الخوف متعدِّد الأوجه، منه ما يسيطر على بعضنا في مواقف معيَّنة، مثلما قد يحصل عندما ندخل مكاناً مظلماً ومجهولاً، أو حين نتطلع من الأماكن المرتفعة ونشعر بالدوار فنصاب بذلك الشعور الذي يجمدنا ويجعلنا خارج سيطرة العقل. ولكن هناك خوفاً آخر يتولد من الأصوات التي نسمعها أو نتخيلها، وهو يلخص فزع الإنسان مما حوله.
في هذا السياق حاولت المخرجة الشابة مها الساعاتي أن تتعامل مع حاسة “السمع” في فِلْم “الخوف صوتياً” (24 دقيقة)، باعتباره مؤثراً قوياً في المشاعر، ويتأرجح تأثيره ما بين الخوف الرهابي فيسبب الأرق والهذيان، والخوف الأقل من ذلك حدة الذي يسبب الاضطراب السلوكي ويزج بالإنسان في أتون القلق.. إنها الغريزة الأكثر تأثيراً في النفس البشرية، والأقرب إليها من الغرائز المؤثرة الأخرى، كالأمل والألم والشوق.
سياق واقعي لمشاعر متأججة
تدور قصة الفِلْم حول الشابة “أمل”، وهي موظفة في شركة، وتعمل في القسم النسائي كمصممة تدير القسم وتقدِّم الدورات التعليمية وتحظى بتقدير ومحبة من طالباتها في العمل.. تلك المشاعر التي قد تأتي في لحظات السعادة العابرة وتحقق النجاح.
ولكن علاقة أمل تصطدم مع مدير الشركة (إبراهيم الحجاج)، ذلك المدير الذي يريد أن يبدو شخصاً واعياً، ذا تجربة في الحياة، ولا ينفك عن إسداء نصائحه المتكرِّرة وتعليماته المزدرية، وهو في الوقت نفسه غير مبالٍ، ومتعنت، ويتسم بكثير من الصرامة والاستخفاف بموظفيه، فيطلق التوجيهات الحادة طوال الوقت.
صوت الحياة وصوت الرعب
يبدأ الفِلْم مع الشابة وهي تمشي في الطريق، والليل يخيم على المكان، لتسمع موعظة من أحد الخطباء المتحمسين (في ليلة كسوف القمر)، الذي ينذر بالويل والثبور. وهنا يتجسد “صوت الخوف” (تركيب فني الصوت عبدالملك زبيله) الذي يفزع أمل إلى درجة أنها تتصل بإحدى صديقاتها وهي في حالة من الحيرة والبحث عمن يطمئنها، فيما تتناهى إلى أسماعها أصوات مزعجة ومخيفة.
حاولت المخرجة أن تتعامل مع حاسة “السمع” في الفلم، باعتباره مؤثراً قوياً في المشاعر، ويتأرجح تأثيره ما بين الخوف الرهابي الذي يسبِّب الأرق والهذيان، والخوف الأقل من ذلك حدة الذي يسبِّب الاضطراب السلوكي ويزج بالإنسان في أتون القلق.
إنه خوف منبعث من الترهيب الذي يبثه الخطيب في خطبته الليلية، فيهدِّد بالجزاء والعذاب. تلك اللحظة المكثفة في مواجهة الذات والوحدة والظلمة وكلمات الخطيب المثيرة للرعب شكلت عند أمل خوفاً مضاعفاً سيطر عليها.
نشاهد الفتاة وهي تمارس عملها في الشركة بكل حيوية وتعاون مع زملائها، ولكن يأتي الصوت الآخر المعبر عن الحياة ومن ثم الألم والقسوة، وهو صوت القطط المنساب في أرجاء الشركة. قطط لا نراها لكن صوت موائها يصل إلى مسامع جميع الموظفين، مما يزعج المدير ويثيره، خلافاً لأمل التي ترى فيه صوتاً للحياة والميلاد الجديد. ولكن المدير يطلب إخراج هذه القطط ورميها خارج مبنى الشركة، لنسمع بعد ذلك صوت القطة الأم التي فقدت أبناءها؛ يبدو صوتاً مقتطعاً من الحزن والألم، لدرجة التأثير على الموظفين في مشهد أقرب إلى الوهم من الحقيقة.. وهناك دائماً صــوت الواعــظ وكلماتـه المرعبة تتردَّد في مسامعها.
ثم صوت الوجدان العاطفي يظهر فجأة، وتسمعه من قرص مدمج في أحد مشاريع الطالبات اللاتي يتلقين الدورة، فيحرك فيها مشاعر الشوق واللهفة لمعرفة صاحب هذا الصوت، وتسعى للبحث عنه.. إنها أصوات مؤثرة على مشاعرها، وهي التي تدفع بها لأحلام اليقظة وتأخذها إلى كوابيس النوم.
حزينة بشخصية جادة
الشابة، كما تبدو، فتاة حيوية، ولكن الحزن يكسوها، وتخيم عليها الجدية. وفي الوقت نفسه تشعر بالشفقة على القطط. لذا فإن أقوى الأصوات تأثيراً عليها هو صوت القطة المكلومة بفقد صغارها، إذ كثيراً ما تداهمها الخيالات المؤرقة.. نلاحظ هنا أن المخرجة اعتمدت تصويرها بالألوان، خلافاً لبقية المشاهد التي تم تصويرها بالأبيض والأسود، ما يمزج بين الواقع والمتخيل.
بين موت الألوان وحيوية الأبيض والأسود
غير أن التصوير بالأبيض والأسود بدا تقنية فنية مؤثرة، خاصة إذا ما تتبعنا كل المشاهد ذات البُعد السريالي، وكانت ملونة؛ وكذلك المشاهد التي تعكس ما تراه في أحلامها، مما جعل النهاية “الملونة” موضع حيرة لدى المشاهد الذي لا يعرف ما إذا كان مشهداً واقعياً ملوناً خلافاً للثيمة الأساسية، أم إذا كان مشهداً ملحقاً بمشاهد التخيلات التي تأتي ملونة، عطفـاً على المشهد المعبر عن الدمار والموت الذي يسببه صوت القطة المكلومة.
قد تكون فكرة التصوير بالأبيض والأسود مرتبطة بشكل منسجم مع طبيعة السياق، في حين يكون تلوين الأحلام محاولة لاكتشاف المخاوف التي تخشى البطلة من مواجهتها في الحقيقة، وعلى هذا فإن التكوين البصري للأحلام، بهيئتها الملونة، يأتي مناسباً.. بل ويعزز ظهور اللقطات الملونة في النهاية، بحيث تترك مجالاً لتفسير الخاتمة المفتوحة للفِلْم.
حوار ذكي ضمن لقطات مدروسة
يدور بين أمل وزميلها خالد (عبدالعزيز غرباوي) حوار ذكي وعميق ومليء بالإيحاءات والرمزية، ويتواصل الحوار مع أداء الممثلين بشكل يتعايش مع كل كلمة وكل إيماءة ونبرة صوت. كما تجدر الإشارة إلى تنقلات مواتية للكاميرا في المكان الواحد، وهما داخل السيارة. إنه مشهد لا يصنعه هاوٍ أو مبتدئ، بل هو في قمة الاحتراف الفني.
وثمة تكوينات جمالية لكل كادر يظهر على الشاشة، تكشف عن ذائقة مرهفة تجاه الصورة، ويعزِّزها استخدام اللونين اللذين يوضحان التباين في الظلال والأجزاء المضيئة. لقطات للسماء والأضواء والقمر وأسقف المبنى تتكامل مع موسيقى سيمفونية، ومقطوعات مختارة. مواء قطط مذعورة وجثث وموتى يصعّدون من حالة الخوف التي تنتاب البطلة. وكل ذلك يحمل معاني مكثفة تشي بالحالة الشعورية الجياشة التي تعيشها، والتي كتبتها مها الساعاتي بحس نابض بالوعي.
الخوف صوتياً
نموذج لاشتغال سينمائي رصين عالي القيمة الفنية. فكل ثانية فيه مشغولة بتمكن ودراسة.
أنتجه وأخرج صوره يعقوب المرزوق، وأدارت الإنتاج هالة الإبراهيم. ساعد في الإخراج عبدالرحمن جراش، وصمم الصوت مها الساعاتي وأحمد العبدالمحسن. شارك في التمثيل: سالي زاك، آنـا جارلنغتـون، عبدالرحمـن المصـري، سدرا الغامــدي، لينا العطاس، أروى الصابـر، نزار الطيــار، مي عنتر، علاء إسماعيــل. إخراج مها الساعاتي.
[…] الخوف صوتيا – مجلة القافلة بقلم فهد الأسطاء (March 17, 2019) […]