مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر - ديسمبر 2023

الرياضة الإلكترونية

صناعة واعدة ذات آفاق واسعة


فريق القافلة

على الرغم من الشهرة الواسعة للرياضة الإلكترونية ورواجها اللافت، لا سيما بين جيل الشباب، فإنها لا تزال في منطقة رمادية من الوعي العام، كما أنها في اعتبارات مجموعة واسعة من الناس نشاط رياضي مهمل إلى حدٍّ ما، وذات شعبية منخفضة نسبيًا على مستوى المنافسات الرياضية المفتوحة. لذلك يُفترض استكشاف هذه الرياضة والتعرف عليها أكثر، والدخول إلى عالمها، وتحديد معالم الثقافة التي تولدها، وتوضيح مستواها الجماهيري، وكيف أصبحت من أكبر الصناعات الترفيهية في العالم. ولعلنا بذلك ندرك سبب اهتمام المملكة بأن تجتذب إليها هذا النوع من الدورات الرياضية كجزء مهم من رؤية 2030م. وبعد أن كانت البطولات في مختلف أنواع الرياضات الإلكترونية تُقام في أماكن متفرقة من العالم، أعلنت المملكة، مؤخرًا، عن إقامة بطولة عالمية في الرياضات الإلكترونية تجمع فيها أبرز أنواع الألعاب الإلكترونية، ابتداءً من صيف 2024م، وتضمن الإعلان تأكيد إقامة هذه البطولة دوريًا كل سنة في مدينة الرياض.

ربط الألعاب الإلكترونية بالرياضة

بداية، عند الحديث عن ظاهرة حديثة وغير معروفة نسبيًا مثل الرياضة الإلكترونية، من المهم تحديد ماهيتها، خاصة بالنظر إلى غموض المصطلح بالنسبة إلى العديد من الأشخاص، لا سيما فيما يتعلق بربط الرياضة بالألعاب الإلكترونية.

تاريخيًا، عُرِّفَت الرياضة من خلال القوة أو الحجم أو التقنية، فكانت دائمًا عبارة عن عرض للقدرات البدنية. كما بقيت مقيدة بالمعامِلات الأساسية للفيزياء وبالمزايا الوراثية للقوة البدنية، ولذلك لم تأتِ تسمية منافسات الألعاب الإلكترونية بالرياضة الإلكترونية على نحو تلقائي؛ فهناك من يعتبر أن الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر واللعب بالألعاب الإلكترونية ليس كما الصورة التي تتبادر إلى الأذهان عند التفكير باللاعب الرياضي، وأن المنافسات في العالم الافتراضي لا علاقة لها بالمنافسات التي ترتبط بالرياضات التقليدية على أرض الواقع.

ولكن بعد نقاشات طويلة في الأوساط المنظمة، وبعد اعتبار أن تلك الألعاب تتطلب مهارات أهمها امتلاك عقل ذكي وأصابع سريعة، بالإضافة إلى أن لديها، مثلها مثل الرياضات التقليدية، جماهير من المشجعين الذين يحضرون المباريات، ويتابعون الفرق وكذلك أخبار نجومهم المفضلين، اُعْتُرِف بها كرياضة. وكان أول ظهور لمصطلح “الرياضات الإلكترونية” في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وتحديدًا عام 1999م، في موقع “يوروغامير”، الموقع البريطاني لصحافة ألعاب الفيديو.

عودة إلى الجذور

يقول عالم الفلك الأمريكي الشهير كارل ساغان: “يجب أن تعرف الماضي لكي تفهم الحاضر”، وربما أكثر ما ينطبق هذا القول على فهمنا للرياضات الإلكترونية؛ لأن أصول هذه الرياضات التي ترجع إلى كوريا الجنوبية، هي التي ستساعدنا على فهم كيفية دخول هذا النوع من المنافسات إلى الساحة الرياضية العالمية، وكيف احتلت صناعتها هذا الحيز الكبير، حتى وصلت قيمتها إلى حوالي مليار دولار أمريكي في 2021م، والتي من المتوقع أن تصل إلى 1.62 مليار دولار في 2024م، وذلك بحسب شركة “ستاتيستا” الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين.

