ما الذي نعنيه بـ “الثقافة” اليوم؟
في سياق تتبع دلالة المفردة عبر الزمن، يذكر المعجم التاريخي للغة العربية أن “الثقافة: قَدرٌ من العلوم والآداب والفنون ونحوها”. ويستشهد لذلك بقول ابن الصَيقل (701هـ/1302م): “سبحان من سلَبَ سنا حسّك السليم… وأحوجَ عَوَج نفسِكَ إلى ثقافة التعليم”.
بالتأمل في هذا التعريف، يمكن ملاحظة أنه يُغفِل جزءًا مهمًا من دلالة اللفظ، ويعزل المفردة عن جذرها الذي اشتُقت منه. فبتتبع التفرعات الأخرى للجذر في المعجم نفسه، يبدو أن استخدام اللفظ لهذا المعنى بدأ بـ “الاستعـارة”، والأقرب أنها أُخذت مباشرة من “ثقَّفَ” الرمح أو السيف، أي هذّبه وأصلح عوجه؛ وهذا هو الجوهر الذي يدور حوله معنى الثقافة في أصله العربي. وبتعبير آخر، لا تستحق “العلوم والمعـارف والآداب” أن نُطلق عليها لفظ “ثقافة”، إلا إذا كانت في حصيلتها كافية لتؤثِّر تهذيبًا في متلقيها. أليست لغتنا كائنًا جميلًا يضج بالحياة والوعي؟! وكم هي مذهلة تلك الدلالات المضمرة في نواة اللفظ، والتي تنسجم مع اعتبار الثقافة اليوم “قوة ناعمة”!
بالعودة إلى مفردة “الثقافة”، يمكن أن نقول أيضًا إن التعريف السابق لم يعد يلمّ اليوم في إهابه باتساع المعاني التي يختزلها اللفظ. هذا الاتساع يأتي من واقع “العولمة”، مع نكهة واضحة يُضفيها الجانب الغربي من العالم الذي يفرض منطقه ولغته على جلّ الأشياء، ومنها تصدير “الثقافة” بمفهومه الخاص. يُعرِّف معجم “ميريام ويبستر” لفظ الثقافة (Culture) على أنها: المعتقدات السائدة والأنماط الاجتماعية والسمات البارزة التي تختص بها مجموعة عرقية أو دينية واجتماعية. ونلاحظ هنا أن التعريف توصيف محض لما تتّسم به مجموعة ما، فهو يهمل أيضًا “الهدف” في إطار تحديد المفهوم. لكن هنالك تعريفًا آخر يذكره المعجم للمفردة، وهو: “التنوُّر وتجويد الذائقة التي تحصل بالتدريب الفكري والجمالي”؛ وفيه نجد فكرة الغاية والهدف التي يمكن أن تتضمنها “الثقافة”!
تترتب على الاختلاف في الدلالة بين التعريفين آثار عميقة في نطاق الاستعمال اللغوي، وكذلك في مجالات الفهم والتلقي والتبني لمفهوم الثقافة في الحياة. لكننا لن نتوقف عند ذلك، وسنكتفي بمحاولة مزاوجة بيضاء بين التعريفين، ننطلق منها في فهمنا للثقافة واستقبالنا لها. فالثقافة بدلالاتها السابقة قائمة على الاختلاف والتباين؛ على وجود الأنا والآخر في الوقت نفسه. وهي بذلك تتضمن وعيًا بالذات واعتزازًا بالهويّـة، مع انفتاح جاد على الآخر لفهمه والتواصل معه والاستفادة منه. إنها بذلك “ثقافة” لا تنقطع عن أصلها، ولا تنغلق على نفسها. وهي أيضًا سعيٌ إلى غاية سامية، تبدأ بالذات فتنعكس عليها، وتمتد إلى الآخر تأثرًا وتأثيرًا واستنارة وتنويرًا.
ومن هذا المنطلق، بوسعنا أن نعتزّ بما تبذله وزارة الثقافة السعودية في سبيل تفعيل المعاني الإيجابية التي يمكن أن تختزلها “الثقافة”. ولأن المقام ليس مقام الحصر، نكتفي من ذلك بمثال. ففي مبادرة الاحتفاء بموضوع ثقافي كلَّ عام، كما هو عام الإبل 2024م، نلمس توجهًا واضحًا إلى الاعتزاز بالذات وإبراز الهوية. وفي مقابل ذلك، نلمس جهودًا واضحة للانفتاح على الآخر، من بين آخرها إطلاق “جائزة محمد بن سلمان” للتعاون الثقافي مع الصين.
الثقافة تعارفٌ وتثاقف، وحوار وتواصل وتآلف؛ إنها نوافذ مشرعة وأبواب مفتوحة، وطرق تُمهّد وجسور تُبنى. بتلك النية بدأت القافلة، وهكذا تأمل أن تواصل رحلتها. ومثلها انطلقت قبلها أختها الإنجليزية “أرامكو وورلد”، التي تحتفي هذا العام بمرور 75 عامًا على إطلاقها عام 1949م. وبهذا المناسبة، نحيط عناية القرّاء أن القافلة تنشر على موقعها الإلكتروني مقالات مترجمة تنتقيها من مجلة “أرامكو وورلد”، ومن بينها سلسلة مقالات تستكشف حضور الإبل في الثقافة؛ عسى أن يُورق بها غصن نضر في شجرة العربية.
لا بُد لمشهد الثقافة أن يتسع لمراكب متعددة تُجدِّف في بحر هذا الوجود، بحثًا عن مرفأ يؤوي الإنسان من الغرق. وفي هذا العدد، يطّلع القارئ على ملف “المركب”، الذي يمثِّل رمزًا حاضرًا في العديد من الثقافات حول العالم، كما هو كذلك في منطقة الخليج العربي. اختيار “المركب” يأتي اعتزازًا بالهوية وانفتاحًا على الآخر، ويتواءم في المكان والزمان مع انطلاق النسخة الخامسة من مبادرة “الشرقية تُبدع”، وهي شراكة مجتمعية تحتفي بالإبداع من عمق المنطقة الشرقية من المملكة.
اترك تعليقاً