وسط الأخذ والرد حول القدرة التعبيرية لكلٍّ من الكلمة المكتوبة والصورة الفوتوغرافية، برز منافس ثالث: الصوت. وكانت مقالة “العودة إلى الصوت” المنشورة في جريدة الشرق الأوسط في 12 فبراير 2021م، لافتة إلى تعاظم استخدام المنصَّات الصوتية في وسائل التواصل الحديثة. فهل نحن أمام ظاهرة محدودة الآفاق والمفاعيل، أم أننا أمام جنوح عام نحو استخدام وسيلة تعبيرية قد تنافس الكلمة المكتوبة والصورة؟ هذا ما حاولت “القافلة” أن تستوضحه في جلسة نقاش عقدتها لهذا العدد على منصة زوم. وقد توزَّعت محاور النقاش حول البُعد الاجتماعي للثقافة السمعية وما إذا كانت نقيض الثقافة البصرية، إضافة إلى اتجاه الإنسان المعاصر للاستماع، والهروب من كدر النظر إلى صفاء السمع، ثم الوقوف عند أسباب سقوط الحدود بين المرئي والمسموع والمكتوب، وتحليل ذلك من وجهة نظر المختصين. وشارك في هذه الجلسة كلٌّ من الدكتور مصطفى حجازي والأستاذة فرح آل إبراهيم، إضافة إلى الدكتورة سوسن الأبطح كاتبة مقالة “العودة إلى الصوت”، وأدارها الزميل وليد الحارثي.
بدأت الجلسة بكلمة لمديرها لفت فيها المتابعين على منصة زوم، إلى أن الغاية من هذه الجلسة هي البحث بشيء من التوسُّع في ما سبق أن ورد في مقالة الدكتورة الأبطح “العودة إلى الصوت”، وما لهذه العودة من تداعيات على القدرات التعبيرية واللغة والتواصل، وما يمكن أن تنطوي عليه من إيجابيات وسلبيات.
كان الدكتور مصطفى حجازي أول المتحدثين، وبدأ كلمته بالقول إنّ اللغة الشفهية عند الإنسان تختلف عما هي عليه عند كلّ الكائنات الحية من حيث إمكاناتها التعبيرية، وقدراتها على النمو والتزايد من دون انقطاع، فهي كانت منذ البداية وسيلة للتواصل ونقل الخبرات والأفكار من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن.
فاللغة الشفهية هي لغة التعبير عن الأفكار والرؤى والسلوكيات والقضايا المعيشية، وهي أيضاً وسيلة التعبير عن الوجدانيات، خصوصاً البوح أو “الفضفضة” التي نستخدمها في حياتنا اليومية. ومن خلال اللغة الشفهية نشأ العلاج النفسي والإرشاد النفسي. فالعلاج بالكلام غير العلاج بالعقاقير، والعلاج بالبوح والوجدانيات غير العلاج بالأدوية، فالتواصل اللفظي الشفهي هو حاجة أساسية عند الإنسان.
اللغة الشفهية هي لغة التعبير عن الأفكار والرؤى، والإنسان بأمس الحاجة إلى عملية التواصل لأنه ابن اللغة.
د. مصطفى حجازي
واستعرض حجازي تجربة بهذا الشأن أجريت في كندا على مجموعة من طلبة إحدى الجامعات المعروفة، وتم اختيار الطلبة الذين لا توجد لديهم إمكانات مادية، والذين يعملون في المطاعم من أجل دفع أقساطهم الجامعية وتأمين مصروفهم اليومي، حيث عُرض عليهم أن يتركوا عملهم لفترة من الزمن ويشاركوا في تجربة علمية لقاء أجر مادي، مفادها أن يسكنوا في غرف عازلة للصوت ومجهَّزة بكل وسائل الراحة ما عدا المثيرات الصوتية. إلا أنّ معظم الطلبة المختبرين لم يتحملوا أكثر من يومين أو ثلاثة، وانسحبوا من التجربة وعادوا إلى العمل في المطاعم، واعتبروا أنّ التواصل والتفاعل مع الآخرين أفضل بكثير من العيش في هذه الغرف. أما الذين استطاعوا أن يستمروا في هذه التجربة وهم قلة، فتبيّن أنهم شعروا بهلاوس واضطرابات عقلية وذهنية، وهذا يدل على أهمية الكلام في التواصل، فالإنسان هو ابن اللغة وهو مصنوع من اللغة، واللغة هي التي تصنع رؤاه وكيانه.
وأضاف: “من هنا يأتي الارتياح إلى الأنغام والأصوات الرخيمة والتلاوات والأناشيد التي تريح النفس والقلب وتبعد الاضطراب والتوتر. فعلى الرغم من كل التطوُّرات، يبقى صوت اللغة اللازمة الأساسية، والثابت الذي لا يتغيَّر، ونحن اليوم لا نعود إلى هذه اللغة، وإنما هي التي تفرض ذاتها على هذا العالم الذي يحتاج باستمرار إلى التواصل والتخاطب”.
ثم تناول حجازي ثورات التواصل اللغوي بدءاً من اختراع الأبجدية التي أحدثت نقلة نوعية في الحياة البشرية، حين تمكَّن الإنسان من تسجيل حضارته، مروراً باختراع الكتابة التي أسهمت في نقل العلم والمعرفة، ثم اختراع المطبعة التي نقلت البشرية من المخطوطات إلى الكتب، وأحدثت ثورة هائلة في انتشار المعرفة وحفظ التاريخ، وصولاً إلى الثورة الرقمية التي يسّرت ولادة الإنسان الجديد، وفتحت آفاقاً كبرى من التسهيلات والإمكانات والتقنيات لتسهيل حياة الإنسان وتعزيز قدراته.
اللغة باتت مشكلة كبرى تستدعي تدخلاً سريعاً
والتواصل الرقمي أصبح لحظياً
قصير المدى
غير أن حجازي توقّف أمام اللغة الشفهية عند الجيل الجديد والرقمي، ورأى أنّ “هناك مشكلة كبرى وتحتاج إلى علاج وتدخّل سريع، وهي مشكلة التواصل عند هؤلاء الشباب الذين ابتكروا لغة خاصة بهم. فهي توليفة من اللغة العامية واللغة الإنجليزية والتعابير المختلفة، إضافة إلى استخدام الأيقونات للتعبير عن الوجدانيات. فالفصحى تدهورت كلياً عند هذا الجيل في تواصله الرقمي. وهذا ما سيؤدي إلى صنع ثقافة جديدة عند هؤلاء الشباب، تهدِّد بفصلهم عن الهوية الوطنية وعن التاريخ والذاكرة، وهذه مسألة خطيرة”.
كما لفت أيضاً إلى أنّ “التواصل الشفهي والرقمي عند الشباب أصبح تواصلاً لحظياً قصير المدى يفتقر إلى التركيز، وتلاشى الجهد والوقت الكافي للتفكير التحليلي والنقدي والاستقصائي والتشخيصي الذي هو أساس التفكير العلمي. وهذه أيضاً مسألة خطيرة، لأنّ معظم هؤلاء الشباب أصبحوا حتى في أبحاثهم يعتمدون على النسخ واللصق من دون أي جهد بحثي. وهذا سيخلق مشكلة في تكوينهم الفكري. ودعا حجازي إلى ضرورة الانتباه إلى هذه المشكلة والتحرُّك فوراً لإيجاد حلول لها، والعمل على عدم انفصال هؤلاء الشباب عن هويتهم وتاريخهم وعن كيانهم.
وفي ختام مداخلته أكد حجازي ضرورة وضع استراتيجيات وطنية للتعامل مع التواصل الرقمي وخوارزمياته وبرمجياته، وتأسيس مشروع وطني عربي لتبسيط اللغة العربية تماماً كما حصل مع اللغة الإنجليزية، حتى تصبح لغة سهلة التعامل والتداول. وإضافة إلى ذلك، “العمل على تغيير مناهج التعليم العربية والتحوّل من التعليم التلقيني المعزول عن الحياة إلى التعليم العلمي والتفكير النقدي وتعلُّم أسس البحث العلمي حتى نتمكَّن من تكوين الذهنية العلمية في التفكير والتعامل مع وقائع الحياة، ليس من موقع العابر كما هو حاصل اليوم، وإنما من موقع العارف والمسؤول”.
بين الكلمة المكتوبة والصورة والصوت
لا انتصار لأي منها على الآخرَين
ثم تحدثت الدكتورة سوسن الأبطح عن الأسباب التي دفعتها إلى كتابة مقال “العودة إلى الصوت”، مشيرة إلى أنّها عند متابعتها لمنصة “سبوتيفاي” التي تقدِّم عديداً من البرامج في المجال السمعي، لاحظت أنّ المنصات بدأت تتنبَّه إلى الصوت باعتباره جاذباً للمستمعين، بعد أن جرى الظن بأن الصورة هي التي تجذب العالم وتسيطر عليه في مختلف المجالات وأنها بحضورها وأهميتها وجذبها لانتباه الإنسان ستكون هي الرقم الأول بلا منازع. لكن تبيّن مع مرور الوقت أنّ ليس هناك شيء اسمه انتصار الصوت أو انتصار الصورة أو انتصار الكلمة.
ورأت الدكتورة الأبطح أنّ وسائل التواصل الرقمي تكشف إخفاق المناهج العربية في مواجة التطوُّرات، وقالت: “نحن في عصر يطرح تساؤلات كثيرة، والآلات الذكية تحتاج إلى عقول أذكى، فلا يجوز أن تكون الآلة أذكى من عقل الإنسان الذي يتعامل معها. وقالت إن بحكم تجربتها في تدريس مادة المعلوماتية المتخصصة التي تتمحور حول المعلوماتية واللغة، المعلوماتية والأدب، المعلوماتية والحضارة، ترى الطلاب يسألون طوال السنة لماذا نحن في قسم الأدب العربي ندرس المعلوماتية واللغة، كما ولو أن الأذهان لا تتقبَّل التغيير، وهذه مشكلة، خصوصاً أنّ الإنسان مقبل على التعامل مع آلات وتقنيات جديدة تحتاج إلى عقول غاية في المرونة والديناميكية، وليست العقول التلقينية التي تتشكَّل اليوم في الجامعات.
واعتبرت الأبطح أنّ التكوين الفكري الحاصل في الجامعات العربية لا يواكب متطلبات العصر. فطبيعة التعليم لا تجاري التطوُّرات، لا بل صارت تتقهقر عما كانت عليه سابقاً، وباتت أقل ليونة مما كانت عليه. وبخصوص التفكير النقدي، رأت أنّ التعامل مع التقنيات الجديدة يحتاج إلى تفكير نقدي لمواجهة الأفكار المغلوطة والشائعات التي تبث الأحقاد والضغائن والعنصرية، وكل التهديدات التي تأتي من هذه الوسائل، وتدخل عليها الجموع من دون تنظيم. فنحن نحتاج إلى طريقة في التفكير تكون انتقائية، حيث نستطيع أن ننتقي الجيد من الرديء والخطير من غير الخطير.
التحضر يستدعي التدوين، ونحن لم نتخلّ عن التدوين، ومشكلتنا اليوم ليست مع الشفاهة بل في المضمون والاستفادة من تراكم المعرفة.
د. سوسن الأبطح
الإعراض عن الصوت لصالح
اللحاق بـ”موضة” اختيار وسيلة التواصل
ثم أشارت المتحدثة إلى أنّ هناك نوعاً من “الموضات” في وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت مثلاً بفيسبوك وتويتر على مدى عشر سنوات، ثم جاءت “موضة” الانستغرام ثم تيك توك.. والآن بدأت تقنية وسائل التواصل السمعية تنتشر وتأخذ مكانتها بشكل كبير، إذ تحاول الوسائل القديمة أن تُدخل السمعيات إلى برامجها، لأنها أصبحت مطلوبة وتجذب الناس. ولفتت إلى أنّ للعرب خصوصية في التعامل مع هذه الموضوعات، “إذ أصبحنا لا نُعنى بالصوت حتى في الإذاعة، ونستمع إلى مذيعين ومذيعات ليست لهم أصوات جيدة، فأعرضنا عن الصوت إعراضاً رهيباً، ولم نعد نهتم أو ننتقي الصوت الجميل كما كنا نفعل في الماضي”.
وعبّرت الأبطح عن خشيتها من هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث يجري الانتقال من وسيلة تواصل إلى وسيلة أخرى بالمضامين نفسها من دون أي تغيير يذكر، علماً أن الوسيلة ليست الغاية، لكن المهم ما نستخدمه في هذه الوسيلة أو تلك. وقالت: “أنا أتابع “الكلوب هاوس” منذ انطلاقته حتى الآن، ولاحظت أنّ المجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي ما زالت هي نفسها، تتنقل بين وسيلة وأخرى بنفس المضامين والثرثرات، كأننا انتقلنا من المحتوى في التويتر مثلاً بكل ما فيه من فوضى إلى الكلوب هاوس، وربما بعد ذلك إلى البودكاست. وبالتالي نحن في حالة تغيير الأطر والوسائل ومحاولة تعبئة مضامين لا تتغيَّر كثيراً من مكان إلى آخر.
ومن المشكلات الكبيرة التي تواجهنا أمام كلّ هذا المشهد، تضيف الأبطح، هي أننا فعلاً عراة من فهم الظواهر بشكل علمي وصحيح. “فما هو عدد الدراسات حول كيفية استخدام المصريين لفيسبوك؟ وهل من فرق مثلاً بين استخدام المصري والسعودي لفيسبوك؟ لماذا يستخدم السعوديون تويتر؟ ولماذا يذهب اللبنانيون إلى فيسبوك؟ لماذا كل من له علاقة بالطبخ والموضة والسفر يتواجد على الانستغرام، فيما يذهب الكتّاب إلى مكان آخر؟ نحن نعيش في عصر سريع جداً ولا نتابعه ونواكبه بدراسات نقدية أو محاولات لفهم ما يجري من حولنا. هناك سؤال ليس له جواب: هل طبيعة المضمون الذي يقدِّمه الفرد الواحد على فيسبوك أو تويتر أو كلوب هاوس يختلف من وسيلة إلى أخرى؟ هل صحيح أنّ تويتر بكلماته المعدودة يحفّز الكراهية والعنصرية والتباغض؟ إن غالبية الذين يدرسون العلوم الاجتماعية في العالم العربي يتناولون الظواهر السياسية، ولا يهتمون كثيراً بالظواهر الاجتماعية رغم ما تشكِّله من خطر. وعلى سبيل المثال، استمعت إلى بعض الفرنسيين يتناقشون في منصة كلوب هاوس، ويرون أنهم في هذه المنصة ومع الصوت قد وجدوا شيئاً من الأمان والحماية، واعتبروا أنّ العودة إلى الصوت هي عودة إلى العقل، وأنّ وجود الصورة يجعل الإنسان مشتتاً”.
السعوديون والبودكاست..لماذا؟
ورداً على سؤال لماذا يُعدُّ السعوديون من أوائل الذين استخدموا البودكاست؟ قالت الأبطح: أذكر أن المرَّة الأولى التي سمعت فيها عن البودكاست كانت من خلال شخص سعودي زارنا في منزلنا وأراد أن يسجِّل مقابلة مع زوجي، وقال إن لديه “بودكاست”. لم أكن قد انتبهت إلى ذلك من قبل. فلماذا في مجتمع مثل المجتمع السعودي تكون هناك ظواهر وإقبال على وسائل مختلفة عن تلك مثلاً التي نراها في المغرب أو في مصر؟ علماً أنّ هذه المجتمعات ذات جوامع ومشتركات كثيرة. هل مثلاً لأنّ المجتمع السعودي محافظ جداً ويفضّل عدم إظهار الصورة؟ لا أعرف، ولكن المثير جدّاً للاهتمام أن يجري البحث في كثير من هذه الموضوعات، فلربما نستطيع أن نصل إلى إجابات قد تساعدنا في التعامل مع وسائل التواصل في الفترات المقبلة.
وأضافت: إذا أردنا القيام بأي دراسة، فهناك مشكلة تعترضنا دائماً وهي عدم توفُّر البيانات. لماذا لا نفعل مثلما فعل الصينيون الذين ابتكروا برنامجاً خاصاً بهم هو “ويشات” بدل فيسبوك، ومنعوا التعامل مع غوغل. لقد اعتبرناهم في هذا السلوك ديكتاتوريين، لكنهم صراحة استطاعوا أن يحصلوا على بيانات المجتمع الصيني بكامله. ويمكن الوصول إلى كثير من الاستنتاجات بمعرفة بيانات وسائل التواصل.
ورأت أنّ التلفزيون والكتاب والإذاعة سقطوا اليوم ضحية وسائل التواصل الاجتماعي. ولفتت إلى أنّ الكتاب لا يزال محافظاً على مكانته في المجتمعات الغربية، ويعيش جنباً إلى جنب مع وسائل التواصل من دون أي مشكلة، أما نحن فنتخلص سريعاً من الوسائل القديمة لأجل الوسائل الجديدة. ولاحظت أن جرائدنا ليست لديها تسجيلات صوتية على الرغم ممَّا تملكه من إمكانات، وحتى إذاعاتنا، أما لو أخذنا مثلاً الإذاعات الفرنسية فسنجد أنها تبث برامجها وتقدِّمها على منصة البودكاست، كذلك تقدِّم أيضاً البرنامج الإذاعي مرئياً، بمعنى أنّ كلّ السبل التي باتت متاحة تسير بموازاة بعضها بعضاً، ولا يتم التعامل على اعتبار أنّ هناك الآن “موضة” للصورة ننسى فيها الصوت، أو موضة الصوت ننسى فيها الصورة.
وبخصوص الشفاهة التي هي الأقرب إلى طبيعة الإنسان وبداهة التعامل، قالت الأبطح: “إن الدخول في التحضر يستدعي التدوين، ونحن لم نتخلّ عن التدوين، لكن مشكلتنا اليوم ليست بالشفاهة بل بالمضمون والأرشفة وبالاستفادة من تراكم المعرفة. ما ينقصنا فعلياً هو معرفة مراكمة المعلومات والاستنتاج من هذه المعلومات. هذه هي أزمة الثقافة العربية الكبيرة”.
وفَّرت المنصات الإلكترونية للشباب فرصاً ما كانوا ليحظوا بها في أي مكان آخر، من حيث المشاركة والتفاعل والتعبير والبوح وتحقيق الأحلام.
فرح آل إبراهيم
محتوى البودكاست نخبوي وعميق
يعكس تطلعات الشباب وقدراتهم الهائلة؟
أما الأستاذة فرح آل إبراهيم فقد عبّرت عن وجهة نظر مغايرة لمداخلات المشاركين في الجلسة حول مستوى المضمون والمحتوى السطحي والخجول، وأصرّت على أنّ في منصة البودكاست يوجد محتوى نخبوي ذو عمق ورؤية تعكس تطلعات الشباب وقدراتهم الهائلة وثقافتهم المميزة.
وقالت: “انطلاقاً من موقعي كمديرة المحتوى الرقمي في قناة العربية أتيحت لي فرصة التعرُّف على هؤلاء الشباب والتعاون معهم. واتضح لي أنهم يكتبون أفضل من الذين يعملون في قسم التحرير والأخبار، وهم متمرسون في الكتابة، ويتناولون مختلف القضايا والموضوعات بأسلوب مميز ولغة راقية. إن المحتوى الذي تقدِّمه وسائل الإعلام التقليدية يخضح لاعتبارات وخطوط تضعها المؤسسة، أما صنّاع المحتوى خارج المؤسسات التقليدية فيتميزون بحرية أكبر، ويقدِّمون أعمالهم بطريقة سهلة ومبدعة، فقد وفَّرت هذه المنصات للشباب فرصاً ما كانوا ليحظوا بها في أي مكان آخر، من حيث المشاركة والتفاعل والتعبير والبوح وتحقيق الأحلام”.
وأشارت إلى أن قناة العربية كمنصّة تقليدية، استفادت كثيراً من تجارب هؤلاء الشباب ومواهبهم وإبداعاتهم، وقد تم إنشاء استديوهات خاصة بهم لإنتاح المحتوى، ووضع استراتيجيات تحاكي رؤيتهم وطموحاتهم.
إن ما حصل في العالم العربي هو أن المنصات التقليدية هي التي تبعت الأفراد في موضوع البودكاست، أما في الغرب فهناك تجارب مختلفة، ونذكر فرنسا على سبيل المثال، حيث بدأ البودكاست من خلال المؤسسات التقليدية مثل الإذاعة والراديو ثم لحق بها الأفراد والمواهب.
ثم تطرَّقت إبراهيم إلى ميزات البودكاست، ومنها سهولة إنشاء الملفات وإنتاج المحتوى، حيث يمكن لأي شخص أن ينشئ بودكاست خاصاً به إذا توفَّر لديه موبايل أو حاسوب. وبإمكانه أيضاً أن يتحدث في أي موضوع يشاء، وهذا ما جعل الأفراد يتوجهون أكثر إلى البودكاست لتسجيل أصواتهم والتحدث عما يشاؤون.
وأكدت أنّ البودكاست يشهد نمواً ملحوظاً، حيث قامت منصة “سبوتفاي” في العام الماضي باستثمار نحو 800 مليون دولار في هذا المجال. وهذا يدل على تبلور رؤية واضحة في التوجه نحو صناعة المحتوى السمعي.
البودكاست العربي الناجح.. بالإنجليزية!
لكن المثير للانتباه بحسب فرح هو أنّ البودكاست الناجح الذي ينتجه الشباب العربي هو باللغة الإنجليزية، كما أن أشهر منصات البودكاست في العالم العربي، التي تحصل على متابعات مليونية، هي أيضاً باللغة الإنجليزية. وهنا السؤال يفرض نفسه: لماذا لا ينتج العرب محتوى باللغة العربية؟.
وأشارت إلى أن هناك كثيراً من أنواع البودكاست التي تنتشر في العالم، منها المقابلة الشخصية أو المحادثة بين شخصين أو سرد قصة أو قراءة مقال.. وهناك أيضاً الكتب الصوتية التي تقدِّمها بعض المواقع الإلكترونية وهي تشهد اليوم رواجاً كبيراً، إلا أن تجاربها ما زالت متواضعة في العالم العربي وتحتاج إلى دعم وتطوير.
وبعد ذلك تحدثت عن الكلوب هاوس، واعتبرت أنه انطلق فجأة ثم انتشر بسرعة بفضل المشاهير الذين يروّجون له. وذكرت أنه يحوي كثيراً من غرف المحادثة المميزة، غير أنّ هناك توقعات من الخبراء تشير إلى أنّ هذه المنصة قد تغلق أبوابها قريباً إذا لم تعمد إلى تطوير برامجها لمواكبة التغيّرات، ذلك لأنّ تويتر سارع بعد إطلاق الكلوب هاوس إلى تدشين الخدمة نفسها، واستطاع أن يجذب الجمهور نظراً لتعدّد المحتوى وتنوّع الخيارات.
وأضافت: نحن كمنصة إعلامية نستثمر أكثر في فيسبوك لعرض المحتوى لأنه يجلب مشاهدات أكبر. لكن مع زيادة وتوسع البودكاست ستلجأ الوسائل الإعلامية إلى الاستثمار فيه على أسس وأطر صحيحة غير عفوية.
المشاركون في الجلسة
د. مصطفي حجازي
كاتب ومفكر ومتخصص في علم النفس، وتحديداً في مجالات الشباب والتغير السلوكي. له أكثر من 15 كتاباً في علم الاجتماع وعلم النفس من أشهرها “التخلف الاجتماعي” و”الإنسان المهدور”.
د. سوسن الأبطح
أستاذة آداب اللغة العربية في الجامعة اللبنانية. كان مقالها “العودة إلى الصوت” المنشور في جريدة الشرق الأوسط في 12 فبراير 2021م دافعاً إلى عقد هذه الجلسة.
الأستاذة فرح آل إبراهيم
خبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومديرة المحتوى الرقمي في قناة العربية، وهي على صلة وثيقة بهذه التقنية ووسائطها والأشكال المختلفة التي تتخذها.
الحضارة الرقمية لا تنتظر أحداً
ومن فاته اللحاق بها خرج مهزوماً
بعد إلقاء المتحدثين الثلاثة لكلماتهم، تبادل هؤلاء بعض الأفكار والتعقيبات. ومن أبرز ما جاء في هذا الإطار قول الدكتور حجازي: “حريّ بنا نحن العرب ألَّا نبقى مجرد مستهلكين غير منتجين، أو مجرد تابعين للموضة تلو الأخرى. هذه قضية وطنية ومستقبلية تفرض علينا العمل بجهد لتسخير كل هذه التقنيات، خصوصاً وأن لدينا الإمكانات والطاقات البشرية والمادية، لكن تنقصنا القرارات المهمة حتى نكون منتجين ومشاركين. ومن الضروري أيضاً أن يكون لدينا موقف يخدم مجتمعاتنا ومصيرنا وأجيالنا القادمة، يتمثل بوضع استراتيجيات جديدة تستوعب العصر الرقمي، لأن الحضارة الرقمية لا تنتظر أحداً ومن فاته اللحاق بها خرج مهزوماً، من هنا يجب أن يكون لدينا صوت قوي كي نستطيع أن نستعيد جمهورنا”.
المنصّات تصنع نفسها بنفسها
أما الأستاذة آل إبراهيم فرأت أن أي منصة جديدة هي التي تصنع نفسها بنفسها، وتتشكَّل بحسب الإقبال عليها والمشاركة فيها. ونحن على سبيل المثال عندما نصنع أي محتوى إعلامي جديد نحدّد من خلاله الجمهور المستهدف، ولكن بعد انطلاقته وانتشاره نتفاجأ بأن الجمهور الذي تفاعل معه غير الذي كان مستهدفاً. أما تويتر فلم يكن الهدف منه جذب أصحاب القرار والحكومات، إلا أنّ الجمهور هو الذي صنع منه ذلك، فلماذا نضع أسساً وأطراً لأي محتوى كان؟ ربما الأفضل أن نترك الخيار للجمهور، ونوفِّر له حرية أكبر.
أما المداخلة الأخيرة، فكانت للدكتورة الأبطح التي قالت: “بين الحرية والفوضى هناك شعرة واحدة، وأعتقد أننا في العالم العربي لسنا في وضع حرية بقدر ما نحن في حالة فوضى، أنا مثلاً تابعت مسألة الأدب على الإنترنت في الصين، حيث أنشأ الناشرون منصات كبيرة مخصصة للشباب، وقد طلبوا منهم المشاركة بإبداعاتهم، ونظموا في هذا الشأن عدداً من المسابقات والجوائز، واليوم غالبية الأدباء المعروفين في الصين هم من إنتاج هذه المنصات. أما عندنا فقد نشر الشباب قصائدهم وخواطرهم ونصوصهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتاهت هذه الأعمال والمضامين. لقد أضعنا كثيراً من النصوص كان من الممكن تطويرها. علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين في هذا المجال، وأن تعنى المؤسسات أكثر بالمحتوى الرقمي لأنه لا يكفي الاعتماد فقط على الجهود الشخصية”.
وفي الختام، أشار مدير الجلسة إلى أنّ القافلة بدأت منذ ثلاثة أشهر تقريباً بإنتاج البودكاست الصوتي، وأكد أن هذه التجربة المميزة ستثري الثقافة والأدب وتسهم في نشر المعرفة، خاصة وأنّ هناك تعاوناً ما بين القافلة وقناة العربية في نشر المحتوى الذي تنتجه المجلة على مواقع القناة الإلكترونية ومنصاتها المختلفة.
اترك تعليقاً