مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

الدائرة الثالثة في علاقاتنا الاجتماعية

ما الذي يعنيه وجود المعارف في حياتنا؟


فريق القافلة

عند الحديث عن الروابط الاجتماعية في الأوساط العلمية، ينحصر التركيز على أهمية العائلة والأقارب والأصدقاء، باعتبارهم مصدر الرفاه والسعادة والاستقرار العاطفي، ولكن نادرًا ما يظهر اهتمام بشبكة المعارف الأوسع المكونة من الأشخاص الذين يقعون في مساحة ما بين المقربين والغرباء، والذين يكون التفاعل معهم أقل تواترًا وبدرجة أدنى من الترابط العاطفي. وبينما وُصفت الشبكة الأولى من العلاقات بالروابط القوية، اُعتبرت مجموعة المعارف أنها تمثل الروابط الثانوية الضعيفة، ومن ثَمَّ، ليس لها تأثير يُذكر على حياتنا. ولكن الحقيقة هي أن هذا النوع من الروابط يوفر لنا، بالإضافة إلى الدعم العاطفي، إمكانات كبيرة للوصول إلى فرص ومعلومات جديدة؛ مما يسمح بتوسيع آفاقنا وتوفير الرفاهية الاقتصادية، فضلًا عن تعزيز مشاعر الرضا والاستقرار والإحساس بالانتماء.

روبن دنبار.

يقول أرسطو: “إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه”، فهو وُلد بنزعة اجتماعية تدفعه إلى العمل على تطويرها كل يوم، لا سيَّما أنه يحتاج إلى الآخرين للبقاء على قيد الحياة. فطوال حياته، يسعى الإنسان لتكوين شبكة اجتماعية من العلاقات التي تأتي على مستويات متعددة وكأنها تتبع شكل دوائر مرسومة كشبكة العنكبوت من الأقرب إلى الأبعد. وهذه الدوائر تتناسب مع نظرية عالم الأنثروبولوجيا البريطاني، روبن دنبار، التي أطلقها في تسعينيات القرن الماضي عن التواصل الاجتماعي، وعُرفت في الأوساط العلمية بـ “رقم دنبار” الذي حدده بـ150، بحيث يُظهر حقيقة مفادها أن الحد الأقصى لحجم الشبكة الاجتماعية للفرد مستقر عند 150 شخصًا في المتوسط. وقد توصل دنبار إلى هذا الرقم بعد أن درس العلاقات الاجتماعية في المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم، وعلى مرّ التاريخ، ووجد فيها ثوابت ملحوظة في عدد الأشخاص الذين يدورون في حلقات اجتماعية معينة بغض النظر عن العمر أو الشخصية أو الجنس أو الخلفية العرقية، أو أي نوع من الاختلافات الفردية المحتملة.

ووفقًا لدنبار، فإن معظم الناس لديهم حوالي خمسة أشخاص مفضلين يدورون في الحلقة الأكثر إحكامًا من العلاقات الاجتماعية، والتي قد تضم الشريك العاطفي أو الأطفال، أو ربما الوالدين أو الصديق المفضل. تلي هذه الدائرة الضيقة، تلك التي تضم عشرة أو نحو ذلك من الأشخاص الذين يكوّنون مجموعة التعاطف أو الدعم الأوسع، ويدخل فيها الأصدقاء والأقرباء من أبناء العم أو العمة أو الخالة أو الخال في بعض الأحيان، وهؤلاء هم الذين نلجأ إليهم لقضاء عطلة بعيدًا عن العائلة أو اللقاء معهم في سهرة سعيدة، كما يمكن أن نتفاعل معهم أسبوعيًا. معًا، تستهلك هاتان المجموعتان؛ أي مجموعة الدعم المركزية في الدائرة الأولى ومجموعة التعاطف في الدائرة الثانية، نحو 60% من وقتنا. أما نسبة 40% المتبقية، فتُوَزَّع على الأشخاص الموجودين في الدائرة الثالثة الأبعد التي تتكون من حوالي 150 شخصًا.

تتضمن هذه الدائرة الثالثة أشخاصًا نقابلهم في أثناء ممارسة أنشطتنا اليومية، مثل: النادل الذي نتفاعل معه في مطعم نرتاده باستمرار، والأشخاص الذين نبدأ محادثة معهم في إحدى الحفلات، وأصدقاء الأصدقاء وغيرهم ممن يحددون علاقاتنا الاجتماعية الأوسع. وهؤلاء هم شبكة المعارف الذين يعيشون على هامش حياتنا، فهم ليسوا أصدقاء ولا أقارب، ولكن يمكن اعتبارهم جهات اتصال ذات مغزى.

الروابط الضعيفة وسيلة لتوسيع آفاقنا

من أوائل من سلط الضوء على شبكة المعارف وأهميتها في حياتنا، عالم الاجتماع في جامعة ستانفورد، مارك غرانوفيتر، الذي نشر ورقة بحثية في عام 1973م، عنوانها: “قوة الروابط الضعيفة”، أشار فيها إلى مجموعة المعارف في العلاقات الاجتماعية بـ “الروابط الضعيفة”. وقد اعتبرت ورقته هذه إحدى أكثر أوراق علم الاجتماع تأثيرًا على الإطلاق؛ وذلك لأنه حتى ذلك الحين كان العلماء يفترضون أن رفاهية الفرد تعتمد على نحو أساس على نوعية العلاقات الوثيقة مع الأصدقاء المقربين والعائلة. ولكن غرانوفيتر هو الذي أظهر أن الكمية مهمة أيضًا.

فعلى طريقة دنبار، أشار غرانوفيتر إلى أن إحدى طرق التفكير في العالم الاجتماعي لأي شخص، هي أن لديه دائرة داخلية من الروابط القوية مكوَّنة من الأشخاص الذين يتحدث معهم غالبًا، ويشعر بالقرب منهم؛ ودائرة خارجية من الروابط الضعيفة تتكوَّن من المعارف الذين لا يراهم إلا نادرًا، أو بشكل عابر. وقد اعتمدت رؤيته الأساسية على أنه بالنسبة إلى المعلومات والأفكار الجديدة، فإن الروابط الضعيفة أهم من الروابط القوية.

 وكان غرانوفيتر قد توصل إلى هذا الاستنتاج بعد أن أجرى استطلاعًا شمل 282 موظفًا في مختلف المجالات في مدينة بوسطن الأمريكية، ووجد أن معظمهم حصلوا على وظائفهم من طريق أحد معارفهم، بينما حصلت أقلية منهم على الوظيفة من خلال صديق مقرب. وبشكل محدد أكثر، حصل 84% منهم على وظائفهم من خلال العلاقات الضعيفة، أي الاتصالات غير الرسمية التي أجروها من حين لآخر. أمَّا السبب، فيعود إلى أن الروابط الضعيفة توفر الجسور بين الدوائر الاجتماعية المختلفة؛ مما يسمح بتوسيع الآفاق والوصول إلى معلومات جديدة، عوضًا عن الأخبار والآراء القديمة للأشخاص المتشابهين الذين يدورون في نفس الحلقة الاجتماعية تقريبًا.

وثمة دراسة أحدث (2022م)، أجراها باحثون في جامعات سنافورد وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية، وهي أكبر دراسة تجريبية حتى الآن حول الروابط الضعيفة، تؤكد صحة النتائج التي استخلصها غرانوفيتر. ففيما يتعلق بمواقع العمل الرقمية، كان للروابط الاجتماعية الأضعف تأثير أكثر إيجابية على تقدّم حياة الأشخاص المهنية. وفي هذه الدراسة استخدم الباحثون خوارزمية “الأشخاص الذين قد تعرفهم” الخاصة بموقع “لينكد إن” لإجراء تجارب على 20 مليون شخص حول العالم، ووجدوا أن الانفتاح على المعارف، إلى حد ما، أدى إلى زيادة التنقل الوظيفي بشكل أكبر من مجرد التواصل مع أشخاص يدورون في الحلقة الأقرب من الروابط القوية.

اللقاءات العشوائية وتلاقح الأفكار

في الإطار نفسه، تقول البروفيسورة وأستاذة الإعلام في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية، ستيفاني مورغان، إن شبكة المعارف هي بمنزلة “الأرض الخصبة في حياتنا”؛ لأنها تزودنا بـ “ثمار” تكون على شكل أفكار جديدة وطرق تفكير مختلفة، وتسمح لنا بالتواصل العفوي العشوائي الذي قد يحمل معه محفزات ذهنية أو تحديات غير متوقعة أو فرص لرؤية العالم بطريقة مختلفة.

ولهذا السبب، نجد أن بعض الشركات تصمم مكاتبها بشكل تفرض معه عقد لقاءات تأتي عن طريق المصادفة بين الموظفين من مختلف الأقسام. وهذه هي الفكرة التي كانت وراء مبنى “بيكسار” للرسوم المتحركة الذي أشرف على تصميمه رئيس شركة “أبل” الراحل ستيف جوبز شخصيًا، حيث حرص على أن يحتوي المبنى على قاعة مركزية كبيرة كان على جميع الموظفين المرور بها مرات عديدة في اليوم. فقد أراد جوبز أن “يصطدم” زملاؤه بعضهم ببعض، ويحتسون القهوة ويتبادلون الأحاديث؛ لأنه كان يؤمن بقوة هذه اللقاءات العشوائية في تلاقح الأفكار وإطلاق العنان للإبداع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة جوبز، التي ما لبثت أن اتبعتها شركات بارزة أخرى مثل “غوغل”، كانت مرتكزة على مفهوم علم اجتماع المكان أو سوسيولوجيا المكان، الذي يهتم بفهم الممارسات الاجتماعية والقوى المؤسسية والتعقيد المادي لكيفية تفاعل البشر والمكان.

المعارف والإحساس بالانتماء

من جهة أخرى، يقول الكاتب والفيلسوف الأمريكي، بنجامين فرانكلين: “السعادة البشرية، بشكل عام، لا تتحقق بضربات الحظ الكبيرة، التي يمكن أن تحدث نادرًا، ولكن مع الأشياء الصغيرة التي تحدث كل يوم”. وهذه الأشياء الصغيرة التي تحدث كل يوم، هي بالضبط التي تقدمها لنا شبكة المعارف من حولنا، إذ إن ارتياد المقهى نفسه ومقابلة رواد آخرين، يعزز شعورنا بالانتماء. ومقابلة الأشخاص أنفسهم في صالة الألعاب الرياضية أو في أثناء ممارسة هواية الركض، تعطينا الحافز للحفاظ على لياقتنا البدنية. ورؤية الوجوه المألوفة عند بوابات المدرسة، تذكّرنا بأننا لسنا الأهل الوحيدين الذين نهتم بأولادنا. كل ذلك يمدنا بمشاعر إيجابية توفر إحساسًا بالروتين، وأن الحياة تسير كما هو متوقع، وبالتالي تعطينا الإحساس بالأمان والاستقرار.

وبالفعل، فقد ثبت أن مثل هذه التفاعلات التي تبدو صغيرة، وحتى تافهة في بعض الأحيان، تعمل على تعزيز الحالة المزاجية الإيجابية لدى الأشخاص، وتقلل من احتمالات المعاناة من المزاج المكتئب. فقد وجدت إحدى الدراسات التي أجريت على طلاب الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي نُشرت نتائجها في مجلة “دراسات السعادة” عام 2021م، أن الطلاب يشعرون بالسعادة والانتماء، وبإحساس أقل بالوحدة، في الأيام التي يتفاعلون فيها على نحو متكرر مع عدد كبير من المعارف.

 ووجدت دراسة مماثلة، نشرت نتائجها أيضًا في مجلة “دراسات السعادة” في عام 2020م، وشملت طلاب جامعة أنقرة التركية وموظفيها الذين كانوا يركبون الحافلات المكوكية التي تديرها الجامعة من وسط المدينة إلى الحرم الجامعي، أنهم كانوا يشعرون بسعادة أكبر في الأيام التي كانوا يتفاعلون فيها مع سائقي الحافلات، ويبتسمون لهم ويجرون معهم بعض المحادثات القصيرة.

 إضافة إلى ذلك، هناك أدلة تشير إلى أن كبار السن الذين لديهم مجموعة من المعارف ممن يتفاعلون معهم بشكل يومي، هم أكثر ميلًا إلى اختبار المزيد من المشاعر الإيجابية، وأقل عرضة للإصابة بالاكتئاب.

وبناء على كل ذلك، قالت عالمة النفس بجامعة ساسكس في إنجلترا، جيليان ساندستروم، التي أجرت أبحاثًا عديدة لاستكشاف مدى تأثير شبكة المعارف في حياتنا: “إن الروابط الضعيفة مهمة، ليس فقط بالنسبة إلى مزاجنا، ولكن لصحتنا أيضًا”. وأكثر من ذلك، فقد أكدت هذه الباحثة أنه من الناحية النفسية، تعتبر العلاقات الاجتماعية الهامشية التي تمثلها شبكة المعارف ضرورة وليست رفاهية. ففي التسلسل الهرمي الكلاسيكي للاحتياجات الذي وضعه عالم النفس أبراهام ماسلو (1943م)، اعتبر أن حاجة الإنسان إلى الحب، تأتي مباشرة بعد حاجته إلى إرضاء الدوافع الفسيولوجية ودوافع الحماية الذاتية. ولكن عندما أعاد مجموعة من علماء النفس بقيادة دوغلاس ت. كينريك، صياغة هذا التسلسل الهرمي ليعكس الحداثة بشكل أفضل، ويتوافق مع نظرية التطور، أضافوا العديد من الاحتياجات المنفصلة التي تُشبع بأنواع مختلفة من العلاقات الاجتماعية من بينها: الإحساس بالانتماء واكتساب الشريك والأبوة. وفي هذا الإطار، يمكن للبُعد المهم الذي تضيفه شبكة المعارف أن يسهم في تلبية هذه الاحتياجات البشرية كالشعور بالانتماء والإحساس بالهوية ضمن الدائرة الاجتماعية الأوسع.

وأخيرًا، إذا كان الكاتب والمفكر البريطاني، سي إس لويس، يقول: “إن الصداقة ليست ضرورية، مثل الفلسفة، مثل الفن، نستطيع العيش بدونها، لكنها واحدة من تلك الأشياء التي تعطي لبقائنا قيمة”، فنحن نقول إن شبكة المعارف هي أيضًا مثل الفلسفة، مثل الفن، قد لا تكون أساسية لبقائنا، ولكن مثلها مثل الصداقة، تعطي قيمة لحياتنا، وتفتح أمامنا آفاقًا أوسع، وتعزز لدينا الشعور بالرضا عندما تضيف تلك الأفراح الصغيرة التي تتراكم بطريقة غير واعية في نفوسنا، وتحقق السعادة والشعور بالانتماء.


مقالات ذات صلة

هل سلوكنا على وسائل التواصل الاجتماعي يعكس تفضيلاتنا؟ متى يصبح انتشار المعلومات انتشارًا فيروسيًا؟ ما السبل لتغيير هذا السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي؟

عالم الأطفال، وهو عالم الخيال والتجدّد والتغير والاستكشاف المستمر، قادر على التعامل بشكل أفضل مع تطورات العصر والمستقبل التي تشبه أكثر عالم الأطفال هذا.

أسماؤنا جزء لا يتجزأ من حياتنا، فتشكّل تصوراتنا عن أنفسنا، وتؤثر في كيفية نظرة الآخرين إلينا، وتتحول إلى الشارة التي نقدّمها إلى العالم، أو “علامتنا التجارية الخاصة”


0 تعليقات على “ما الذي يعنيه وجود المعارف في حياتنا؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *