مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
عدد خاص | سبتمبر - أكتوبر 2022

السماء المحظورة

الصعود الشاق للأدب السعودي نحو العالمية


عبدالوهاب أبو زيد

لا ريب في أن الخروج من دائرة المحلية الضيقة إلى دائرة العالمية الأرحب والأوسع يُشكِّل حلمًا يدغدغ مخيلة كل أديب وكاتب، وإن لم يفصح عنه بشكل مباشر وصريح، ممن تراودهم الرغبة في أن تصل أصواتهم إلى أبعد مدى وإلى أقصى مكان يمكن لها بلوغه، مهما بدا ذلك في معظم الأحيان صعب التحقق وبعيد المنال. ولا شك في أن الأديب السعودي لا يختلف عن غيره في هذا الأمر، فهل تحقق له شيء من تلك العالمية المنشودة؟

ما المقصود بالعالمية؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، ربما يتعيَّن علينا أن نوضح أولًا المقصودَ بمفهوم العالمية الدارج على الألسن، والذائع في الكتابات النقدية المتخصصة وغير المتخصصة. فالعالمية هي “حالة من الانتشار والأهمية يكتسبها الأدب، والنتاج الثقافي بشكل عام، حين يخرج عن حدوده الإقليمية أو الوطنية (المحلية) ويصبح معروفًا أو مقروءًا في مناطق أخرى من العالم”.

وبحسب ما ورد في المدخل الخاص عن مفهوم العالمية في (دليل الناقد الأدبي) لميجان الرويلي وسعد البازعي، فإن الغرب قد كرَّس “دلالة العالمية بوصفها لصيقة بما يصدر عنه أو يتصل به من أدب”. وهذه الدلالة للعالمية هي الدلالة المكرَّسة لها أيضًا في العالم العربي، “فالأدب العالمي في العالم العربي هو بالدرجة الأولى الأدب الغربي، والأديب العالمي هو غالبًا الأديب الذي اعترف به الغرب”.

ورغم ما تعرض له هذا المفهوم للعالمية من نقد وتفنيد سواء أكان ذلك من المنتمين إلى ثقافات العالم المختلفة غير الغربية، أم حتى من داخل الغرب نفسه، إلا أنه يبقى المفهوم المهيمن والمسيطر حتى الآن بحسب معطيات الواقع الراهنة.

الترجمة بوصفها مقاومة للتحيز الثقافي
في كتابه (حصة الغريب: شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب)، يسوق كاظم جهاد رأيًا لعالمة الاجتماع والناقدة الأدبية باسكال كازانوفا، تدعو فيه إلى تخليص الترجمة من الحيادية الظاهرية، إذ ترى فيها أكبر رهان وسلاح بين المتصارعين على ساحة التنافس العالمية، وشكلًا من أشكال المقاومة داخل الفضاء الأدبي العالمي.

وفي معرض مقارنتها بين ترجمات الأعمال الآتية من دول الأطراف نحو المركز، والترجمات الذاهبة في الاتجاه المعاكس، تبيّن كازانوفا أن اللغات التي تُعدُّ “كبرى” لم تكسب صفتها تلك إلا لأنها تملك قنوات انتشار واسعة وتستند إلى تراكم ثقافي قوي، بينما تُعدُّ اللغات الأخرى في المقابل لغات “صغرى” لأنها تنتمي إلى ثقافات “معوزة”، لا بل ثقافات مهيمن عليها.

رجوعًا إلى السؤال حول نصيب الأدب السعودي من العالمية المنشودة، أحسب أن الإجابة فيما أعتقد، وكما يدرك الجميع ما لم يكونوا ممن يؤثرون أن يستظلوا بظلال الوهم، أوضح من الشمس في رابعة النهار، كما كان يقول أسلافنا في أدبياتهم، فالأدب السعودي، وفق المفهوم السائد للعالمية، لا يزال “مقصيًّا” خارج حدود تلك المملكة.

ولكن قبل أن نتحدث عن الأديب السعودي والأدب السعودي، لنتحدث أولًا عن الدائرة الأكبر، أي الأدب العربي ونصيبه من العالمية والمساحة التي يحتلها من خارطتها، بافتراض وجوده عليها بالفعل.

الانطباع السائد الذي تدعمه الحقائق، وكذلك أرقام المبيعات إن كانت هناك مبيعات، هو أن حضور الأدب العربي في دائرة الأدب العالمي يبدو ضئيلًا في مجمله، وأن الأسماء العربية التي نجحت في كسر طوق المحلية والانطلاق في الفضاء العالمي قد كتبت ما كتبت وأنتجت ما أنتجت من أدب بلغة الآخر وليس بلغتها هي، من أمثال جبران خليل جبران (صحيح أنه كتب بالعربية أيضًا، ولكن كتابه الأكثر ذيوعًا في الغرب، كتاب النبي، كُتب بالإنجليزية)، وأمين معلوف والطاهر بن جلون وآسيا جبار، أي أن أدب هؤلاء الملتبس في هويته ينتمي بمعنى من المعاني وببعد من الأبعاد إلى أدب اللغة التي كُتب بها؛ أو لنقل إن انتماءه إلى الأدب العربي يظل منقوصًا أو مشوبًا وهجينًا.

تهميش الأدب العربي
في كتابه (سياسات الاستلاب)، الصادر عام 1995م، نشر الناقد والمفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد مقالة لافتة للنظر تحت عنوان (الأدب المحظور Embargoed Literature)، وجَّه فيها نقدًا لاذعًا للدوائر الثقافية الغربية لتغييبها وتهميشها المتعمد للأدب العربي إجمالًا، حتى حين يتعلق الأمر بأديب حاز جائزة نوبل للآداب، مثل نجيب محفوظ، في ظل ما هو سائد من اهتمام كبير بكتب ومؤلفات النوبليين إجمالًا. فيقول سعيد إن الأدب العربي “يظل غير معروف وغير مقروء في الغرب بشكل نسبي، لأسباب فريدة من نوعها، وأظن أنها مدهشة في زمن أصبحت الذائقة هنا للآداب غير الغربية أكثر تطورًا من ذي قبل”.

فيما يخص الأدب السعودي على وجه الخصوص، فأعتقد أنه يتعرَّض لتهميش مضاعف ومزدوج؛ ففضلًا عن التهميش الذي يتعرض له باعتباره جزءًا من الأدب العربي المهمش بمجمله، ثَمَّة تهميش يتعرَّض له داخل الدائرة الثقافية العربية باعتباره ينتمي إلى أدب الأطراف، بحسب معادلة المراكز والأطراف أو المتن والهامش العربيتين

يأسى سعيد لحالة التحيز السافر ضد الأدب العربي في الغرب الذي يظهر اهتمامًا أكبر بآداب الأمم الأخرى، ويدلل على ذلك بمثال بارز، وربما المثال الأبرز، في حالة نجيب محفوظ الذي حصلت دار النشر (دبل دي) على حقوق نشر رواياته إثر فوزه بجائزة نوبل، وأصدرت مجموعة من رواياته وكتبه المترجمة، فيما بدا أنها ترجمات جديدة لتلك الأعمال، ليتبين أنها فيما عدا عمل واحد بحسب رواية سعيد، لم تكن سوى أعمال أعيدت طباعتها عن ترجمات سبق نشرها في إنجلترا. بعض تلك الترجمات جيد، ومعظمها أقرب إلى السوء كما يخبرنا سعيد. إذ لم تكلف تلك الدار الشهيرة نفسها عناء إصدار ترجمات جديدة للكاتب الحائز جائزة نوبل كما يحدث عادة.

ومما زاد الطين بِلَّة أن التقارير التي نُشرت في الصحافة الغربية عن محفوظ كانت في حقيقة الأمر عبارة عن تقرير واحد أعيد نشره بشيء من الزيادة أو النقصان في هذه المطبوعة أو تلك. وكل من كتبوا تلك التقارير كانوا “بريئين تمامًا من اللغة العربية والأدب العربي”، كما يقول سعيد، الذي يستغرب أيضًا أن فوز محفوظ بنوبل لم يثر فضول الكتّاب والنقاد الغربيين للبحث عن أسماء روائية وأدبية أخرى في العالم العربي. وكل ذلك يجعل من المستحيل ألا تعتقد بأن أحد أسباب هذه الحالة الغريبة هو “حالة التحيز العتيدة ضد العرب والإسلام التي تبقى قوية داخل الثقافة الغربية، وعلى نحو خاص داخل الثقافة الأمريكية” .

ضعف الإقبال على الأدب المترجم
لكن، ولكي نتحرَّى الإنصاف ونتغيا العدل، لا بد لنا من أن نذكر ما تشير إليه الإحصاءات من ضعف الإقبال عمومًا على ترجمة الآداب الأجنبية في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، حيث لا تتجاوز تلك النسبة %3 من الكتب التي تُنشر كل عام، كما ورد في مقالة “لماذا لا يقرأ الأمريكيون الرواية الأجنبية؟”، لكاتبها بيل موريس، نقلًا عن موقع إلكتروني تابع لجامعة روشستر الأمريكية، أطلق على نفسه اسم (ثلاثة في المائة) ليصبح ملتقى القرّاء والمترجمين والكتّاب والنقاد المهتمين بالآداب المترجمة.

وبحسب ما يورده هذا الموقع، فإن تلك النسبة الضئيلة تغلب عليها الكتب التقنية أو الطبعات المعادة لكلاسيكيات الأعمال المترجمة. ولا تشكِّل النسبة الحقيقية للروايات وكتب الشعر التي تنشر لأول مرة أكثر من %0.07 مما يطبع كل عام.

والغريب في الأمر أن ضعف حركة الترجمة لآداب العالم إلى الإنجليزية لا يقتصر على الأدب العربي أو آداب العالم الثالث إجمالًا، بل إنه امتد ليشمل حتى الآداب الغربية نفسها. ولعل أوضح وأقرب دليل على ذلك هو أن كثيرين فشلوا في إخفاء استغرابهم حين أُعلن فوز الروائي الفرنسي باترك موديانو بجائزة نوبل عام 2014م؛ على سبيل المثال لا الحصر، إذ كان شبه غائب عن المشهد الثقافي المكتوب باللغة الإنجليزية لندرة الكتب التي ترجمت له.

وبالطبع، هذا لا يعني أن هناك افتقارًا تامًا لأسماء نجحت في اختراق المشهد الثقافي الأمريكي وفرض وجودها فيه بقوة من أمثال جابرييل غارسيا ماركيز، وإيزابيل الليندي، وأورهان باموك، وهاروكي موراكامي. وسواء أكان هناك تهميش متعمد ومقصود للأدب العربي لدى الغرب أم لم يكن كذلك إلا أن النتيجة والمؤدى واحد، وهو ضعف حضور هذا الأدب الذي يُعدُّ من أكثر آداب العالم عراقة على الإطلاق.

حين يكون التهميش مضاعفًا
أما فيما يخص الأدب السعودي على وجه الخصوص، فأعتقد أنه يتعرَّض لتهميش مضاعف ومزدوج؛ ففضلًا عن التهميش الذي يتعرَّض له باعتباره جزءًا من الأدب العربي المهمش بمجمله، ثَمَّة تهميش يتعرَّض له داخل الدائرة الثقافية العربية باعتباره ينتمي إلى أدب الأطراف، بحسب معادلة المراكز والأطراف أو المتن والهامش العربيتين. ورغم وجود من يقول بسقوط هذه المسألة أو انحلال قبضتها على أقل تقدير، فإنها تظل ملقية بظلالها وآثارها، من بين أشياء أخرى لسنا بوارد مناقشتها في هذه المقالة، على ما تم ويتم ترجمته من نصوص عربية إلى اللغات الأجنبية.

ففي كتاب دار أنكور للرواية العربية المعاصرة (The Anchor Book of Modern Arabic Fiction) الذي حرره المترجم المعروف دينيس جونسون ديفيس، والمنشور في 2006م، نقرأ ترجمات لقصص قصيرة ومقاطع من روايات لـ 79 كاتبًا عربيًا، من 14 بلدًا عربيًا، ليس من بينهم سوى كاتب سعودي واحد هو عبدالرحمن منيف.

وفي السياق نفسه، يقول المترجم الألماني هارتموت فندريش، الذي ترجم حتى الآن ما يقرب من 60 رواية عن العربية في حوار أُجري معه في موقع قنطرة، إن سوق الكتاب الألمانية تتسم بهيمنة الأعمال المصرية واللبنانية، “في حين تغيب بلدان بأكملها. شبه الجزيرة العربية، على سبيل المثال، غير ممثلة بشكل كافٍ، أما الأدب اليمني والأدب العماني فيبحث عنه المرء من دون طائل. الأدب السعودي شبه غائب، أما الأدب المغاربي فلم يترجم في معظم الأحيان إلا عن طريق اللغة الفرنسية. وهكذا فإننا لا نجد سوى ترجمة أو اثنتين عن العربية مباشرة من الأدب التونسي، وهو ما ينطبق أيضًا على الجزائر والمغرب. وحسب علمي ليس هناك من موريتانيا أعمال ترجمت عن العربية. أما الأدب العراقي فممثل عبر عدة كتب، في حين لا يمثل ليبيا سوى كاتب واحد”.

وإذا ما نظرنا إلى حضور الأدب السعودي في لغة أوروبية أخرى مهمة، وهي اللغة الإسبانية، فلن نجد الأمر أحسن حالًا، كما يخبرنا سعيد بن مسفر المالكي في دراسته (تلقي الرواية السعودية في الثقافة الإسبانية: رجاء عالم نموذجًا)، إذ يقول إن حضور الأدب السعودي في الثقافة الأسبانية “إبداعًا ودراسات أكاديمية لم يكن في مستوى التطلعات”.

أصوات بلا صدى
في ظل هذا التهميش الذي يعيشه الأدب السعودي، يبدو أن بعض الجهات ودور النشر والمترجمين المحليين أنفسهم قد أخذوا على عاتقهم القيام بشيء ما لإيصال صوت الأدب والأديب السعودي إلى ضفة التلقي الأخرى، فصدرت في هذا السياق مجموعة من الأعمال والأنطلوجيات خلال السنوات الماضية، رصد كثيرًا منها خالد اليوسف في كتابه (الترجمة في الأدب السعودي: من وإلى اللغات الأخرى) 11. وجاء بعض تلك الأعمال نتيجة جهد ذاتي وبعضها الآخر بدعم من مؤسسات ثقافية رسمية، غير أن الغالب على تلك المشروعات أنها لم تكن وليدة اهتمام الآخر بنا وسعيه لترجمة أدبنا بقدر ما هي نتيجة رغبتنا في إيصال أصواتنا إلى الضفاف الأخرى البعيدة، وثَمَّة فارق كبير بين المسعيين.

ولا شك في هذا السياق أن هناك كثيرًا مما يُنتظر ويُتوقع من هيئة الأدب والنشر والترجمة في هذا السياق، التي أطلقت في فبراير من عام 2020م، والتي بدأت بالفعل في إطلاق بعض المبادرات ودعم مشروعات الترجمة التي من المأمول أن تحدث فارقًا وتحرز تقدمًا في سبيل إيصال الأدب السعودي إلى العالمية.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


رد واحد على “السماء المحظورة”

  • نظرة موضوعية نحو الأدب السعودي ، تناول الكاتب بشمولية أحد أبرز القضايا التي يواجهها الأدب السعودي وقدمها في تحليل دقيق ومنصف.
    شكرًا لقلمك وفكرك.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *