مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

الثقافة في التلفزيون

أسباب تآكل المساحة وتراجع التأثير

د. عبدالله العقيبي

ما الذي حلَّ بالبرامج الثقافية التلفزيونية؟

الإحصاءات التي ظهرت بهذا الخصوص عالميًا وعربيًا لا تبشِّر بالخير، ولا تُشير إلى أننا في لحظة ثقافية جيدة على مستوى البرامج التلفزيونية الثقافية، الرصينة منها على وجه الخصوص. فهي في تقلُّص حاد، إلى درجة أنها لا تتجاوز %5 من جُلِّ البرامج التلفزيونية عامة. كما أن أوقـات بثها صارت في ساعات متأخرة من الليل، وكأن إثارة الفضول والتسلُّح المعرفي ومتابعة الجديد في عالم الفكر والمعرفة، صارت عبئًا على القنوات التلفزيونية.

في الخامس من شهر مايو 2024م، رحل أسطورة الثقافة الفرنسية الكاتب والإعلامي برنار بيفو، عن عمر بلغ 89 عامًا، قضاها في خدمة الفن والثقافة. فهو صاحب أرقى البرامج الثقافية العالمية التي عرفها البث التلفزيوني على الإطلاق “أبوستروف”، البرنامج الذي كان يتابعه أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد ويُبثُّ في وقت ذروة المشاهدة.

انطلقت أولى حلقات هذا البرنامج في عام 1975م، واستمر بيفو في تقديمه حتى عام 1990م، وهي الفترة التي كانت فيها باريس تعجّ بالكتَّاب الحاصلين على جائزة نوبل، ويعيش في كنفها عدد كبير من المفكرين الذين غيّروا وجه الفن والفكر والثقافة العالمية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ومن الذين استضافهم بيفو في برنامجه، على سبيل المثال، جاك دريدا وجيل ديلوز وألبرتو مورافيا ونابوكوف وألكسندر سولجنيتسين والشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي والموسيقي الروسي راشمانيونف، وعشرات آخرين من الفلاسفة والروائيين والسياسيين البارزين من داخل فرنسا وخارجها، وكان من بينهم الرئيس الفرنسي نفسه آنذاك، فاليري جيسكار ديستان، الذي استضافه “أبستروف” للحديث عن الروائي الفرنسي العظيم غي دي موباسان.

خلال ربع قرن من الزمان تحوَّل بيرنار بيفو إلى راهب يعيش حياته مع الكتب، حتى إنه سمَّى كتابه الذي يحكي فيه قصته مع الثقافة بـ”مهنة القراءة”. إذ كان يقرأ يوميًا أكثر من ثماني ساعات. وقال عن تلك المرحلة بحسرة، إنه أهمل عائلته وحياته الاجتماعية. لكنه بالمقابل كان يقرأ بمنهجية وجدية أكاديمية أبهرت معظم ضيوفه من الكتَّاب والمفكرين؛ حتى غدا برنامجه محط أنظار القرّاء والمثقفين من جميع أنحاء العالم، وأصبح أسطورة وسلطة ثقافية.

يقول الناشر الفرنسي جون كلود غواسويتش، إنه يتذكر جيدًا أنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر لحظة الإعلان عن الكُتَّاب الذين سيستضيفهم بيفو في برنامج “أبستروف”، ليسارعوا إلى استخراج مؤلفاتهم من مستودعات الكتب وتوزيعها على المكتبات؛ لأن الكتاب الذي تجري مناقشته في البرنامج ستقفز مبيعاته من ثلاثة آلاف نسخة إلى أكثر من ثلاثين ألف نسخة. ويضيف قائلًا، إنه بعد استضافة البرنامج للروائية الفرنسية مارغريت دوراس، قفزت مبيعات روايتها “العشيق الصيني” من ثمانين ألف نسخة إلى مائتين وأربعين ألف نسخة. وقد حصل الأمر نفسه مع كثير من الكتَّاب، حتى الذين لم يكونوا معروفين في الأوساط العامة، مثل الشاعر والكاتب الفرنسي فيليب دلرم، الذي لم يكن أحد من أفراد عائلته ومجتمعه يأخذ ما يكتبه على مَحمل الجِدِّ، حيث تبدَّل الحال تمامًا بعد ظهوره في البرنامج مع برنار بيفو.

يروي الفنان السعودي عبدالناصر غارم، أنه سأل صحفية ألمانية جاءت من برلين إلى الرياض لإجراء لقاء صحفي معه عن تجربته الفنية الرائدة: كيف تعرفتم على اسمي وعلى منتجي الإبداعي؟ فأجابته على الفور: اسمك يظهر دائمًا في الرادار!

 لعلَّنا نفهم بشكل من الأشكال، ومن خلال ملاحظة التأثير الكبير لبرنامج “أبستروف” على القرَّاء من ناحية اختياراتهم القرائية، ومن موقف الفنان غارم، أن الصحافة الثقافية ومن بينها البرامج التلفزيونية كانت تمثِّل ما يشبه الرادار الثقافي والنقدي الذي يقود المشهد الفني والأدبي والفكري إلى المنابت الأصيلة للثقافة الآنية، فتكون بمنزلة الصدى لها؛ إذ يقوم هذا الرادار بلعب دوره المحوري في ملاحقة كل جديد وقيِّم في عالم التأليف الفني والفكري والعلمي.

 والحقيقة أن هذه المناسبة وهذه الذكريات التي أثارها رحيل صاحب برنامج “أبستروف” برنار بيفو، قد تكون مناسَبة لوقفة تفكير. فعندما نتحدث عن “الثقافة والتلفزيون” أو “الأدب في التلفزيون”، فنحن نتحدث عن طرفين، يتحمل كل منهما طرفًا من المسؤولية. النزعة التجارية والمنافسة الحادة بين القنوات العامة على نسب المشاهدة أمر واقع؛ لأن الانتشار يُترجم إلى مكانة للقناة ووفرة في الإعلانات.

إذًا، لا يكفي إلقاء تقليص حصة الثقافة على طبيعة هذه الحقبة أو انحياز القنوات، بل يقتضي الإنصاف تأملَ طبيعة البرامج الثقافية وقدرتها على إثارة اهتمام مديري القنوات أولًا، ثمَّ الجمهور ثانيًا. فهل يكمن الخطأ في انحياز هذه البرامج إلى النخبة؟ هل لأن المادة غير جذابة؟ أحيانًا، يلقي العاملون في الإعلام الثقافي عدم جاذبية برامجهم على ضعف ثقافة الجمهور، في حين من الممكن أن تعود قلة الجاذبية إلى المحتوى نفسه، وإلى قدرات القائمين عليه أو إلى صعوبات إنتاجية بسبب محدودية الميزانيات.

كل هذه الأسباب واردة لمعرفة السبب الذي يجعل البرامج التلفزيونية الثقافية غير قادرة على الصمود. فلولا الدعم الحكومي لبعض القنوات التلفزيونية، والقنوات الثقافية المتخصصة في بعض الدول العربية، لباتت هذه البرامج من ذاكرة الماضي التليد.

استضافة برنار بيفو للروائية الفرنسية مارغريت دوارس.

على الرغم من الدعم، تظل هناك مشكلات رئيسة في طبيعة هذه البرامج، منها مشكلة الخفة وعدم الجدية في متابعة المشهد الثقافي. فمعظم مقدمي هذه البرامج ومعدّيها لا يتمتعون بالمعرفة ولا بالدراية الحقيقية للمشهد الثقافي الحقيقي. وكثير منهم ليس محسوبًا على الثقافة الآنية لا من قريب ولا من بعيد، وتقتصر معرفتهم على متابعة الفعاليات الثقافية. وهذا دور تستطيع الأخبار وبرامج المنوعات مزاحمتهم فيه.

في المقابل، لو عدنا إلى التاريخ الشخصي لمُقدِّم برنامج “أبستروف” برنار بيفو، لوجدنا أنه ناقد مهم في الوسط الثقافي الفرنسي، وفي جعبته التأليفية أكثر من عشرين كتابًا، معظمها في الأدب والنقد. كما سنجد أنه صحفي في أهم صحيفة فرنسية “لو فيجارو”، ومؤسس مجلة “لير” الشهرية الانتقائية، التي تتابع أخبار الأدب والفكر، وتُقدِّم مراجعات رصينة للكتب، وأسَّس بطولات في الإملاء حققت إنجازًا شعبيًا هائلًا، واستنسخ منها عددًا من المسابقات في دول كثيرة، بالإضافة إلى انتخابه في عام 2004م لعضوية جائزة “غنكور” الشهيرة، التي تولَّى رئاستها من 2014م حتى 2019م. ولننظر بإمعان إلى هذا التاريخ الحافل لواحد من أهم مقدِّمي برامج التلفزيون الثقافي، ونقارنها بتاريخ أسماء مقدِّمي البرامج الثقافية اليوم. قد يكون هذا المثال استثنائيًّا، لكننا لا نعدم الرموز الثقافية التي يمكن أن تُقدِّم برامج نوعية بمستوى أعلى من المتاح حاليًّا.

هناك أيضًا عدد من المشكلات التأسيسية، مثل الطموح الجماهيري لبعض البرامج الثقافية اليوم، فهي تركز على النتيجة وتترك الجوهر، وكذلك عدم التفريق بين البعد المعلوماتي والبعد المعرفي. فهناك برامج قدَّمت مبادرات جيدة لتحقيق المستوى المنشود، لكنها كانت تراوح ما بين تقديم الثقافة السائدة وربَّما السائلة، وبين الثقافة الرصينة ذات البعد المعرفي والطليعي، الذي يُثير لدى المشاهدين القيم المعرفية العليا، مثل: إثارة أسئلة الفضول المعرفي، والرغبة في الاستزادة من العلم، وتلمس الجمال الإنساني. وعدم الثبات هذا جعلها تتراجع عن مكانتها لدى عموم المثقفين، ولدى فئة الشباب الطموح الذي استعاض عن تلك البرامج التلفزيونية بمنصات التواصل الاجتماعي التي لم تصمد أمام فضيلة القدرة على اختيار المنصة المعرفية المناسبة.

وبحكم تعرضنا هنا للمنصات الأخرى، سنجد أنها أكبر عقبة واجهت برامج التلفزيون الثقافي، إن لم نقل التلفزيون بعمومه بوصفه وسيلة إعلامية مؤثرة. فمنصة مثل “يوتيوب” غدت سلطة عظيمة لا تُقهر؛ هذا لأنها توفر عددًا من المميزات للمنتج والمستهلك في آنٍ، مثل: المرونة والسرعة والحرية. وبينما ترزح القنوات التلفزيونية تحت وطأة المركزية المؤسساتية التي تكبلها وتحد من إبداعها، نلاحظ أن الوسائط الجديدة ومنها “اليوتيوب” وتطبيقات البودكاست وقنوات التواصل الاجتماعي الأخرى، قد قطعت أشواطًا كبيرة في عالم إنتاج البرامج الثقافية، وبميزانيات لا تكاد تُذكر مقارنة بميزانيات البرامج التلفزيونية، وهو ما جعل القنوات التلفزيونية، مؤخرًا، تتسابق في إنتاج برامج خاصة للبثِّ على منصاتها الإلكترونية. وهذه الخطوة كان منها تقريب الفجوة الكبيرة التي نشأت بين المشاهد والقنوات التلفزيونية، لكنها في الوقت نفسه تعدُّ خطوة خطيرة بالنظر إلى التاريخ العريق للشاشة الصغيرة. ولعلَّ أميز الحلول في المحافظة على هذا التاريخ، الحل الذي قامت به بعض القنوات التلفزيونية القديمة، وذات الملاءة المالية والتاريخ العريق، من توفير لخدمات البث المباشر من خلال منصات إلكترونية.



هذا بالنسبة إلى الوسيلة. أمَّا بالنسبة إلى المشكلة الكبرى، فلا تزال قائمة حتى هذه اللحظة: مشكلة المحتوى المتداعي، أو المتأرجح في أحسن الأحوال، بين المتابعة الخفيفة للشأن الثقافي العام، والإضافة المعرفية والفكرية الحقيقية. ولكي تُحلّ هذه المشكلة يجب إعادة النظر في تعريف هذه القنوات لمفهوم البرنامج الثقافي، والبعد عن النظرة السطحية للثقافة، التي حوَّلت كثيرًا من البرامج الثقافية إلى ثرثرة، لا تدفع بالمتلقي إلى متنها الحقيقي، وتحريك الراكد، وبثّ روح الحماسة المعرفية لدى النشء، ودفعهم إلى فعل القراءة بغرض الاستزادة، حتى يكونوا إحدى الركائز الأساسية في عملية تكوين المعنى، لا مجرد ببغاوات ومصورين، لا يعرفون من المعرفة إلا مصطلحاتها، ولا من الكتب إلا عناوينها.

لا بدَّ من الاعتراف بأن دور برامج التلفزيون الثقافي، اليوم، في انحسار، قد يصل بها إلى الاضمحلال والذوبان تمامًا، ما لم تتمسك القنوات التلفزيونية الرسمية والتجارية على حد سواء بهذا الدور المهم والمحوري في سبيل النهضة الفكرية والثقافية. ونعتقد أن إطلاق وزارة الثقافة السعودية بالتعاون مع قناة “إم. بي. سي” للقناة الثقافية في 23 سبتمبر 2023م، خير شاهد على استشعار أهمية البرامج الثقافية التلفزيونية في رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية الثقافة وقيمتها في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. لكن المأمول يظل أكبر من ذلك؛ إذ نأمل أن تكون القناة الثقافية بمنزلة الرادار الأدبي والنقدي الذي يُرشد المتابعين إلى مواطن الجمال المعرفي، ويدفع بهم من خلال البرامج بجميع أشكالها وأنواعها إلى تكوين قاعدة عريضة من القرَّاء والمهتمين، الذين يُسهمون بدورهم في إزالة الركود من ناحية فعل القراءة، وإثارة الحماسة تجاه الأبعاد المعرفية، التي هي أولًا وأخيرًا عماد نهضة الأمم.


مقالات ذات صلة

ثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة.

أطلقت “إثراء” المرحلة الأولى من الترجمة الصينية لكتاب “المعلقات الألفية”، والتي يُتوقع أن تستوفي كل المعلقات العشر عام 2025م.

حجرًا حجرًا أتهدّمُ .. حبّةَ رملٍ تعانقُ حبّةَ رملٍ .. إلى جدثي أتقدّمُ .. لم أكترثْ .. برسائلَ ما فتئ الموتُ يُودِعُها جسدي…


0 تعليقات على “الثقافة في التلفزيون”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *