لطالما كان يُنظر للزراعة على أنها من المهن التقليدية الدونية، إذ يكاد يتراءى للبعض عند الحديث عنها صورة ذهنية لفلَّاح يحمل مجرفة أو منجلاً، أو يقلِّب التربة ويغرس الشتلات في حقله. لكن بعيداً عن هذه الصورة النمطية للمُزارع، تُعدُّ الزراعة من أكثر المجالات التي سعت دوماً لتحسين وتطوير نفسها عن طريق الاستفادة من التكنولوجيا المختلفة. فالزراعة من أقدم المهن على الإطلاق، إذ نشأت منذ نحو 10 آلاف سنة. ومن المؤكد أنها السبب الرئيس وراء التغير الجذري الذي حدث للجنس البشري بالتحوُّل من مجتمعات بدائية كثيرة التنقل تعتمد على الصيد وجمع الثمار، إلى أخرى مستقرة، ذات تركيب اجتماعي معقَّد، تعتمد على الزراعة وتربية الماشية المستأنسة. ونستطيع القول إن الزراعة كانت ابتكاراً تكنولوجياً وثورة تقنية من الطراز الأول، مرَّت بمراحل وثورات متعدِّدة على مر العصور، لتصبح أكفأ وأكثر إنتاجية، وها هي اليوم على مشارف ثورة جديدة كلياً.
عندما نتتبَّع تاريخ تطوّر الزراعة، فإننا نرى أنها مرَّت بثلاث ثورات رئيسـة. بدأت الأولى باستئناس النباتات البرية والحيوانات. بينما قدَّمت الثورة الزراعية الثانية أساليب متطوِّرة للـري والحصـاد والتخزيـن، مستفيـدة من تجارب الثقافات الأخرى، بالإضافة إلى التوسع الجغرافي الذي جلب معه أنواعاً جديدة من المحاصيل. أما الثالثة، التي تسمى الثورة الخضراء، فأضافت أساليب الري الحديثة، بالإضافة إلى تطوير تقنيات ساعدت على مضاعفة الإنتاج العالمي وتقليل الخسائر في المحاصيل.
موجات الثورة الخضراء
الموجة الأولى:
عصر الآلة
بدأت الثورة الخضراء عقب الحرب العالمية الثانية، مستفيدة من التطورات الهائلة الناتجة عن سباق التسلُّح العالمي، ومدفوعة بالطلب المتزايد على الغذاء، الناتج عن تلك الحروب. استطاعت الموجة الأولى من تلك الثورة توظيف الآلة في الزراعة عن طريق استخدام الجرَّارات الزراعية وعربات الحصاد والنقل. لكنها بقيت تعتمد بشكل أساسي على الممارسات التقليدية التي تتطلَّب جهداً جسدياً وأيادي عاملة كثيرة. لكن مع هذا كان لهذه الموجة دور كبير في زيادة الإنتاج الزراعي إلى حدٍّ كبير مقارنة بالأساليب التقليدية.
الموجة الثانية:
عصر التكنولوجيا الحيوية
كانت أواخر الستينيات الميلادية من القرن الماضي مفصلية في تطور تكنولوجيا الزراعة. فالاكتشافات الجديدة في مجالات مثل الكيمياء الحيوية والوراثة، أسهمت في إحداث نقلة نوعية في الإنتاج الزراعي. إذ يمكن حصر ما تم تطويره من تقنيات في نطاقين اثنين: الأول يتعلَّق بالتقنيات الزراعية التي هدفت إلى توفير ظروف نمو ممتازة للنباتات، وشمل ذلك تقديم أساليب ري حديثة كالرش والري المحوري، بالإضافة إلى تطوير كيميائيات زراعية كالأسمدة النيتروجينية الاصطناعية، ومبيدات الآفات والمضادات الحيوية. أما النطاق الثاني فانصبت الجهود فيه حول تحسين أصناف وسلالات المحاصيل الزراعية واستنباتها، من خلال الاستفادة من التقنيات الجينية المتاحة آنذاك كالتهجين والتعديل الوراثي. إذ استطاع العلماء مثلاً تحديد الجينات المتعلِّقة بمدى قدرة بعض المحاصيل على الإنتاج والتعديل عليها لتصبح ذات كفاءة إنتاجية عالية.
يعود الفضل في هذه الموجة للأب الروحي للثورة الخضراء، الدكتور الحائز جائزة نوبل نورمان بورلاوج، الذي قام بعدَّة أبحاث تسعى لتحسين محاصيل الذرة والقمح والأرز، مما أسهم في مضاعفة الإنتاج الزراعي العالمي في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وبالتالي إنقاذ أكثر من مليار شخص من المجاعة حول العالم.
لكنَّ العالم اليوم يواجه تحديات كبيرة، إذ يُتوقع أن يزداد عدد سكان الأرض بنسبة %40 ليصل إلى 9.6 مليار نسمة في عام 2050م. وهذا سيشكِّل تحدياً كبيراً للبشرية، إذ سيتوجب على قطاع الزراعة زيادة الإنتاج الحالي بنسبة %70 (لإطعام الزيادة السكانية وسد النقص الحالي)، عن طريق استخدام بقعة زراعية لا تتجاوز الـ %5 فقط من مساحة اليابسة في العالم. ناهيك عن تنامي الضغوط البيئية والتنظيمية من قبل الدول التي قد تحدُّ من زيادة الإنتاج. ففي الموجة الأولى كان بمقدور الفلاح الواحد توفير الغذاء لـ 26 شخصاً، وازداد هذا العدد إلى 155 شخصاً في الموجة الثانية، أما المطلوب من المُزارع الواحد لعام 2050م، فهو توفير الغذاء لـ265 شخصاً.
الموجة الثالثة:
عصر الزراعة الدقيقة
وهنا تأتي الموجة الثالثة في محاولة للتغلب على هذه التحديات، عن طريق الاستفادة من التقنيات الرقمية الحديثة في إدارة المزارع بشكل يزيد كفاءتها وإنتاجيتها، من دون الحاجة إلى زيادة الموارد المستخدمة. وتشكِّل الزراعة الدقيقة حجر الأساس لهذه الموجة الجديدة.
فإدارة المحاصيل محدَّدة الموقع Site Specific Crop Management (SSCM، أو الزراعة الدقيقة كما يطلق عليها اختصاراً، هي مجموعة من النظم المتخصصة في جمع وتحليل البيانات المتعلِّقة بالبيئة داخل الحقل وخارجه. وتهدف إلى تسهيل اتخاذ القرارات المتعلِّقة بإدارة المزرعة بالكامل بناءً على معطيات دقيقة، مستفيدة من الخوارزميات وبرامج المحاكاة الحاسوبية، من أجل تعزيز عوائد المدخلات مع الحفاظ على الموارد المستخدمة.
بدأ ظهور مفهوم الزراعة الدقيقة أول مرة في إشارة إلى استخدام “نظم تحديد المواقع” في المركبات الزراعية. لكن سرعان ما توسع مفهوم الزراعة الدقيقة ليشمل تقنيات متنوِّعة كأنظمة التحكم عن بعد، وأجهزة الاستشعار وأخذ العيِّنات من التربة، والروبوتات، والطائرات من دون طيار، والمركبات ذاتية الحركة، والأتمتة وغيرها من التقنيات الرقمية. بل نستطيع القول إن بزوغ تكنولوجيا الزراعة الدقيقة أنتج لنا فرعاً جديداً من علم الاقتصاد الزراعي، يُعرف بالهندسة الزراعية الدقيقة، وهو مجال دراسة يدمج بين منهجية علم فلاحة الأراضي واستثمارها وبين العلوم الهندسية والحاسوبية. ويبحث هذا المجال في إمكانية توفير تقنيات زراعية أدق لزراعة المحاصيل. كما تتضمَّن الهندسة الزراعية الدقيقة أحد العناصر التالية أو أكثر:
خرائط الأقمار الاصطناعية ونظم تحديد المواقع
كانت البداية في استخدام تقنيات تعتمد على نظم التموضع العالمي (GPS) أو الملاحة والتتبع عبر الأقمار الاصطناعية (GNSS) في التسعينيات الميلادية كوسيلة لتتبع مسارات الجرَّارات والعربات الزراعية، بحيث يتم ربطها بنظام تحديد المواقع، مما يُمكِّن السائق من قيادة المركبة بشكل دقيق بناءً على إحداثيات الحقل. وأسهمت هذه التقنية في التقليل من الأخطاء الناجمة عن السائقين، وهذا بدوره أدَّى إلى تقليص الهدر من البذور والسماد والوقود، مع تقليل لوقت المستغرق للعمليات الزراعية بشكل كبير. وتطوَّرت هذه التقنية، فازدادت دقتها حتى أصبح بمقدور المزارع اليوم تحديد القطع الزراعية بهامش خطأ لا يتجاوز السنتيمترات، بالإضافة إلى رسم خطوط سير دقيقة للعربات الزراعية بطريقة أوتوماتيكية، من دون الحاجة إلى تعديلها يدوياً من قبل السائق.
كما يتم استخدام تطبيقات نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، التي تمتاز بقدرتها الفائقة على الاستفادة من الأقمار الاصطناعية في توفير معلومات غزيرة عن الجغرافيا والمعالم الأرضية والطقس، مثل نوع التربة، والتضاريس المحيطة، وتحركات الكثبان الرملية، كما يمكنها أيضاً الاستفادة من المعلومات التي يتم جمعها من أجهزة الاستشعار والعيِّنات، في بناء خرائط رقمية متعدِّدة الطبقات تُمكّن المزارع من اتخاذ القرارات على أسس واضحة.
تقنية متغيِّرة المعدل وأخذ العينات
(Variable rate technology (VRT
تقوم هذه التقنية على مبدأ أن المساحات الزراعية في الحقل غير متساوية، وأن لكل مساحة احتياجاتها الخاصة من الموارد. فلو كان الحقل على أرض غير مستوية تحوي تلالاً ومرتفعات على سبيل المثال، فهذا يعني أن المساحات المرتفعة لا تحبس المياه بالقدر نفسه الذي تحبسه المساحات المنخفضة. لذلك من الهدر أن يتم توزيع الموارد بالتساوي على جميع إحداثيات الحقل. وتُمكن هذه التقنية المزارع من توفير الاحتياجات اللازمة ورفع كفاءة المزرعة في استخدام الموارد. وتستفيد هذه التقنية من أجهزة استشعار يتم وضعها تحت التربة في مناطق مختلفة من الحقل وعلى بعض النباتات، لقياس مؤشرات مختلفة كنسبة رطوبة التربة، ونفاذية الهواء، ومستويات النيتروجين والفوسفور وغيرها من المعطيات البيئية المهمة، وإرسال هذه البيانات إلى نظام حاسوبي يقوم بمعالجتها وإعطاء توصيات للمزارع حول كميات السماد والمياه الكافية اللازمة لكل بقعة من الحقل. كما تمكِّن هذه التقنية المزارعين من تعقّب صحة المحاصيل على مدار الموسم، والتنبؤ بالتلف والأمراض والآفات ومعالجتها من دون الحاجة إلى معاينة كل نبتة على حدة.
الأتمتة وأنظمة التحكم عن بُعد
الأتمتة وأنظمة التحكم عن بُعد، كالعربات من دون سائق والطائرات من دون طيار “الدرونز”، أثبتت فاعليتها في العمليات الزراعية المختلفة، بالإضافة إلى عمليات اتخاذ القرار والتخطيط الاستراتيجي بناءً على بيانات لحظية يتم اتخاذها مباشرة في الحقل. إذ تقدَّر قيمة سوق الطائرات من دون طيار والعربات الزراعية من دون قائد وتطبيقاتها اليوم بأكثر من 75 مليار دولار، ويتوقع أن تتضاعف هذه القيمة في السنوات القليلة المقبلة. وتتعدَّد استخدامات الطائرات من دون طيار في مجال الزراعة لتشمل تحليل التربة والتضاريس في الحقل، وعمليات البذر، ورش المبيدات الحشرية، ومراقبة الشتلات وإجراء فحوصات صحية أولية عليها عن طريق أنظمة التحسس عن بُعد. كما استطاعت “الدرونز” تقليص الوقت المستغرق لرش المبيدات الحشرية وبعض الأسمدة، بحيث أصبح بمقدور الطائرة الواحدة تغطية 60 متراً مربعاً في الحقل مقابل كل متر مربع واحد يغطيه متخصصو الرش. أما العربات من دون سائق فقد استطاعت التغلب على العربات التقليدية في كثير من النواحي، وعلى الرغم من عدم انتشارها بشكل كبير حتى الآن، إلا أنها أثبتت قدرتها على رفع كفاءة الحقول التي طُبقت فيها. ولعل ما جعلها مرغوبة إلى هذا الحد هو غياب العنصر البشري، الشيء الذي قلَّل التكاليف ومكّنها من الاستفادة من اليوم بشكل كامل، وبالتالي العمل لساعات أطول مساءً غير مبالية بقساوة الطقس أو سوء الأحوال الجوية. كما تميَّزت هذه العربات بقدرتها على الارتباط بالمركبات الأخرى والعمل جنباً إلى جنب مع العربات التقليدية.
التطبيقات الحاسوبية ونظم المعلومات الزراعية
ومن أهم العناصر في الزراعة الدقيقة النظم المعلوماتية المركزية، التي تربط كل تلك التقنيات ببعضها، وتستفيد من البيانات المختلفة ومعالجتها من أجل الخروج بمعلومات موثوقة تمكّن المزارع من اتخاذ قراراته على أسس علمية مدروسة. وتقوم هذه النظم على سبيل المثال، بأخذ بيانات جغرافية الحقل عن طريق الخرائط الجغرافية التي توفرها الأقمار الاصطناعية ودمجها مع بيانات أجهزة الاستشعار وأخذ العيِّنات من التربة والنبات، ثم تعالجها لإظهار المساحات من الحقل التي لديها قابلية لإنتاج كميات كبيرة من المحصول، والتي لا تحتاج إلاَّ إلى كميات معيَّنة من السماد والماء. هذه المعلومات وغيرها تمكّن المزارع من التركيز على هذه المساحات من الحقل بشكل أكبر، واتخاذ قرارات سليمة عن كميات السماد والماء اللازمة.
ومن الجدير ذكره أن هناك تحديات كبيرة تواجه التطبيقات الحاسوبية، من أهمها كثرة هذه التطبيقات وعدم توافقها مع التقنيات الزراعية الأخرى. فلكل تقنية تطبيقاتها الخاصة وطرقها في معالجة البيانات وتمثيلها، الشيء الذي يجعل من عملية جمع هذه البيانات وفهمها من قبل النظم المعلوماتية المركزية أمراً بالغ الصعوبة. فالأمر أشبه بتصميم مقبس كهربائي قادر على استقبال كل أنواع القوابس مهما اختلفت أشكالها وتيارات الكهربائية داخلها. لكن هذه التحديات آخذة بالزوال، نظراً للتقدم الذي تحرزه تقنيات الاتصال والإنترنت وتحديداً ما يعرف “بإنترنت الأشياء” وحوسبة البيانات الضخمة.
استطاعت الموجة الأولى من الثورة الخضراء توظيف الآلة في الزراعة عن طريق استخدام الجرَّارات الزراعية وعربات الحصاد والنقل. لكنها بقيت تعتمد بشكل أســاس على الممارسات التقليدية التي تتطلَّب جهداً جسدياً وأيادي عاملة كثيرة.
مستقبل الزراعة الدقيقة
لا حدود لما يمكن للزراعة الدقيقة أن تفعله في المستقبل. فقد تتسع تطبيقاتها إلى ما هو أبعد من زراعة المحاصيل والعناية بها. إذ يقترح البعض استخدامها في مجال تربية المواشي وإدارة القطعان. كأن يتم تركيب أجهزة رصد واستشعار داخل أعضاء الماشية الداخلية من أجل مراقبة مؤشراتها الحيوية كضغط الدم ومعدل النبضات، أو ربما لتتبع علامات أخرى كمستوى حموضة المعدة أو نسبة البوتاسيوم في الدم من أجل التنبؤ بالأمراض والآفات التي قد تصيبها. وبناءًعلى النجاحات التي حققتها النظم المعلوماتية الزراعية في التنبؤ بالكميات المناسبة من المياه والسماد والمبيدات الحشرية، تستطيع كذلك أن تفعل الشيء نفسه للمواشي، بحيث سيكون بمقدورها اتخاذ قرارات كمعدل الغذاء المناسب للقطعان على المستوى الفردي، مستندة إلى البيانات التي يتم جمعها من التقنيات المختلفة.
من الممكن القول إن الزراعة الدقيقة بدأت تحذو حذو الصناعة، حيث أصبحت تستبدل تدريجياً القوة العاملة البشرية بروبوتات مؤتمتة أكفأ وأرخص تكلفة. إذ يتم اليوم تطوير روبوتات تعمل بالطاقة الشمسية قادرة على أداء مهام زراعية كانت في السابق حكراً على البشر، كتحديد الأعشاب الضارة والتخلص منها واقتلاعها بدقة عالية جداً. وأخرى متطوِّرة تقوم بالتعرف على الثمار الناضجة وقطفها بعناية شديدة مثل روبوتات (agbots).
وكلما ازداد اعتماد المزارعين على تقنيات الزراعة الدقيقة، ساعد هذا على زيادة الاستثمار في تلك المجالات وتطويـر تقنياتها لتصبح أذكى وأدق. فالخطوة المقبلة بالنسبة إلى الزراعة الدقيقة هي المضي قدماً في تبني الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. فحتى لو لم يستطع الذكاء الاصطناعي حتى الآن استبدال المزارع البشري بشكل كامل في اتخاذ القرارات الزراعية المعقَّدة، إلا أنه حتماً قادر على تسهيلها.
ثلاثون عاماً تفصلنا عن 2050م، أي إن جيلاً كاملاً، لم يولد بعد، سيحمل على عاتقه مهمة مزارع المستقبل. وعلى الرغم من كل تنبؤاتنا، فإن التغيرات المستقبلية التي ستحدث كثيرة، وقد تنافي توقعاتنا حتى ذلك الحين. لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أن المزارعين سيستمرون بلا هوادة في تبني الأفكار والحلول المبتكرة للوصول إلى طرق أفضل في إنتاج المحاصيل من أجل توفير الغذاء لشعوب العالم.
مقال راااااائع حتى لغير العاملين بالزراعة.
يزيد الوعي بالجهد المبذول من أجل معيشة الانسان ويزيد من الامتنان نحو العاملين بالزراعة لأنهم يعملون في الأصعب لأجل تسهيل حياتنا.