مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2019

الخرطوم.. حياة بين نهرين


محمد جميل أحمد

عبر صورة علوية لمدينة الخرطوم عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، في منطقة المقرن، تبدو زرقة الماء مع طيـن الأرض وخضـرة الأشجار حواراً أبدياً صامتاً يُظهر عناق فرعي النيل حين يخرجان لساناً واحداً باتجاه الشمال إلى المتوسط.
وعلى الرغم من التواضع الظاهر لحداثــة العمران في المدينة، إلا أن ما تعكسه صورتها في مخيلة الناظر لا تكف عن صناعة الدهشة. فبين ضفتي نيلين تمتد مدينة الخرطوم على ضفة النيل الأزرق إلى نقطة التقائه بالنيل الأبيض، متجهةً نحو الشرق، متسعةً في الجنوب حتى الضفة اليمنى للنيل الأبيض، حيث تقع على الضفة قبالتها مدينة أم درمان؛ لتشكِّل الخرطوم الكبرى.

جاءت تسمية منطقة المقرن من اقتران النيل الأبيض مع الأزرق. ويمكن لهذه المنطقة أن تكون منصة انطلاق ممتازة لعين الزائر العابر للخرطوم، وتتيح له اكتشاف الهوية المعمارية للمدينة في مركزها عند ملتقى النيلين.
فالطبيعة الخلابة لمنطقة المقرن جذبت خيال المهندسين ومخططي البنايات المعمارية منذ عهد العثمانيين الذين اختاروا الخرطوم عاصمة للبلاد في العام 1821م، مروراً بعهد الاستعمار الإنجليزي، وصولاً إلى اليوم. 

تخطيط على الطراز الأوروبي
كان الحُلم بمدينة على الطراز الأوروبي في إفريقيا مسيطراً على اللورد كتشنر (أول حاكم عام للسودان في بداية عهد الاستعمار البريطاني 1899م)، فيما كان الجنرال استانتن، الذي أشرف على وضع تخطيط المدينة، يحلم بأن تكون الخرطوم أعظم مدن القارة الإفريقية على غرار القاهرة والإسكندرية.
ومع انطلاقة التخطيط الجديد للخرطوم بداية القرن العشرين إلى قطاعات رئيسة؛ كالقطاع الحكومي والقطاع التجاري والقطاع السكني من خلال شوارع كبيرة وأساسية مثل شارع القصر (كان يسمى شارع فكتوريا)، وشارع الجامعة (كان يسمى شارع الخديوي)، إلى جانب الميادين الكبيرة؛ كان التطور يعمّق اندماج المدينة ويربطها ببعضها بعضاً عبر جسور عملاقة (مثل جسر النيل الأبيض الذي ربط أم درمان بالخرطوم، فيما أنشئ جسر النيل الأزرق ليربط بين الخرطوم والخرطوم بحري) وكان لذلك أثر كبير في إحياء مدينة أم درمان.
فبعد الحرب العالمية الثانية كان الاندماج بين سكان الخرطوم قد تجاوز كانتونات العزلة القبلية التي كانت تعيد تعريف السكان بأسماء قبائلهم. وهكذا عمل تخطيط المدينة الحديث على تحقيق الاندماج الاجتماعي. 

من أبرز المعالم المعمارية
فندق “كورنثيا” والقصر الجمهوري

من أبرز الملامح الحديثة للخرطوم التي يمكن أن تظهر بوضوح عبر صورة علوية لمعالم المدينة، أو ما يراه الكثيرون إيقونة الخرطوم في خلفية شاشات التلفزيون؛ هو الشكل البيضاوي الواضح المعالم لبرج فندق “كورنثيا” الواقع على شارع النيل، والمُطلّ على أجمل المناطق الطبيعية عند ملتقى النيلين وسط الخرطوم. فالشكل البيضاوي للفندق يعكس أسلوباً لعمارة حديثة ومختلفة عن بنايات الخرطوم العامة ذات الطابع الكولونيالي من ناحية، والقليلة الارتفاع عن سطح الأرض من ناحية أخرى.
وبقليل من التأمل يلاحظ الزائر أن تصميم الهندسة الحديثة القائم على المزج بين الحديد الصلب والزجاج في عناصر بناء البرج، خلع عليه طابعاً فريداً مضافاً إلى شكله الهندسي، كما أن انعكاس ظله الطويل على سطح مياه النيل الصافية خلال ساعات النهار، يضفي ملمحاً بانورامياً بديعاً على هيكله. وقد أتاح تصنيفه ضمن الفئة الأولى للخدمات الفندقية العالمية تحويله إلى مقصد لكبار الشخصيات التي تزور العاصمة السودانية.
ولدى مرور الزائر بشارع النيل العريق لا بد من أن يستوقفه مشهد القصر الجمهوري، أو “قصر الحكمدارية”، كما كان يطلق عليه في عهد الحكمدار علي خورشيد، ثم جدَّد بناءه الحكمدار عبداللطيف، بين عامي 1851 ـ 1852م. وقد بني هذا القصر من الحجر الأبيض الذي تم جلبه من غرب مدينة أم درمان ولا يزال الطراز التركي الشرقي في المعمار بادياً على هيكله المهيب.
يتكوَّن القصر، بعد إعادة تشييده، من طابق أرضي وطابقين علويين وله ثلاثة أجنحة وصحن تتوسطه نافورة مياه بيضاوية الشكل. ويقابل أحد أجنحة القصر الرئيسة النيل الأزرق ويمتد إلى الناحية الشرقية والغربية، ويمتد الجناحان الآخران صوب الجنوب. وقد شهد القصر الجمهوري أحداثاً تاريخية؛ أبرزها مقتل آخر حكمدار في العهد التركي هو الضابط الإنجليزي غوردون باشا.
ويشكِّل القصر الجمهوري صرحاً مهماً في السودان، فحملت الطوابع البريدية والعملات الورقية صورته، ويطلق اسمه على الشارع الرئيس المؤدي إليه من جهة الجنوب “شارع القصر”، بعدما كان يُسمَّى شارع فيكتوريا، ويُعدُّ من المعالم المعماريـة الرئيسـة في الخرطوم.

قاعة الصداقة..
مجمّع للمؤتمرات واللقاءات 

ولا يمكن لزائر الخرطـوم أن يغادرهـا من دون تفقـد “قاعة الصداقة” التي بناها الصينيون على غرار مبنى قاعة المؤتمرات الكبرى في بكين.
وقاعة الصداقة هذه هي في الواقع مجمّع مكوَّن من عدة مبانٍ، يضم قاعات للمؤتمرات وصالات معارض ومسرحاً وسينما مغلقة ومرافق أخرى ملحقة بها، إضافة إلى الحديقة الكبيرة المعروفة باسم حديقة النخيل.
يحتل مبنى قاعة الصداقة قلب المنطقة السياحية في الخرطوم، فهو يطل من جهة الشرق على فندق “كورنثيا” و”فندق السودان”.وغرب هذا المبنى، يقع “متحف السودان القومي”، و”حدائق 6 أبريل” إلى جانب فندق “كورال الخرطوم” (الهيلتون سابقاً) وجسر النيل الأبيض المؤدي إلى مدينة أم درمان. ومن جهة الشمال، تطل قاعة الصداقة على مرسى عبّارة جزيرة توتي، أما في جنوبها فيوجد عدد من مكاتب شركات وبعض البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
كانت قاعة الصداقة النموذج الحداثي الأول للبنايات الرئاسية خلال العهدين التركي والإنجليزي؛ فقد تميزت معظم تلك الأبنية باللون البني الذي عكس تماهياً مع الطبيعة. لكن حِرْص الصينين على نمط معماري يترك هويتهم، ويناسب طبيعة الطقس في الوقت نفسه؛ كان العامل الحاسم في بروز معمار قاعة الصداقة بذلك الشكل المختلف لناحية الهيئة واللون الأبيض.

العمارة الفيكتورية
في جامعة الخرطوم 

تكريماً للضابـط البريطانـي غوردون بعد مقتلــه، أنشأ اللـورد كتنشـر كليـة غوردون التذكاريــة التي سمّيَـت بعد الاستقلال بجامعة الخرطوم.
ومع تأسيس بناياتها وتصاميمها الهندسية ذات الطابع الفيكتوري المميز بداية العام 1902م؛ انتظمت الدراسة في الكلية، لتتطور وتصبح من أعرق جامعات إفريقيا. فقد رُبطت مناهج “كلية غوردون” بمستوى الشهادة الثانوية في جامعة “كامبريدج” البريطانية، فيما أصبح طلاب كلية غوردون بعد عقد من ذلك العام يجلسون في امتحان الثانوية للالتحاق بجامعة لندن، ومن ثم أصبحت أول كلية إفريقية مرتبطة بـ”جامعة لندن” بعد أن تعددت كلياتها لتشمل: الطب والهندسة والحقوق والآداب. وظلت الدراسة في جامعة الخرطوم باللغة الإنجليزية حتى العام مطلع التسعينيات.
شارع النيل الجميل
من أهم شوارع الخرطوم وأجملها. يضم على امتداده كثيراً من المعالم الكبرى لمدينة الخرطوم كالقصر الجمهوري كما أسلفنا، وجامعة الخرطوم، ومتحف السودان القومي وقاعة الصداقة وفندق السودان، وفندق كورنثيا، وغيرها من المعالم.
يمتد الشارع من جسر النيل الأبيض باتجاه منطقة الجريف. ويحدّه من الجنوب مجرى نهر النيل الأزرق. وتوسّع الشارع باستمرار لمسافات طويلة، تظللها نهاراً أشجار النيل الباسقة. أما في الليل فيضج الشارع بالحيوية، إذ تنتشر على جنباته نشاطات ترفيهية كثيرة، من مقاهٍ متحركة، ومعارض تشكيلية، وجلسات فنية. والشارع عبارة عن متنزه كبير بمحاذاة النيل. وهو من أكثر الأماكن التي يقضي فيها السودانيون مع عائلاتهم ساعات النهار والمساء.

الطبيعة الخلابة لمنطقة المقرن جذبت خيال المهندسين ومخططي البنايات المعمارية منذ عهد العثمانيين الذين اختاروا الخرطوم عاصمة للبلاد في العام 1821م، مروراً بعهد الاستعمار الإنجليزي، وصولاً إلى اليوم.

متحف السودان القومي
المتحف القومي السوداني هو ذاكرة السودانيين ومرآة حضاراتهم التي قامت على ضفاف النيل، منذ تاريخ الأسرة الفرعونية الخامسة والعشرين، التي شهد عصرها أوج الحضارة الكوشية.
وقد تم تجهيز المتحف كمتحف مستقل منذ الستينيات، وافتُتِح في العام 1971م. ويعكس المتحف تحقيباً كاملاً لعصور الحضارة القديمة، كم تضم حديقته عديداً من المعابد والمدافن والنصب التذكارية والتماثيل بأحجام مختلفة.
ويتكوَّن مبنى المتحف من طابقين ففي الطابق الأول تعرض المقتنيات الأثرية في تسلسل منذ ما قبل التاريخ، أي منذ حوالي  سنة 300,000 إلى 3,700 سنة قبل الميلاد. ويضم المجموعة الحضارية (3,700 – 2,800)، ما قبل كرمة (الألف الرابع ق.م. إلى الألف الثاني و600 ق.م.)، كرمة (2,500 – 1,500)، مملكة كوش (فترة نبتة). مملكة كوش (فترة مروي)، فترة ما بعد مروي القرن الرابع – القرن السادس الميلادي. ويحتوي الطابق الثاني على الصالة العليا التي تلقي الضوء على العصور الوسطى والفترة الإسلامية، أي من حوالي القرن السادس الميلادي.

تمثال أثري من داخل المتحف القومي السوداني

السوق العربي
كان السوق الإفرنجي الذي لا يبعد كثيراً عن العربي، يعكس هوية مختلفة للحداثة والعصرنة، بحيث يكاد المرءُ أن يعرف طبيعة الفرق من طبيعة التسمية. ففي السوق العربي يجد المتسوق السلع التقليدية والمنتجات المحلية المختلفة من الحبوب والتوابل، إلى أدوات الزينة والذهب ومواد البناء والتشييد.
أما السوق الإفرنجي فيتميز بتصاميم عصرية لمتاجر ماركات عالمية، وبضائع مستوردة وتحف وهدايا وأثاث وأجهزة منزلية مختلفة.
وإذ لا يبدو اليوم أن ثَمَّة فرقاً في مزاج العولمة الذي نمّط حياةً عصرية شبه موحّدة، فإن هوية المكان مدركة لمعنى الاختلاف.

وفي غابة السنط غنينا
غابة السنط في الخرطوم هي أصداء لطفولة المدينة حين كانت ترقد بين قدمي النيل غافلة من حياة البشر. وتُعدُّ غابة السنط اليوم محمية طبيعية، فهي تتوسط مدينة الخرطوم على الضفة الشرقية للنيل الأبيض وعلى مسافة قريبة من التقاء النيلين في منطقة المقرن، وتوجد فيها وفرة كبيرة من الأعشاب والنباتات وأشجار السنط الكبيرة ذات الشهرة المعروفة. وتجذب الغابة طيوراً نادرة محليةً ومهاجرة كالنورس والأوز والبط ومالك الحزين، إلى جانب الحيوانات البرية.
تمثل هذه الغابة رئةً طبيعية للمدينة، إذ تظل أشجارها خضراء طول العام. كما تصلح لأن تكون حديقة طبيعية للحيوانات بمواصفات نادرة، ومنطقة سياحيةً جاذبة لكثير من الناس لأغراض التخييم والاستمتاع بالطبيعة والأنشطة التي لا تلحق ضرراً بالبيئة.

في السوق العربي يجد المتسوق السلع التقليدية وما يعرض فيها من منتجات محلية مختلفة من الحبوب والتوابل، إلى أدوات الزينة والذهب ومواد البناء والتشييد.
أما السوق الإفرنجي فيعكس تصاميم عصرية للمنتجات ومتاجر لماركات عالمية، وبضائع مستوردة وتحف وهدايا وأثاث وأجهزة منزلية مختلفة.

جزيرة توتي.. جائزة أفضل مجتمع
إنها ابنة النيل ودرة المقرن. هيئتها تشبه نصف دائرة، أو انحناءة قوس باتجاه يمين الناظر إليها عبر صورة علوية، تشتمـل على مساحة 500 فدانٍ من الأراضي الزراعية الغنية ببساتين المانجو والليمون والفاكهة.
الأبنية السكنية في الجزيرة ذات نمط تقليدي من الطين والطوب، وشوارعها ترابية وبعضها مُعبَّد بالأسفلت، لكن سحر المكان في الجزيرة أخذ طابعه الجميل من سحر النهرين اللّذين يحفانها لينحدر بعدها النيل باتجاه الشمال إلى مصر فالمتوسط.
وقد نعجب إذا عرفنا أن توتي يُعدُّ الموطن الأول لسكان الخرطوم. وهي سلة فاكهة الخرطوم، فالنشاط الزراعي العام لسكانها جعل من الجزيرة مكاناً معزولاً، لكن أهلها ظلوا سعداء بعزلتهم لقرون طويلة، فيما كانت متغيرات الحياة تعصف على مقربة منهم. فقد كانت القوارب وحدها صلة أهل الجزيرة باليابسة في الخرطوم. وظل الحال كذلك حتى بدأ التغيير يزحف ببطء على حياة الجزيرة منذ إنشاء الجسر في عام 2010م، الذي ربط الجزيرة بالخرطوم.
لكن وجود الجزيرة في قلب النيل جعل منها عُرضة لتقلباته أثناء الفيضان، لا سيما في شهر أغسطس. ولأهل توتي خبرة تاريخية في مواجهة فيضان النيل بصبر وإصرار على التلاحم والتكاتف دفاعاً عن الجزيرة، وعدم الخروج منها حتى في أصعب لحظات مواجهة الفيضان، بخلاف ساكني جزر النيل الأخرى، الأمر الذي أدى إلى اختيار أهالي جزيرة توتي في العام 2015م لجائزة “أفضل مجتمع على مستوى العالم قادر على مواجهة الكوارث الطبيعية” التي تمنحها الأمم المتحدة.

تصوير: حسن حامد


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


رد واحد على “الخرطوم.. حياة بين نهرين”

  • اعجبني الموضوع به تسلسل جميل نعم يتميز السودان بتمازج يندر وجوده في الكثير من البلدان، تمايزات ثقافية، إثنية، فولكلورية، حضارات قديمة، لم تكتشف حتى الان كثير من المعالم التاريخية تحت الارض .. سلمت على هذا السرد الجميل


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *