثل ذلك ما قاله طرفة بن العبد في معلقته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمـــــدِ
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ

وعلى هذا المنوال سار كل شعراء المعلقات وغيرهم ممن جاء بعدهم. وقد أوضح تلك المقاصد بدقة في العصر الأموي قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى حين قال:
أمر على الديارِ ديارِ ليلـــــى
أقبل ذا الجدارَ وذا الجــــــدارا

بعد الفتح الإسلامي ونشوء الدولتين الأموية والعباسية وما تبعها من دول، وما نتج من اختلاط العرب بحضارات أخرى أكثر اهتماماً بالعمارة والعمران، ظهرت أنماط جديدة من الصور الشعرية تتماهى مع الفن المعماري، كلٌّ حسب بيئته ومحيطه، ولكن مع الاحتفاظ بالنمط القديم في التخلص سريعاً للانتقال إلى ما هو أكثر ارتباطاً بالإنسان محبوباً كان أو ممدوحاً، أكثر من الاستغراق في وصف المباني والقصور والطبيعة.
فالبُحتري كان يمدح الخليفة منطلقاً من وصف أحد قصوره التي بناها في عهده، مثل قصر الجعفري والحير والغِرد والصبيح والمليح وقصر الزَّوِّ المطل على نهر دجلة وقصر المتوكلية المشهور بمسجده ومئذنته الملوية. ومما قاله البحتري فيه:
أرى المتوكلية قد تعالـــــت
محاسنها وأكملت التمامـــــــــا
قصور كالكواكب لامعـــــات
يكدن يضئن للساري الظلامــــا

ومثله وصف البحتري نفسه لإيوان كسرى في المدائن، الذي كان سابقاً مضرب المثل في الأنس والعمران، تقصده الجموع ترتجي الحظوة عند صاحبه، وتخطب ودّه، فأمسى مضرب المثل في انقطاع السرور وذهاب السلطة، لذلك نجد شاعرنا يستهل قصيدته:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبــــــس
وتماسكت حين زعزعني الدهر
التماساً منه لتعسي ونكســـــي

ليتجه بعدها في وصف الإيوان:
مشمخر تعلو له شرفــــــات
رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لابسات من البياض فمــــــا
تبــصر منها إلا غلائل بــــــرس
ليس يدرى أصنع إنس لجـن
سكنوه أم صنع جن لإنــــــس

وفي الأندلس نعرّج على قصر الحمراء التُحفة المعمارية التي بناها بنو الأحمر في غرناطة في القرن العاشر الميلادي، وهو إنجاز معماري باهر بعمارته الراقية وعناصره الزُخرفية الرقيقة. وقد ارتبطت بعض الموشحات الأندلسية به مثل أبيات ابن زمرك، وبذلك بدأ مصطلح شعر النقوش، حيث نقش كثير من شعره على جدران القصر مثل قوله:
سلام الله يا قصر الســلام
على أرجائك الغر الوســـــــام

وقوله يصف قاعة الأختين المشهورة فيه، يقول فيها:
ولم نرَ قصراً منه أعلى مظاهراً
وأوضح آفاقاً وأفسح ناديـــــــا

وتستوقفنا عند قصر الحمراء قصيدتان لشاعرين معاصرين مرَّا به، وهما أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته المشهورة التي أنشدها عام 1916م ونعى فيها الحضارة العربية في الأندلس مجارياً فيها سينية البحتري الذي كان يشاركه الهمّ ولوعة فراق الوطن:
وعظ البحتري إيوان كســرى
وشفَّتني القصور من عبد شمس
لم يرُعني سوى ثرى قرطبــي
لمست فيه عبرة الدهر خمسـي

والوقفة الثانية مع نزار قباني في زيارته للقصر نفسه في ستينيات القرن الماضي، حين كان سفيراً في إسبانيا حتى عام 1966م، إذ كتب قصيدة بدأها بمخاطبة موظفة إسبانية تعمل في القصر مُرشدة سياحية، لينتقل بعد ذلك إلى مسقط رأسه دمشق ليتذكر أمه وبيته الدمشقي والبركة الذهبية بنافورتها التي تتوسط البيوت، كل ذلك من خلال هذه السمراء الأندلسية:
ورأيت منـزلنا القديم وحجرة
كانـت بها أمي تمد وســـــــادي
واليـاسمينة رصعت بنجومها
والبركـة الذهبيـة الإنشــــــــاد

وكما بدأنا رحلتنا بطرفة وأطلال حبيبته خولة في العصر الجاهلي، نختم بمنازل خولة مع عدنان العوامي وقصيدته التي أنشأها قبل أربعين عاماً واصفاً قلعتها القديمة ودروبها الضيّقة ودهاليزها المسقوفة وطُرقاتها المتشابكة ومعمارها القديم ومساجدها العتيقة، ليعطيها من عمق التاريخ بُعداً يتجاوز حاجز الزمن، ويبسط ذراعيه إلى عصر ما قبل الإسلام ليلتقي مع طرفة بن العبد الذي ينتمي إلى المكان نفسه.
سلاماً .. سلاماً منازل خولـــة
سلام الخليل تذكر خلَّــــــــــه
تذكَّر مدرج أحبابــــــــــــه،
ضفافاً ومشتلَ ضوءٍ ونخلــــــه
وملهى صبا سوسنيَّ الأديــمِ
تطوف المواسمَ بالعشق حوله .


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


0 تعليقات على “الشعراء العرب والحنين إلى الديار قبل المِعْمَار”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *