استحوذ السفر عبر الزمن على خيال البشرية منذ فترة طويلة. وظهرت أولى روايات السفر عبر آلة الزمن في عام 1895م، لكاتب الخيال العلمي إتش جي ويلز، حتى قبل ظهور أي إمكانية علمية لذلك. إذ كانت الفيزياء الكلاسيكية تعتقد أن الزمن يسير في اتجاه واحد مثل مياه النهر، وليس هناك إمكانية للسفر سواء إلى المستقبل أو الماضي. لكن مع ظهور الفيزياء النسبية وفيزياء الكم في أوائل القرن العشرين، تغيَّر مفهوم الزمن، وأصبحت هذه الفكرة ممكنة نظريًا؛ فازدهرت روايات وأفلام السفر إلى الماضي. ومؤخرًا، أثبت علماء جامعة كمبريدج أنه بالإمكان السفر إلى الماضي عبر التشابك الكمي، وقد يصبح تحقيقه على أرض الواقع ممكنًا في المستقبل. وحينئذٍ، سنعيش عصرًا أغرب مما تخيلته تلك الروايات.
تشير فرضيات عدة إلى أن السفر إلى الماضي أو المستقبل ممكن باستخدام طرق مختلفة؛ لكن جميعها واجهت ما يُعرف بـ “مفارقة الجَدِّ”؛ فإذا تمكن المرء من السفر عبر الزمن في الماضي وقتل جدَّه، فكيف سيكون موجودًا ليؤثر في الزمن الماضي؟ كما واجه بعض الفرضيات معوقات أخرى. فبناء ثقب دودي، مثلًا، يتطلب كميات هائلة من الطاقة أو المادة السلبية، وهي شكل من أشكال المادة لم تُكتشف حتى الآن. وحتى لو تمكنا من توليد مثل هذه الطاقة، فإن تثبيت ثقب دودي لجعله قابلًا للعبور، يمثل مجموعة من التحديات الإضافية التي لا يمكن تخطيها بالتكنولوجيا المتوفرة اليوم.
فمن أكثر الفرضيات تداولًا في الأوساط العلمية، كما جاء في مجلة “نيو ساينتست” (New Scientist) في 10 مايو 2023م، نذكر ما يأتي:
1- الثقوب الدودية
وهي بوابة افتراضية يمكنها أن تربط بين نقطتين في الزمكان. فيصبح من الممكن من الناحية النظرية أن يسافر شخص عبر ثقب دودي، ويصل إلى نقطة مختلفة من الزمن، كما جاء في المصدر نفسه المذكور آنفًا.
2- السفر عبر الزمن من خلال النظرية النسبية
وفقًا لهذه النظرية، يمكن أن يتأثر الزمن بالجاذبية والحركة، فكلَّما تحرك الجسم بسرعة أكبر، كان الزمن أبطأ بالنسبة إليه. كما أن الزمن يمكن أن يمر بمعدلات مختلفة من الجاذبية في أجزاء مختلفة من الكون. وعلى سبيل المثال، يتحرك الزمن بشكل أبطأ بالقرب من جسم ضخم مثل الثقب الأسود ذي الجاذبية القوية جدًا.
3- الأكوان المتوازية
أي وجود أكوان موازية إلى جانب عالمنا، ولكل منها خط زمني خاص بها. فإذا تمكنَّا من إيجاد طريقة للسفر بين هذه الأكوان، فيمكننا نظريًا السفر عبر الزمن.
4- السفر عبر الزمن من خلال فيزياء الكم
في العالم دون الذري، حيث تخضع حركة الجسيمات للفيزياء الكمومية، يمكن فعل أشياء تعتبر مستحيلة في عالمنا المألوف، مثل التراكب الكمي والتشابك الكمي والنقل الآني، التي تعمل بشكل مختلف تمامًا عن قوانين الفيزياء الأخرى المعروفة.
التشابك الكمي
التشابك الكمي (Quantum Entanglement)، هو عملية تتشارك فيها جوانب أساسية معينة للجسيمات الكمومية بين جسيمين من الفوتونات متباعدين مكانيًا (الفوتون هو جسيم ما دون الذرة، ويعرف بالجسيم الضوئي، وهو أصغر كمية quantum في الإشعاعات الكهرومغناطيسية ومنها الضوء). فعندما نغيِّر خصائص أي جسيم منهما، يحدث التغيير في الجسيم الآخر على الفور في الوقت نفسه، ومن دون أي تأخير زمني. فعلى سبيل المثال، إذا قِسنا زخم أحدهما، فسنعرف على الفور زخم الآخر. ونظرًا لأن تشابك الجسيمين يحدث على المستوى الكمي، فإن المسافة بينهما لا تؤثر في التفاعل، حتى لو كانت سنوات ضوئية؛ لذلك من الممكن استخدام التشابك الكمي كطريقة لنقل المعلومات على المستوى الكمي، كما جاء في مجلة “ببيولر ميكانكس” (Popular Mechanics) في 16 مارس 2017م. وقد حقق العلماء الصينيون عام 2017م، رقمًا قياسيًا في النقل الكمي الأبعد، حيث نقلوا معلومات فوتون من الأرض إلى قمر صناعي في الفضاء، يبعد 1400 كيلومتر، في تجربة تُحاكي الخيال العلمي، نشرت تفاصيلها صحيفة “الديلي ميل” في 11 يوليو 2017م.
تجارب المحاكاة
في عام 1991م، وضع الفيزيائي ديفيد دويتش، الإطار النظري للسفر عبر الزمن. وتوسَّع فيه سيث لويد فيما بعد، وهو أحد أبرز علماء فيزياء الكم على مستوى العالم. يتضمن الإطار استخدام طريقة أو خدعة في الحوسبة الكمومية تُسمَّى “ما بعد الاختيار”، حيث يُسمح للباحثين باستبعاد النتائج غير المرغوبة؛ وهذا يؤدي بشكل نظري إلى تغيير الأحداث الماضية التي لم تُرصد بعد. وقاموا بمحاكاة تجارب تضمنت استخدام خاصية التشابك الكمي في إرسال حالات إلى الوراء من الزمن. لقد استكشف سيث لويد وخبراء آخرون، كيف يمكن لفيزياء الكم أن تسمح للجسيمات بالسفر عبر الزمن عبر حلقات زمنية كمية أو منحنيات زمنية مغلقة، بحسب مجلة “نيو ساينتست” (New Scientist) في 29 مايو 2024م.
على هذا الأساس النظري، حقق الباحثون في جامعة كامبريدج تقدمًا كبيرًا في مفهوم السفر عبر الزمن، من خلال التشابك الكمي. فقد بيّنوا أنه من خلال التلاعب بهذا التشابك يمكنهم محاكاة قدرة الجسيمات في السفر إلى الزمن الماضي. فإذا جرى التلاعب بجسيم واحد، فإن نظيره المتشابك قد يستجيب كما لو كان يتلقى معلومات من الماضي. وقد نُشرت الدراسة في مجلة “فيزيكال ريفيو ليترز” (Physical Review Letters) في أكتوبر عام 2023م. ووجد الباحثون أن تأثير السفر عبر الزمن يحدث مرة من كل أربع محاولات؛ أي بنسبة نجاح تبلغ 25%. وقد أشار مؤلف الدراسة وأستاذ الفيزياء الكمومية بجامعة كامبريدج ديفيد أرفيدسون شوكور، إلى أن هذه التجربة من المستحيل إجراؤها بالفيزياء الكلاسيكية، التي تتبع السهم الطبيعي للزمن. ومن ثَمَّ، يبدو الأمر كما لو أن التشابك الكمي يولّد حالات تبدو فعليًا وكأنها سفر عبر الزمن. ويشبّه مؤلف الدراسة التجربة بشخص يريد إرسال هدية إلى صديقه، مع العلم أن توصيلها سيستغرق ثلاثة أيام. يرسل الشخص الهدية في اليوم الأول، ولكن بشكل مزعج يتلقى قائمة أمنيات صديقه في اليوم الثاني، ثم يرسل رسالة إلى الوراء لتعديل الهدية التي أُرسلت؛ وهو ما يعني أن الصديق يحصل على ما يريده من خلال قوة السفر عبر الزمن، كما جاء في موقع (Tech.News) في 18 أكتوبر 2023م.
يخضع السفر عبر الزمن في فيزياء الكم إلى نظرية السببية الرجعية أو السببية بأثر رجعي، وهذا يعني أنه يمكن للتأثيرات أن تسبق الأسباب؛ وهو ما يسمح للجسيمات بالتأثير على الأحداث الماضية، أو الحصول على المعلومات من أحداث الماضي كما حدثت بالفعل. وهذه المحاكاة تمهّد الطريق إلى إجراء تجربة حقيقية، حيث يُرسل عدد هائل من الفوتونات المتشابكة واستخدام مرشح لاختيار المعلومات الصحيحة والمحدثة. ويمكننا تشبيه ذلك بإرسال كثير من طرود الشحن، ثم توجيه المتلقي إلى التخلُّص من طرود الشحن الخطأ. وأوضح فريق جامعة كامبريدج أنهم لا يبنون آلة زمنية في حد ذاتها، لكنهم لاحظوا أيضًا أن عمليتهم لا تنتهك قواعد فيزياء الكم أثناء تغيير الأحداث الماضية.
سيناريوهات مستقبلية
قد لا يستطيع البشر في المستقبل المنظور أن يسافروا إلى الماضي. لكن، وبحسب آخر الأبحاث كما رأينا، سيكون بإمكانهم إرسال فوتونات إلى الماضي. وهذا بحد ذاته تطور مذهل؛ إذ سنستطيع في هذه الحالة مشاهدة أحداث الماضي كما حصلت بالفعل. ومع أننا لن نتمكن من التأثير على هذه الأحداث بالتكنولوجيا المتوفرة، ستُحدث هذه التطورات تغييرًا كبيرًا في كثير من شؤوننا القانونية والجنائية والتاريخية العامة والخاصة، على سبيل المثال لا الحصر.
على صعيد تاريخ الشعوب، سيُعاد النظر في كثير من كتب التاريخ، لما سيتبيَّن فيها من مغالطات ومبالغات وأخطاء، على ضوء المعلومات التي سنتلقاها من الفوتونات التي بحوزتنا، والتي تنقل المعلومات الحقيقية من الحدث مباشرة من الفوتونات المتشابكة كميًا معها في فترات معينة من الماضي. وستتندر الأجيال القادمة لمدى تأخر الإنسان قبل تمكنه من النظر إلى الماضي بواسطة التكنولوجيا. إذ سيصبح بإمكان أي شخص باستخدام جهاز صغير شبيه بالهاتف الذكي، النظر إلى أحداث أي فترة زمنية يختارها أينما كان.
بدورها، ستواجه المحاكم تغييرات دراماتيكية تتراوح ما بين إعادة النظر في بعض القوانين والاستغناء عن دور شهود العيان. وسيُتاح للأفراد النظر في سيرة أجدادهم عبر التاريخ بمشاهدات حية. وعندما يتيقن معظمهم مدى المشقات والأخطار التي كابدها أجدادهم للبقاء على قيد الحياة، وكيف أنهم كانوا لا يملكون شيئًا من التكنولوجيا الحالية، سيشعرون بأهمية حياة الرفاهية والأمان التي يعيشونها اليوم. وسينعكس ذلك بعمق على نظرتهم إلى أنفسهم وإلى المجتمع ككل، ويتيقنون أن ما يتنعمون به اليوم جاء بعد عناء كبير.
اترك تعليقاً