فعلى الرغم من أن صناعة الألعاب الإلكترونية كانت قد بدأت في سبعينيات القرن العشرين، فإن انطلاقتها الفعلية لم تبدأ إلا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما سعت حكومة كوريا الجنوبية إلى تخفيف الأزمة المالية الحادة التي كانت تمر بها البلاد، فركّزت على تطوير البنية التحتية للإنترنت والاتصالات السلكية واللاسلكية. وسرعان ما نشأ نوع واسع الانتشار من المساحات الاجتماعية التي كانت عبارة عن مقاهٍ للإنترنت، فكانت بمنزلة نوادٍ لألعاب الكمبيوتر، حيث كان يقصدها لاعبون يجمعهم شغفهم المشترك بألعاب الفيديو، فكانوا يقومون باستعراض مهاراتهم، ويتنافسون فيما بينهم. وتطور الأمر إلى أن بدأت هذه الأماكن بإقامة مسابقات رسمية.

وإدراكًا للسوق المذهلة التي أنشأتها هذه المساحات، دخلت الحكومة الكورية على الخط، وأنشأت “جمعية الرياضات الإلكترونية الكورية”، فكانت أول هيئة حكومية مخصصة لتنظيم ألعاب الفيديو والرياضات الإلكترونية في العالم. وفي الوقت نفسه، انطلق عدد كبير من محطات التلفاز التي استفادت من برنامج تطوير الاتصالات التابع لحكومة كوريا الجنوبية، فتأسست بهدف التركيز على تغطية منافسات الرياضات الإلكترونية. وقد ساعد هذا الاندماج بين المساحات الاجتماعية الشعبية التي تعزز المنافسة وخدمة البث المباشر المجانية، على نمو الرياضات الإلكترونية لتصبح من الرياضات الشعبية في المجتمع الكوري.

وبسبب هذا الرواج الهائل ظهرت لعبتان من شركتين أمريكيتين كأولى الرياضات الإلكترونية الحقيقية، وهما: “ستاركرافت” 1998م و “ستاركرافت 2” 2010م، ولعبة “الدفاع عن الصروح” (دوتا 2) 2013م. وقد حظيت حظيت الأخيرة بشعبية كبيرة، وأصبحت بطولتها الدولية تقدم أكبر مجموعة جوائز بالمقارنة مع أي حدث رياضي إلكتروني آخر. ففي 2019م، بلغ مجموع جوائز الفائزين فيها 13.5 مليون دولار أمريكي، من إجمالي مجموع الجوائز البالغ 30.8 مليون دولار أمريكي، وهو أكثر حتى من بعض الرياضات التقليدية مثل الغولف والألعاب القتالية.

سُميت الرياضات الإلكترونية بذلك لأنها تتطلب مهارة ذهنية وحركة أصابع سريعة، كما أن لها جمهورها الخاص بها.

رواج منخفض

 من حيث تعريفها، وببساطة، الرياضات الإلكترونية هي ألعاب فيديو تُلْعَب في بيئة تنافسية عالية التنظيم، ويمكن أن تتراوح بين ساحات المعارك متعددة اللاعبين عبر الإنترنت الموجهة نحو الفريق، وألعاب إطلاق النار من منظور الشخص الأول، ومعارك الصراع على البقاء ذات الطابع الإستراتيجي. بالإضافة إلى ألعاب تحاكي الرياضات الحقيقية من خلال عمليات إعادة بناء افتراضية للرياضات البدنية. بمرور الوقت، أصبحت هذه الرياضات صناعة عالمية دخلت فيها الجهات الراعية والشركات المعلنة على نطاق واسع.

ومع ذلك، لم تُولّد الرياضات الإلكترونية حوارًا ثقافيًا جماهيريًا، ولم تصل إلى مستوى القيمة الكبيرة لحقوق وسائل الإعلام كما فعلت الرياضات التقليدية. فلا يوجد في هذه الرياضات اليوم أسماء مثل: “كريستيانو رونالدو” و “ليونيل ميسي” و “روجر فيدرير”، الذين يُنظر إليهم على أنهم وجوه بارزة في رياضاتهم الخاصة. ولم تحظَ أسماء مثل: اللاعبَيْن الكوريين الجنوبيين “فاكر” و “دوينب” والكرواتي “بيركز” أبطال لعبة “ليغ أوف ليجندز”، واللاعبَيْن السعوديين “مساعد الدوسري” بطل لعبة “الفيفا” و”خالد قاسم” بطل لعبة “روكيت ليغ”؛ بالقدر نفسه من التقدير حتى الآن، على الرغم من أن هؤلاء الرياضيين أصبحوا أيضًا نجومًا بارزين في عالم الرياضة الإلكترونية.

“مساعد الدوسري” بطل العالم في لعبة “الفيفا” لعام 2018م

ثقافة مثيرة للاهتمام

ولكن الثقافة المحيطة بالرياضات الإلكترونية تعدّ ظاهرة مثيرة للاهتمام، فهي لا تشبه أي ثقافة رياضية أخرى؛ نظرًا لعمرها الفتي، وتفردها والتركيبة العمرية للاعبين والمشاهدين أيضًا.

بشكل عام، تنحرف الرياضات الإلكترونية نحو الشباب، إذ تشير الإحصاءات العامة إلى أن اللاعب المحترف بالمجمل ينهي حياته المهنية عند عمر 25 عامًا، بعد أن يكون قد دخل المجال وهو في سن المراهقة. أمَّا بالنسبة إلى جمهورها، فتظهر أبحاث شركة “ستاتيستا”، أن 32% من المتابعين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا، و30% بين 25 و35 عامًا، و19% بين 35 و44 عامًا. وهذا يعني أن ما يقرب من ثلثي الجمهور يندرج في فئة جيل الألفية الثالثة وجيل “زد”، الذين هم جميعهم تقريبًا قد نشؤوا كمواطنين رقميين. وهنا يمكن الإشارة إلى أن هذا هو بالضبط ما يجعل توقعات ازدهار الرياضات الإلكترونية في المملكة العربية السعودية مشمسة؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أن 36.7% من إجمالي سكان المملكة ينتمون إلى الفئة العمرية بين 15 و34 عامًا.

ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه الشبابي ينعكس في الدلالات الرئيسية لثقافة الرياضات الإلكترونية، بحيث تتلاقى مع أحدث الاتجاهات في التكنولوجيا والموسيقى والأزياء والترفيه. فعلى سبيل المثال، وصلت سلسلة الرسوم المتحركة التلفزيونية “أركين”، المبنية على لعبة “ليغ أوف ليجندز”، إلى المركز الأول في خدمة البث عبر “نيتفلكس” في 50 دولة في العالم. كما أن بعضًا من شركات الملابس الكبرى، مثل شركة “أسوس” العالمية، قد عقدت شراكات مع علامات تجارية للرياضات الإلكترونية؛ مما جعل عوالم الألعاب والموضة يقترب بعضها من بعض، مع ظهور محترفي الرياضات الإلكترونية في الحملات الدعائية للعلامات التجارية لأهم دور الأزياء الشبابية.

 أصول الرياضات الإلكترونية التي ترجع إلى كوريا الجنوبية، تساعدنا على فهم كيفية دخول هذا النوع من المنافسات إلى الساحة الرياضية العالمية.

كما أن السمة الرئيسة الأخرى لثقافة الرياضات الإلكترونية، هي مدى تجذّرها في ثقافة الألعاب، علمًا أن الألعاب الإلكترونية مصطلح واسع يشمل ممارسة أي لعبة فيديو بغض النظر عن نظامها الأساس، بينما تشمل الرياضات الإلكترونية الألعاب التنافسية فقط. فهناك العديد من التقاطعات بين المساحتين، أي الرياضات الإلكترونية والألعاب الإلكترونية، بدءًا من اللغة المشتركة بينهما، ووصولًا إلى الفهم العميق للألعاب التي تشكل حجر الأساس للرياضات الإلكترونية؛ لا سيما أن الأغلبية الساحقة من عشاق الرياضات الإلكترونية هم من هواة الألعاب الإلكترونية أيضًا. يؤدي هذا الحمض النووي المشترك بين المجالين إلى تفاعل جمهور الرياضات الإلكترونية على نحو فريد، فإذا كانت الغالبية العظمى من مشجعي كرة القدم، مثلًا، لا يلعبون كرة القدم بالضرورة، فإن العكس صحيح بالنسبة إلى المباريات التي تُلْعَب على نحو تنافسي في الرياضات الإلكترونية. وهذه الاهتمامات المتداخلة تفرض على الجهات الراعية والشركات المعلنة التعامل مع هذا النوع من الجماهير وفق معايير خاصة.

وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن صناعة الرياضات الإلكترونية هي صناعة تنمو بسرعة الضوء؛ إذ من المتوقع أن ترتفع أعداد المتابعين في جميع أنحاء العالم من حوالي 474 مليونًا في عام 2022م إلى ما يتخطى الـ600 مليون في عام 2024م. وبما أنها عبارة عن اندماج بين الرياضة والإعلام والألعاب والتكنولوجيا، فهي صناعة واعدة ذات آفاق واسعة تتيح لكل شخص فرصةً للتألق والانتماء إلى مجتمعات جديدة وتطوير أعمال ناجحة. وهي بذلك تمثل فرصة ذهبية للمملكة للاستثمار كجزء من إستراتيجية التنويع التي تعتمدها، لا سيما أنها تسعى إلى تطوير صناعة الألعاب الإلكترونية إلى ما يصل إلى 1% من اقتصادها بحلول عام 2030م.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “الرياضة الإلكترونية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *