شهد قطاع التعلّم والتعليم خلال السنوات الأخيرة تطوُّرات ملحوظة بفعل تطوُّر التكنولوجيا. وأصبح البحث على شبكة الإنترنت جزءاً من التعلّم المدرسي، كما حلّت الأجهزة اللوحية محل الكتب أو بعضها في المدارس “الطليعية”. ولكن كل هذه التطوُّرات التي أدهشتنا بالأمس القريب، قد تفقد بريقها أمام ما هو مُرتقب من دخول الذكاء الاصطناعي قطاع التعليم، الأمر الذي بدأ يطل برأسه فعلاً، واعداً بتحوُّلات غير مسبوقة في مجال هذا القطاع.
حتى عهد قريب، كان الإنسان يريد من الآلة أن تقوم بالمهام الشاقة بدنياً أو المرهقة ذهنَّياً بدلاً عنه أو بمعيته، على أن يتولى هو دفة القيادة منفرداً. ثم تطوّرت احتياجاته ليصبح راغباً في أن تساعده الآلة أو تنوب عنه في التفكير واتخاذ القرارات، وخاصة التي تتخذ من بين عدة بدائل لكل منها تبعاته. فبرزت الحاجة لما اصطلحت تسميته بالذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي هو فرع من فروع علوم الحاسبات. وأبسط تعريف له هو أنه العلم الذي يجعل الآلات تفكِّر مثل البشر، أي حاسوب له عقل. ويبيِّن أحد التعريفات أيضاً أن للذكاء الاصطناعي سلوكاً وخصائص معيَّنة تتسم بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. ومن أهم هذه الخاصيات القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج عليها الآلة.
يهدف علم الذكاء الاصطناعي إلى تطوير أنظمة تحقِّق مستوى من الذكاء شبيه بذكاء البشر أو أفضل منه. وصمِّمت تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتكون تقليداً لتصرفات العقل البشري. وحتى يتم ذلك، فقد حدَّدت جوانب تفوق الذكاء البشري في طريقة الاستنتاج والتفكير، وحصرتها في خمس نقاط أو خطوات: التصنيف (Categorization)، تحديد القوانين (Specific Rules)، التجارب (Heuristics)، الخبرة السابقة (Past Experience)، التوقعات (Expectation).
فالهدف هو وضع المعارف البشرية داخل الحاسوب ضمن ما يُعرف بقواعد المعرفة، ومن ثم يستطيع الحاسوب عبر الأدوات البرمجية البحث في هذه القواعد، والقيام بالمقارنة والتحليل، من أجل استخلاص واستنتاج أفضل الأجوبة والحلول للمشكلات المختلفة. وهذا يشبه ما يقوم به الإنسان عندما يحاول حل مشكلاتٍ جديدة تصادفه في حياته اليومية اعتماداً على خبراته وتجاربه السابقة، وعبر توقعاته للنتائج المحتملة، ومن خلال مهاراته في الاستنتاج والمفاضلة بين أحسن الحلول المتاحة.
وللذكاء الاصطناعي تطبيقات متعدِّدة في مجالات مختلفة، ومن أبرزها: الأنظمة الخبيرة، وتمييز الكلام، وتميز الحروف، ومعالجة اللغات الطبيعية، وصناعة الكلام، والألعاب، والإنسان الآلي (الروبوت)، وتمييز النماذج والأشكال، والرؤية (النظر)، ونظم دعم القرار، والتعلم والتعليم.
الذكاء الصناعي في التعليم: كيف يساعدنا؟
من المتوقع أن تنتقل الفصول الدراسية قريباً من الإطار التقليدي للتعلم إلى استخدام مزيج من الروبوتات والذكاء الاصطناعي المصمم حسب الحاجة. وستستفيد نسبة كبيرة ومتزايدة من الطلبة من الروبوتات التي تتسم بالاستمرارية والمرونة، كما سيتحرَّر معلمو الصفوف من الأمور الإدارية وسيتفرغون للتركيز على الطلاب.
من المتوقع أن تنتقل الفصول الدراسية قريباً من الإطار التقليدي للتعلُّم إلى استخدام مزيج من الروبوتات والذكاء الاصطناعي المصمم حسب الحاجة.
فالمعلمون كثيراً ما يعانون من كثرة الأعمال المكتبية، مثل تصحيح الامتحانات وتقييم الواجبات. ولكن يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بكثير من هذه المهمات، ويقلّص الوقت اللازم للتصحيح والعمل الإداري من أجل تكريس مزيد من الوقت للطلاب.
وبالنسبة للصف الدراسي نفسه، فإن خيارات “الخدمات المتخصصة وفق الاحتياجات” التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي من شأنها أن تساعد على تحسين استمتاع الطلاب خلال الحصص وتحسين درجاتهم في الوقت نفسه. كما إن الروبوتات المدرّبة على نحو جيد يمكنها استكمال دور المعلمين ذوي الخبرة في تقديم الدروس الخصوصية والحصص الإضافية لتقوية وتنمية مهارات الطلاب.
وتستطيع هذه التقنية أن تحل مشكلات قلة المعلمين أو شح توفر المعلمين الأكفاء في بعض المجالات. فهي ستساعد المعلّم العادي على أن يطوِّر قدراته وستسد أي نقص موجود لديه. ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أنه لا يفترض بالذكاء الاصطناعي أن يحل محل الذكاء الفطري أو الطبيعي. فالغرض ليس استبدال المعلم في الفصول المدرسية أو الاستغناء عنه بالكامل، وإنما أن يعمل العقل البشري جنباً إلى جنب مع العقل الاصطناعي في توليفة محسوبة متقنة.
وثمة مشكلة أخرى يمكن أن تسهم تقنيات وبرمجيات وأساليب متعدِّدة أيضاً وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحد من آثارها، وتتمثل في هذا الانفجار المعلوماتي والتطوّر التقني والمعرفي المضطرد، لدرجة أنه من المتوقع أن تقتصر صلاحية المعــارف التي يتعلمها المرء في المستقبل على خمس سنوات! وإذا كان تطوير المناهج العلمية وطباعة الكتب المدرسية عبارة عن عملية طويلة ومعقّدة قد تستغرق هي بدورها خمس سنوات، فإنه مع الذكاء الاصطناعي في الأجهزة والبرمجيات التعليمية فستكون قادرة على استنتاج المعارف والمهارات المطلوبة في وقـت معيّن، وبالتالي تحديث الدروس تلقائياً وتقديمها للطالب بشكل يناسب احتياجاته وقدراته.
إن تقنيات الذكاء الاصطناعي في الأجهزة والبرمجيات التعليمية قادر على استنتاج المعارف والمهارات المطلوبة في وقت معيّن، وبالتالي تحديث الدروس تلقائياً وتقديمها للطالب بشكل يناسب احتياجاته وقدراته.
وحتى خارج الصف المدرسي، يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تقدِّم الدعم المطلوب للطالب. فالطلبة الذين يتعلَّمون المبادئ الأساسية في القراءة والعلوم والرياضيات وغيرها من العلوم يعتمدون أساساً على الشرح من معلميهم وأهاليهم لفهم هذه الأسس والقواعد. ولما كان وقت المعلمين والأهالي ضيقاً، فهذا يضع كثيراً من الضغط على الأطراف المختلفة وقد لا تكون النتيجة مُرضية. أما حين يتوفَّر المساعد الذكي والمتفرغ، والذي يستطيع فهم نفسية الطالب ومعرفة قدراته ونقاط قوته وضعفه، والموضوعات التي يعاني فيها من قصور في الفهم أو نقص في المعلومات، فيمكنه عندئذ أن يكيف المادة العلمية بل حتى العملية التعليمية بأكملها بما يناسب إمكانات الفرد. فيقدِّم المساعدة المطلوبة والدعم اللازم في الوقت المحدَّد وبالشكل المناسب لكل طالب على حدة. وعلى هذا الأساس، يفترض أن تكون النتائج إيجابية بشكل أكبر، حين يكون لكل طالب، بغض النظر عن إمكانات أهله المادية، أو موقعه الجغرافي، أو قدراته الذهنية، فهو معلم خصوصي بإمكانات العلماء متوفر في كل وقت وكل مكان.
أمثلة على برامج وتطبيقات للذكاء الاصطناعي في التعليم
تستخدم أنظمة التدريس الذكيّ عدداً من تقنيات التعلّم الآلي وخوارزميات التعلّم الذاتي التي تجمع مجموعات البيانات الكبيرة وتحلّلها. ويسمح هذا الجمع للأنظمة أن تقرّر نوع المحتوى الذي ينبغي تسليمه للمتعلّم بحسب قدراته واحتياجاته. ومثال على ذلك منصّة نظام (iTalk2Learn) التي تعلّم الكسور، وتستخدم نموذج المتعلّم الذي يخزّن البيانات حول المعرفة الرياضية عند الطالب، واحتياجاته المعرفية وحالته العاطفية وردود الفعل التي تلقاها واستجابته على هذه التغذية المرتدّة.
وفي علوم الرياضيات أيضاً مثال آخر (Thinkster Math)، وهو تطبيق تعليمي يمزج منهج الرياضيات الحقيقي مع أسلوب التعليم الشخصي للطالب. إذ يعين التطبيق لكل طالب معلماً خلف الكواليس يتابع خطواته الذهنية خطوةً خطوة كما تظهر على شاشة الآيباد. فهو يهدف إلى تحسين قدرات الطالب المنطقية عن طريق مساعد خاص يساعده حين توقفه معضلة، ويعطيه تغذية مرتدة مخصصة. أما منصة (Brainly)، فهي مثال على شبكة تواصل اجتماعي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاص بأسئلة الفصل الدراسي. إذ يستخدم الذكاء الاصطناعي فيها خوارزميات التعلم الآلي لتصفية الرسائل غير المرغوب فيها، ويتيح للمستخدمين طرح أسئلة حول الواجب المنزلي والحصول على إجابات تلقائية، تم التحقق منها. ويساعد الموقع الطلاب على التعاون في ما بينهم للتوصل إلى إجابات صحيحة من تلقاء أنفسهم. وتتخصص شركة (Content Technologies, Inc. (CTI في صناعة كتب تعليمية اعتماداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي. حيث يقوم المدرّسون برفع الخطوط العريضة في المناهج إلى محرك CTI الذي يستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتجهيز محتوى مناسب للمادة ومخصص لطالب بعينه أو لمجموعة طلاب.
الذكاء الاصطناعي وتعليمنا العربي
لا شك أن العالم العربي يعج بالمواهب الشابة والقيادات الحكيمة، التي لديها الرغبة في أن يلحق العرب بالثورة الرقمية بل وأن يصبحوا من روّادها، على غرار ما حصل مع دول مثل الهند والصين. وهناك عدَّة مبادرات طموحة في المملكة وبقية دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الدول العربية. و”مبادرة مليون مبرمج عربي” التي تبناها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد
آل مكتوم خطوة إيجابية رائدة في هذا المجال، وكذلك مشروع نيوم العملاق الذي أطلقه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ابن عبدالعزيز، والذي يهدف إلى توطين التقنية في المنطقة العربية. ومع انتقال التعليم من الفصول الدراسية إلى الفضاءات الرقمية، دخل عديد من الشركات الناشئة العربية بالفعل حيّز تكنولوجيا التعليم. إذ يتجه التعليم نحو التخصيص، حيث يتم تقديم تجربة تعليمية لكل طالب تم تصميمها وفقاً لقدراته ومصالحه التعليمية. ويمكن استخدام مقاييس مثل الدورات التدريبية التي تعرض عدد مرات المشاهدة والوقت للإجابة عن الأسئلة والدرجات، لتقييم نقاط القوة والضعف لدى الطلاب، والتوصية بمسارات التعلم الخاصة الملائمة لهم. ويتطلب كشف هذه الأنماط نماذج تعلُّم آلية متطوِّرة وموارد حوسبة كافية.
العالَم العربي يعجُّ بالمواهب الشابة والقيادات الحكيمة، التي لديها الرغبة في أن يلحق العرب بالثورة الرقمية، بل وأن يصبحوا من روَّادها، على غرار ما حصل مع دول مثل الهند والصين.
لكن المشكلة الأكبر التي ستواجه الدول العربية في تطبيق الذكاء الاصطناعي في التعليم قد تكون في البنية التحتية التي يحتاجها العالم الرقمي. فأنت بحاجة إلى فصول مزوَّدة بأجهزة حواسيب متصلة بإنترنت عالي السرعة، وهو ما لا يتوفر لغالبية الطلبة خارج العواصم والمدن الكبرى. وإذا كان الطالب سيراجع دروسه في المنزل أيضاً فهو يحتاج لتجهيزات مشابهة في المنزل أيضاً. وهي عوائق قد تكون في طريقها للحل مع انخفاض تكلفة الأجهزة والاتصال، وتوافُر شبكات الإنترنت المجانية، وتحسُّن سرعة الإنترنت وأدائها في كثير من الدول العربية. وقد تكون المشكلة الأكبر نفسية، وهي إقناع المعلمين وأولياء الأمور بالتخلي عن الطرق التقليدية في التعليم والانخــراط بحماســة في هذه الثورة الجديدة التي تحمل كثيراً من المنافع للأجيال الجديدة وبالتالي للمجتمع ككل.
سلبيات محتملة لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم
مع كل الإيجابيات التي ذكرناها عن توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم هناك بعض السلبيات المحتملة كذلك. فهناك خطر قيام تقنيات الذكاء الاصطناعي بمحاكاة السلوك البشري عن كثب. إذ يمكن أن تؤدي مجموعات التدريب التي تم اختيارها بشكل سيئ إلى خوارزميات تولد المفاهيم البشرية والمفاهيم النظامية الحالية التي نحاول الخروج منها. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي الاعتماد الكبير على ردود فعل الطلاب والتغذية المرتدة منهم إلى خوارزميات تقدِّم لهم مادة علمية تمنحهم حياة دراسية سهلة، بدلاً من مادة علمية وتجربة دراسية تعطيهم ما سيساعدهم في تحقيق إمكاناتهم. والذكاء الاصطناعي الذي لا ينتج نتائج غير متوقعة قد يستحق فحصاً دقيقاً لمعرفة ما إذا كان قد وقع في هذه الفخاخ المحتملة.
وفي كل الأحوال، إن الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته وتقنياته وتطبيقاته قادم لا محالة وبقوة إلى كافة المجالات، سـواء الطبية أو التعليمية أو العسكرية أو الترفيهية أو غيرها من مناحي الحياة. ولا ينبغي لنا أن نخشاه رغم الإقرار بوجود سلبيات مرتقبة أو محتملة، فهدفه في النهايــة خدمتنا. بعبارة أخــرى، لا يعمل الذكاء الاصطناعي الحقيقي ضد البشر – فهو يعمل معنا، في بيئة تعتمد على مجموعة من القدرات التي توفّر أفضل النتائج تحت إشرافنا ولأجلنا.
وفيك يبارك الله.
التفاتة جميلة وفي محلها إلى الجانب الأخلاقي المهم للغاية في مسألة الذكاء الاصطناعي. وندعوك للاطلاع على المقالة التي نشرتها القافلة في عدد يوليو-أغسطس 2023 بعنوان “شات جي بي تي.. الاختبار الأخلاقي الجديد”، حيث ناقشت الملابسات الأخلاقية والقانونية التي ترتبط بهذه التقنية، لا سيما بعد الضجة التي أحدثها مؤخرًا.
https://qafilah.com/%d8%b4%d8%a7%d8%aa-%d8%ac%d9%8a-%d8%a8%d9%8a-%d8%aa%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d8%a8%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%82%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af/
نرجو لك قراءة ممتعة،
فريق القافلة
بارك الله فيكم على على الطرح الذي يفتح أبوبا في التفكير حول كيفية الإستفادة من الذكاء الاصطناعي في تطوير الخبرات وتسهيلات المهمات, لكن المخاوف التي قد تكمن وراء الاستفادة من هذه الثورة هي “أخلاقيات توظيف العلم بكل أشكاله لصالح البشرية”
مقال رائع ومفيد،، بارك الله في جهودكم
ممكن رسالة ماجستير او اطروحة عن الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم و اكون ممنون لحضراتكم
مقال اكثر من رائع ومفيد جدا واتمني فتح باب كامل بالموقع للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والبلوك تشين