مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
عدد خاص | سبتمبر - أكتوبر 2022

السعودية الخضراء..

المستقبل يستمع للطبيعة


الدكتور عادل النيل

في كتابهما “المستقبل الذي نختاره” الصادر في عام 2020م، يضع كلٌّ من توم ريفيت كارناك وكريستيانا فيغيريس تقديرات لمستقبلين محتملين لكوكبنا، أولهما ما سيكون عليه الحال إذا أمكن خفض انبعاثات الكربون إلى النصف خلال العقد الجاري، وثانيهما هو ما سينجم عن الفشل في تخفيض نسبة الملوثات. ويستخلصان من ذلك أمرًا حاسمًا مفاده “أن تصبح أخضر هو التفكير في المستقبل”.

كارناك، هو إستراتيجي سابق لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيّر المناخي، وفيغيريس، الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيّر المناخي، وعندما كتب الإثنان ذلك الكتاب كانا ينظران عميقًا في المملكة العربية السعودية التي حين تصل إلى عام 2050م قد تفتح فيها النافذة على سعودية خضراء وهواء نقي، وربما لا يمكن فتحها نهائيًا، ما يعني أن لا مجال للتراجع عن التفكير في المستقبل بعدما أصبح اللون الأخضر أكثر من مجرد لون.

إفساح المجال للون الأخضر
في إطار مواكبة مجريات التغيّر المناخي وتناغمًا مع تحسين جودة الحياة، أطلقت المملكة مبادرتها الوطنية الطموحة “السعودية الخضراء”، التي تهدف إلى زيادة اعتمادها على الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية وحماية البيئة. وتمثّل هذه المبادرة قراءة متكاملة لما ينبغي أن تكون عليه أرضها ونمط الحياة فيها خلال الأعوام المقبلة، ويأتي ذلك في سياق تطوير أدوات البيئة وتوظيفها لخير الإنسان.

حينما قال الأديب الفرنسي فيكتور هوغو: “كم هو محزن أن تعتقد أن الطبيعة تتحدث والبشرية لا تستمع”، جاء ذلك بسبب سيطرة النزعة الصناعية على العقل البشري، حين ارتفع صوت الآلات وارتخى صوت الطبيعة. ولكن حين يطرق التغيّر المناخي الأبواب، فلا بد من إفساح المجال للون الأخضر حتى يحدث التوازن، فهو يرتبط بطبيعته بالأشياء التي يلوّنها ويصبح جزءًا من المعنى الواقعي للكائنات وقيمتها.

ثَمَّة دراسات كثيرة توصلت إلى نتائج مُقلقة تستدعي إطلاق مبادرات مثل “السعودية الخضراء”. وفي إحداها توصل فريقان من مركز النظم الهندسية المعقَّدة في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومجموعة من الباحثين في برنامج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المشترك لعلوم وسياسة التغيير العالمي، أوردتها صحيفة الإنديبندنت العربية بتاريخ 10 أبريل،2021م، إلى أنه بعد 30 عامًا فقط سترتفع درجة الحرارة في السعودية وبعض دول الشرق الأوسط ودول العالم إلى 60 درجة مئوية، وقد يتسبّب ذلك في هواء حار وثقيل محمّل بالجسيمات الملوثة، ولن يتمكن الإنسان من الخروج من باب المنزل ويتنفس هواءً نقيًّا.

منظومة خضراء متكاملة
تستهدف مبادرة السعودية الخضراء التي تحظى برعاية ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، توفير خيارات بيئية متعدِّدة للمملكة تتحوَّل معها إلى بيئة متصالحة مع الطبيعة من خلال توسيع نطاق العمل المناخي الذي يتم بالتعاون بين جميع فئات المجتمع والقطاع العام والخاص، وذلك عبر منهج عمل غير تقليدي تصبح فيه المبادرة أكثر استثمارًا للموارد وتطويرًا لها.

وقد جعلت المملكة من مبادرة السعودية الخضراء منظومة اقتصادية وبيئية تتفاعل فيها كثير من الجهات، بحيث ترسم التوجّه العام للمملكة في مكافحة التغيّر المناخي، وهو في محصلته أكثر من توسع خضري إذ يستوعب كثيرًا من القضايا والمحاور التي تعمل على تعزيز جودة الحياة، وتقديم النموذج السعودي للمستقبل الأخضر الذي يكتسب الاستدامة من الاستثمار في معطيات الطبيعة ومواردها المتعدِّدة. وذلك ما يوجزه سمو الأمير محمد بن سلمان، بقوله: “مبادرة السعودية الخضراء ستوفر فرصًا استثمارية ضخمة للقطاع الخاص، وفرص عمل نوعية للجيل المقبل من القادة في المملكة، إضافة إلى تعزيز العلاقات الدولية التي ستترك تأثيرًا إيجابيًّا في المنطقة والعالم”.

وكثير من أهداف المبادرة يعكس العمق الاقتصادي والبيئي الذي يتقاطع مع أهداف التنمية الشاملة والمستدامة وتلك الإنمائية على الصعيد الدولي. فتقليل الانبعاثات الكربونية بمقدار 278 مليون طن سنويًّا بحلول عام 2030م، وتحقيق الحياد الصفري للانبعاثات بحلول عام 2060م، يعني إسهامًا سعوديًّا مقدرًا على صعيد مكافحة التغيّر المناخي، وتحقيق تحوُّل بيئي مهم يمثّل استجابة نوعية وكمية لما ستطلبه الطبيعة في المستقبل.

القابلية للحياة
وتظهر مبادرة السعودية الخضراء أيضًا دور المملكة في حماية بيئتها وبيئة العالم من خلال تطوير أنظمة إنتاج الطاقة بزيادة إنتاج الكهرباء من مصادر متجدِّدة إلى %50 بحلول عام 2030م. ولذلك، تتمدَّد المبادرة إلى أكثر من اللون الأخضر، وتجعله استثمارًا حقيقيًّا في المستقبل مع تعزيز مستهدفات الاستدامة بمزيد من أعمال التوازن البيئي من خلال زراعة 10 مليارات شجرة، وإعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي خلال العقود المقبلة، ورفع نسبة المحميات إلى أكثر من %30 من إجمالي مساحة المملكة. وتعيد مبادرة السعودية الخضراء مصطلح الاستدامة إلى الحياة، وتجعله أكثر فاعلية في المشهد البيئي والاقتصادي منذ إطلاق المصطلح في بداية السبعينيات الميلادية، فهو يعني باختصار أن يكون ما هو مستدام “قابلًا للحياة”. وتبعًا لذلك، فإنه يصف التعامل مع موارد يسمح لها أن تكون سليمة ومحفوظة بشكل دائم.

تعيد مبادرة السعودية الخضراء مصطلح الاستدامة إلى الحياة، وتجعله أكثر فاعلية في المشهد البيئي والاقتصادي منذ إطلاق المصطلح في بداية السبعينيات الميلادية، فهو يعني باختصار أن يكون ما هو مستدام “قابلًا للحياة”

في عام 1987م، صدر عن لجنة الأمم المتحدة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية، وتُعرف أيضًا باسم لجنة برونتلاند، تقرير بعنوان “مستقبلنا المشترك” وصفت فيه التنمية المستدامة بأنها “تلبّي احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها”. وهذا ما يجعل “السعودية الخضراء” تمضي في اتجاه تنموي يمكن أن يحقِّق كثيرًا من خلال تركيزها على الإنسان واستماعها لصوت الطبيعة.

دعم الاستدامة
يشمل الإطار التنموي في المبادرة أيضًا تحقيق هدف الإسهام في خفض انبعاثات غاز الميثان على المستوى العالمي بنسبة %30 في إطار التعهد العالمي بشأن الميثان بحلول عام 2030م، وإلى جانب ذلك تعمل المملكة على تخفيض انبعاثاتها من الكربون باتباع نهج شامل يتضمَّن: تنفيذ برامج لرفع كفاءة الطاقة، وتطوير تقنيات احتجاز الكربون، وزيادة وسائل النقل العام، وزيادة القدرة على إنتاج الطاقة المتجدِّدة.

وذلك يعني تكامل أدوار الأفراد والمؤسسات للبناء على ما هو قائم من مبادرات وبرامج، وتطويرها خاصة وأنها تجمع بين حماية البيئة، وتحويل الطاقة، وبرامج الاستدامة، ما يفتح الأفق والأبواب واسعة لعمل جماعي باتجاه المستهدفات في ظل وجود الحوافز والمحفزات التي تجعل المبادرة عملًا وطنيًا مؤثرًا، ويمكن أن يقدِّم كثيرًا من الفرص الاستثمارية الداعمة لمنهج الاستدامة.

مساحات الأمل
وتمضي المملكة قدمًا في تحقيق أهداف السعودية الخضراء من خلال حزمة من المشروعات والبرامج التي تُسهم في التحوّل الأخضر. ويبرز البُعد الاقتصادي والاستثماري من خلال ما تم استثماره حتى الآن، مثل استثمار 5 مليارات دولار في محطة الهيدروجين الأخضر بمشروع نيوم، لإنتاج كميات كافية من الهيدروجين لتزويد 20 ألف حافلة بالوقود يوميًّا، وزراعة 7.5 مليون شجرة لتحويل العاصمة الرياض إلى واحة خضراء، وذلك جزء من مساحة تشجير مستهدفة في مشروع الرياض الخضراء تصل إلى 541 كيلومترًا مربعًا. وتشمل الرسملة كذلك استثمار 346 مليار ريال في استراتيجية استدامة الرياض بهدف خفض الانبعاثات الكربونية ورفع نسبة المركبات الكهربائية في المدينة إلى %30 بحلول عام 2030م، و15 مليار دولار في مخطط العلا الجديد لإقامة أكبر واحة في العالم.

وطالما أن الأخضر أصبح هو المستقبل، فذلك يعني أن مبادرة السعودية الخضراء تمثّل رؤية وطنية تستثمر في الإنسان والموارد وحمايتها، وتطويرها بما يقدَّم للأجيال مساحات شاسعة من الأمل في طبيعة أقدر على مواجهة تحدياتها، وثقة في تحقيق أهدافها، ومرونة في تطوير ما تحصل عليه في الحاضر.


مقالات ذات صلة

يعكس التطبيق المتكامل لأنظمة التنقل ذاتي القيادة مدى التقدم الذي وصل إليه أيُّ بلدٍ من البلدان من جوانبه كافة. إذ تتطلب هذه الأنظمة، قبل الشروع في تطبيقها، بنية علمية وتكنولوجية وثقافية وفنية راسخة.

يحدث التجدّد البيولوجي في الطبيعة على مستويات عديدة ومختلفة، بدءًا من الكائنات الحية الفردية، مثل: السمادل وديدان الأرض والهيدرا وغيرها، مرورًا بمجتمعات الميكروبات في جسم الإنسان وعليه، وانتهاءً بالأنظمة البيئية الكبيرة مثل الغابات عند قطعها. فلماذا لا تـتجدد أنسجة الإنسان وأعضاؤه عند الضرر؟

ستحوذت الحركة الدائمة على خيال العلماء منذ حوالي ألف سنة. وتعددت محاولات تحقيق هذا الحلم بإنشاء آلات تعمل بشكل دائم من دون طاقة خارجية، حتى القرن الثامن عشر، إلى أن حدَّت من زخمها بعض الانتقادات العلمية، مع صعود العلم الحديث.


0 تعليقات على “السعودية الخضراء..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *