مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

الموسيقى العربية

الزمن الجميل.. لم يعد في مكانه المعهود!


آدم فتحي

ليس غريبًا ألا تقتفي الأجيال الجديدة نماذج السابقين، فلكلّ جيل حاجته في بيئته. لقد شهدت خمسينيات القرن العشرين في مصر، مثلًا، مواجهة بين ما يمكن أن نُطلق عليه اسم “الأغنية الكلثوميّة” التي كانت بصدد اختتام زمنها والأغنية الحليميّة التي كانت بصدد افتتاح زمن جديد. ولعلّ من أطرف التعابير الفنّية عن هذه المواجهة فيلم “ليالي الحبّ” الذي قدّمه عبدالحليم حافظ في منتصف الخمسينيات. إذ نتابع عبدالحليم في واحد من أذكى المشاهد وهو يؤدّي مونولوج “أمرك يا سيدي” (تأليف فتحي قورة وتلحين محمود الشريف) عارضًا نماذج تقليديّة من الغناء على والد حبيبته المهووس بالقديم، ملمحًا إلى أنّه لا يفعل ذلك عن اقتناع، بل خوفًا من أن يُوضَع الحديد في يده.

ذات ليلة في تونس

عشنا شيئًا من هذا في إحدى الليالي التونسية في مطلع ثمانينيات القرن العشرين. كانت الساحة الغنائية قد بدأت تشهد استقطابًا حادًّا بين الأغنية المكرّسة والأغنية الجديدة الاحتجاجية متمثّلة في جانب من أغاني المزود من جهة، وفي مجموعة إيمازيغن من جهة أخرى. وازداد الاستقطاب حدّة بعد ذلك مع بروز حمادي العجيمي ومحمد بحر والزين الصافي ومجموعات البحث الموسيقي والحمائم البيض وأولاد المناجم وغيرهم.

في تلك الليلة حظينا ببرنامج تلفزيوني استثنائي جرى بثّه في وقت الذروة، وتواجهت فيه الأغنية التونسية الرسمية الرافلة في كامل طمأنينتها المعرفية والجمالية، والأغنية المتمرّدة التي ما انفكّت تعيش قلقًا مزمنًا ليس أقلّه قلق التسمية بين أغنية ملتزمة وأغنية بديلة وأغنية سياسية. نسينا التفاصيل، لكننا لم ننسَ أننا شاهدنا للمرّة الأولى في التلفزيون التونسي فنانًا شابًّا لا يحاول النسج على منوال السلف، بل يقترح عملًا نابعًا من مشاغلنا وأسئلتنا.

اقترح الهادي على قلّة من التونسيين في تلك الليلة أغنية “البابور” من تلحينه وتأليف الشاعر المولدي زليلة (اُشتهِر بعمّ خميس). وهي أغنية تعالج تيمة اضطرار الشباب إلى الاغتراب. كتب الشاعر الحالة بمعجم مختلف مقارنًا الشباب المُهَجّر بالقطيع الذي يُشحن في البابُور (السفينة)، مؤكّدًا أن “الفرق بينه وبين البقر، جواز السفر…”. ولحّن الفنّان هذه الكلمات بحساسية منفلتة من القوالب الطربية القديمة. فإذا نحن أمام استعارات جديدة منفتحة شرقًا وغربًا، تتجسّد فيها مصالحة الأغنية المثقّفة مع شعبها. أغنية تطمح إلى بناء ذوق سليم آخر معطّر بوحل الأرض قريب ممّا فعله بودلير حين صنع من الوحل ذهبًا. أغنية السؤال والاحتجاج والتحرّر والحلم. أغنية الأوجاع والمسرات بعيدًا عن التباكي والاحتفالية العمياء. تلك سمات الأغنية الشعبية. أقصد تلك المنغرسة في ثقافة شعبها المنحازة إلى إنسانية الإنسان بشروط فنّ يلتزم بمتطلبات مغامرته في حواره مع محيطه، ولا يتذكّر الزمن الجميل، بل يحلم به ويسهم في صنعه منتقيًا وجوه اختلافه وائتلافه مع ماضيه.

لكل مخاض متطلبات

لم يسلم جيل من تهمتَي التنكّر للزمن الجميل والجهل بقوالبه التقليديّة. هُوجم كثيرون بسبب خروج الأغاني على القوالب المُجرّبة وبسبب الكلمات الجريئة. أذكر زياد الرحباني وأغنيته “ع هدير البوسطة”. أذكر الأبنودي وأغنيته “تحت الشجر يا وهيبة”. أذكر الكثير من المطاردات والملاحقات.

المُهم أن نقرّ بأن لكل مخاض متطلبات ومفاجآت، وبأن رفض الإقرار بذلك هو الذي يصنع من واقع الأمر أزمة عوضًا عن اغتنامه بوصفه فرصة. والحق أنه يندر، إن لم نقل يستحيل، أن ينتبه أيُّ جيل إلى جمال الزمن الذي يعيش فيه. لكأنَّنا مزمنون بالنوستالجيا في حاجة دائمة إلى مَثَلٍ أعلى نحلم به. وعوضًا عن أن نبتكره وعيوننا على المستقبل المحفوف بالمغامرة والمجهول، فإنّنا نفضّل استعارته من الماضي المدجّن والمألوف ونسمّيه “الزمن الجميل”. أغلب الظن أننا أمام عبارة مُغرضة يُطلقها الزمن الموالي على الزمن السابق، ويستعين بها أصحاب المواقع الراهنة على محاربة الجيل الجديد الذي يهدّد مواقعهم.

الموسيقار السعودي عبدالرب إدريس، أثناء تكريمه في مهرجان الموسيقى الدولي ضمن نسخته الثالثة والعشرين في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي.

الزمن السابق ليس بالضرورة أجمل

 ليس من المعقول طبعًا أن ننزّه أبناء هذا الزمن، فالكثير ممّا يروج فيه استهلاكي لا يعتدّ به وسرعان ما تمحوه الذاكرة. لكن، ليس من المعقول أيضًا أن نؤثم كلّ من يجدّد فيه، ولا إثم له غير انشقاقه. الزمن السابق ليس بالضرورة أجمل من زمننا هذا. كل ما في الأمر أننا ننظر إلى الزمن الذي يسبقنا بعد أن انقشع غباره واستقرّ الأمر لمبدعيه الجيّدين، فإذا هو يبدو لنا شبيهًا بالفردوس بالقياس إلى ما نعيشه في زمننا من رداءة غالبة. ولا مناص من ذلك. الرديء سِمَتُهُ الوفرة والجميل سِمَتُهُ الندرة. ولو تريّثنا قليلًا لرأينا أن زمننا حافل أيضًا بآيات الإبداع، لكنه يحتاج إلى عيون بصيرة متنبّهة. من ثمّ، حاجتنا إلى نقد مواكب وإلى قرية أكاديمية منفتحة على الساحة الثقافية.

إن القول إن الزمن الجميل مقيمٌ في الماضي مؤامرةٌ على الحاضر والمستقبل. ولو سلّمنا بأن القوالب القديمة هي عنوان الجمال لاكتفينا في الغناء بمدن معبد وأصوات إسحاق من دون أن نسمع لبليغ حمدي أو عبدالربّ إدريس أو أبي بكر سالم أو خالد الشيخ أو لطفي بوشناق أو كاميليا جبران. كأن نقول إن الشعر العربي الجميل توقّف عند امرئ القيس أو المتنبي فلا نعرف شيئًا من روائع قصيدة التفعيلة للسيّاب أو سعدي أو دنقل أو درويش… القوالب والأشكال شأنها في ذلك شأن اللغة والإيقاع، نتاج موعد مضبوط مع صدفة عابرة تصنعه الحاجة والموهبة في لقائهما باللحظة والمكان. أمَّا الإبداع، فهو خارج القوالب.

مدح الماضي واستعادة كل منظومته

إن مدح الماضي، بوصفه مقرّ سُكنى الزمن الجميل، هو كناية عن رغبة في استعادة المنظومة القديمة ككلّ بما فيها من قوامة سياسية واقتصادية واجتماعية. لو صحّ ذلك لنجح كرونوس في أكل أبنائه بوزيدون وديميتير وهاديس وهيرا، ولعاش عمرهم نيابة عنهم. الزمن إبحارٌ في موجات لولبيّة لا تتقدّم بنا دائمًا في المستقيمات، ولا يحدّها إلا أفق البيغ بانغ. في انتظار ذلك، لا المسيرة تكتمل ولا الأشكال تعود. هي رحلة مستمرة وسيرورة لا تنقطع. عمارةٌ تتراكم عناصرها وتتحاور وتتشابك، ثمّ تتلاشى بحساب. الزمن الجميل لحظةُ تَحَرُّر الإنسان ممّا يُضيّق الخناق على الإنساني فيه. ولكل زمن مبدعوه وآياتُ ابتكاره وإضافته وجماله. يذهب منها ما يذهب ويبقى ما يقوى على البقاء. وفي هذا السياق، قد يبقى ما ينفع الناس، وليس ما يذهب هو دائمًا الزبد. هكذا يجوز لنا القول إن الزمن الجميل لم يعُد في مكانه المعهود. الزمن الجميل هو زمن اليوم، وقد يكون زمن الغد إذا أردنا له أن يكون. علينا أن ندرك ذلك كلّ الإدراك. تلك هي الطريقة الوحيدة المتاحة لنا كي نحلم بغد ليس أقلّ جمالًا. غد ليس بعيدًا بما يكفي كي نرضَى بالإقامة في الأمس.


مقالات ذات صلة

تطرح “القافلة” قضية ظاهرة الورش الإبداعية وجدواها على الأرضية السليمة للنقاش.

أفضل من يقدِّم الورشة هو الذي يجمع بين الصفات الثلاث: عُدَّة نقدية أكاديمية، وحِسٌّ إبداعيٌّ صقلته الممارسة، وتمرّسٌ على التعليم والتدريب.

مُقاربة المسألة من زاوية التجربة الشخصية في موقعين: موقع المتدرّب، وموقع المدرّب في ورشة.


0 تعليقات على “الزمن الجميل.. لم يعد في مكانه المعهود!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *