الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يمتلك خاصية التواصل من خلال مزيج من الأصوات الاعتباطية المجرَّدة التي باستطاعتها أن تمثل الواقـــع. وتشكِّل هذه الأصوات والرموز نظاماً معققَّداً ومنضبطاً يسمّى “اللغة”، وهي القدرة على فهم الذات والآخر والقدرة على التعبير عن الأفكار. فإذا كنا لا نستطيع تصوُّر كيفية تمثيل الأفكار عند الآخر لا يمكننا أن نتقدَّم بعملية التواصل. فاللغة هي فهم الآخر ومعرفة قدرته على الفهم، وهي تتجاوز تصوّر الذات وتصوُّر الآخر إلى تصوُّر العالم.
ضاعف تطوُّر أدوات قياس حركة الدماغ من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي من قدرات الباحثين في التعرف على عديد من الأمور المتعلقة باللغة، خاصة وأنها تشكِّل كفاءة تتمتع بها كافة الأجناس البشرية. وهذه الكفاءة التي تطوَّرت منذ آلاف السنين لها أدوات هيكلية عصبية فيزيولوجية يراقبها الباحثون من خلال الرنين المغناطيسي. فالتواصل موجود عند كافة الكائنات الحية (مثلاً عند تواصل الأم مع أطفالها)، أما ما يميز التواصل عند الجنس البشري فهو إمكانية التوافق على الإشارات التعبيرية لتصبح معياراً يحدِّد معنى معيناً.
تبدّل التعبير اللغوي بتبدّل بيئاته
تبيِّن كافة التجارب التي أجريت على حديثي الولادة أن الطفل حساس أكثر للغة والدته، ويتفاعل معها. وأن لدى الطفل في عمر الخمسة أشهر إحساس بأنه هو كائن بذاته. ولكي تصبح اللغة هي الدال على كينونته يجب عليه أن يتمتع بالنضج العصبي وأن يغوص في البيئة الثقافية واللغوية المحيطة. ولكن هل تنتج اللغة آثاراً خاصة في علاقتها مع العالم؟ الجواب نعم، إذا اعتمدنا على كيفية رؤية العالم من خلال اللغة. فمثلاً عندما نقلِّد لغة الأطفال ونقوم بإشارات وحركات تعبيرية، يهتم الأطفال لما نقوله ويستمعون له لمدة أربع دقائق. ولكننا عندما نتواصل معهم بكلام جدي يفقدون انتباههم. وتوجد كلمات تشكِّل وتصف التصورات الذهنية عند الأفراد الذين يتشاركون لغة معيَّنة. ففي التسميات على سبيل المثال، نجد أن لكلمة “ثلج” عند العرب صورة ذهنية واحدة، أما عند سكان الإسكيمو فالصور متعدِّدة، حيث يكون لكل شكل اسم خاص به للتعبير عنه. كذلك الأمر بالنسبة لتسمية “جمل”، ففي اللغة العربية توجد عدَّة تسميات تحدِّد شكل الجمل، أما في اللغات الأجنبية فلا يوجد إلا كلمة واحدة أو اثنتين على الأكثر. كذلك الأمر بالنسبة للجهات والألوان. وعلى سبيل المثال، تميّز بعض اللغات لوناً يقع بين الأزرق والأخضر، ولكنه غير موجود في باقي اللغات. يمثل هذا التأقلم مع العالم الخارجي الواقع الإنساني من خلال الكلمات التي يستخدمها الفرد. إضافة إلى ذلك، نذكر أن المجموعات الاجتماعية لها معايير سيميائية خاصة بها تمثل أموراً تصبح قواعد اجتماعية في التمثيل الرمزي للمجتمع. ونذكر على سبيل المثال كلمة “بومة” التي توحي بالتشاؤم عند الآسيويين والعرب، بينما هي رمز للتفاؤل عند الأوروبيين. لذلك لا يمكن تمثيل الصور نفسها في السرد القصصي. فالكلمات تُرى حسيّاً وتُدرك، وبإمكانها أيضاً أن تؤلف قصة غير حقيقية: ويسمّي بوريس سيريلنيك هذه الظاهرة بالحماس الثقافي الذي يجعل الناس يختبرون بالفعل في أجسامهم الشعور الذي تثيره القصة الخيالية. من هنا يأتي بروز الأساطير التي تسمح بتواصل الثقافات وتفاعلها.
كلمات لغة الأم وحدها
هي التي تحرِّك اللاوعي
يخلق وقع الكلمات شعوراً عند البشر. مثلاً، في لغة القرآن الكريم، يختلف وقع الكلمات حسب الأفراد، فلفظ الجلالة “الله” عز وجل، لا تحرِّك ذات الخلايا العصبية عند غير المتكلمين بالعربية حتى وإن كانوا مؤمنين. لهذا فإن الكلمات التي تحرِّك المشاعر في اللاوعي هي كلمات اللغة الأم. فاللغة ليست في الأشياء بل في الكائن الذي يستخدم الأشياء ويعطيها معنى. وعندما يعطي الطفل معنى لكلمة معيَّنة، يعطيها حسبما اكتسبه من محيطه أو حسبما تمليه عليه مخيلته.
وفيزيولوجياً، يمكن القول إن لدى جميع الأطفال إمكانية التلفظ بكافة الأصوات اللغوية المحتملة. ولكن مع مرور الزمن، ومع محدودية الأصوات المكتسبة تتضاءل إمكاناته، فعند سماع كلمة “سيذهبوا” يتصور الذهن، من خلال هذه الفونيمات، الإطار الزمكاني لفعل الحركة: الـ “سين” للمستقبل و “الياء” للحاضر المستمر و “ذهب” للحركة والـ “واو” للتعبير عن الجمع.. هكذا يجري بناء صورة للعالم من خلال استخدام الرموز التي تشكِّل اللغة. وهذه اللغة تكون مختصرة نظراً لمحدودية قدرة الإنسان على الحفظ، وهذا الاختصار اللغوي ضروري لتمثيل المعرفة، ولولا ذلك لكان من الصعب التعبير عن كل شيء بالكلمات كافة. وفي الصدد نفسه، نشير إلى أن التذكر يرتبط بالشعور والعاطفة. فعلى سبيل المثال، إذا سألنا الناس في بيروت عما كانوا يفعلون بعد ظهر 4 أغسطس 2020م (تاريخ انفجار المرفأ)، ستجيب الأكثرية الساحقة بشكل مباشر، بينما إذا اخترنا تاريخاً آخر مثل 31 يوليو، فلن يجيب إلا قلة قليلة.
هل يفكِّر متعدّدو اللغات بشكل مختلف عند التحدث بلغات مختلفة؟
تبيَّن من خلال التجارب أن الذين يتحدثون لغتين، اللغة الأم ولغة أخرى مكتسبة، تكون كتاباتهم أكثر تحديداً وتكون شبه خالية من الصور الذهنية. كما تظهر الأبحاث العلمية الحديثة أننا نتصرَّف بشكل أكثر عقلانية، وبالتالي أكثر فاعلية عندما نفكِّر بلغة أخرى. كما يستفيد الأشخاص ثنائيو اللغة من مزايا متعدِّدة كفرص عمل أفضل وتحفيز معرفي، ويمكنهم أيضاً رؤية العالم بطرق مختلفة اعتماداً على اللغة المحدَّدة التي يستخدمونها. لا نعرف بالضبط ما الذي يسبِّب هذا التغيير في السلوك عند هذه الشخصية اللغوية المزدوجة. ويذكر “كوستا” عدة أسباب ممكنة: “تجبرنا لغة أخرى على التفكير ببطء. ووجدنا أن العاطفة تتعلق أكثر باللغة الأولى التي نتعلمها”.
وفقاً لـعالِم النفس دانيال كانيمان فإن أدمغتنا تعمل بطريقتين: النظام 1 الذي يعطي ردوداً بديهية أسرع وأكفأ، ولكنه يرتكب أيضاً عديداً من الأخطاء، والنظام 2 الذي يستخدم المنطق.
ووفقاً لـعالِم النفس دانيال كانيمان فإن أدمغتنا تعمل بطريقتين: النظام 1 الذي يعطي ردوداً بديهية أسرع وأكفأ، ولكنه يرتكب أيضاً عديداً من الأخطاء، والنظام 2 الذي يستخدم المنطق. وفي لغتنا الأم، يتم تنشيط النظام 1 بسهولة أكبر. والجهد الإضافي المطلوب لاستخدام لغة أخرى من شأنه أن يوقظ النظام 2، وهو أكثر كسلاً ولكنه أيضاً أكثر منطقية. وهذا يفسر النسبة المئوية للأشخاص الذين لديهم تحيزات معرفية مثل الاعتبارات الأخلاقية أو الخوف من المخاطرة. في سياق آخر، تشير الأبحاث حول الدماغ ثنائي اللغة أيضاً إلى فوائد ملموسة لأولئك الذين يستخدمون أكثر من لغة واحدة. فالتنقل بين الألسنة ذهاباً وإياباً هو نوع من تدريب الدماغ. ومثلما توفر التمارين فوائد بيولوجية للجسم، فإن التحكم العقلي في لغتين أو أكثر يُعدُّ تعزيزاً معرفياً للدماغ. وهذه المرونة الدماغية تؤتي بثمارها، خاصة في سن متقدِّمة، إذ تظهر العلامات المعرفية لاحقاً عند الأشخاص ثنائيي اللغة، فيتأخر ظهور الاضطرابات الصحية المرتبطة بالعمر، مثل الخرف أو مرض الزهايمر، بنحو خمس سنوات.
هل يختلف الواقع باختلاف اللغة؟
يمكن للطريقة التي نتحدث بها أن تؤثر على طريقة تفكيرنا في العالم. ففي بعض لغات السكان الأصليين الأستراليين، بحسب موقع “بي بي سي”، لا توجد كلمات تعني “يسار” أو “يمين” أو “أمامي” أو “خلفي”. فبدلاً من ذلك، يستخدم المتحدثون الأصليون الكلمات “شمال” و “جنوب” و “شرق” و “غرب” حتى في المواقف العادية. وعلى سبيل المثال، أثناء العشاء، يمكنك سماع: “يرجى تمرير الملح إلى الشرق”، وتشير النتائج إلى أن هؤلاء الأشخاص يتمتعون عموماً بإحساس أفضل بالاتجاه. لكن هل يعني ذلك أن “الواقع” يختلف باختلاف اللغة التي تتحدثها؟ اللغة هي وسيلة لتنظيم العالم المبعثر إلى أصناف وفئات من الممكن تحديدها. واللغة هي التي تسمح لنا بتسمية الأشياء لتنظيم العالم. والأسلوب الذي تمثل به اللغات العالم يمكن أن يختلف من لغة إلى أخرى. وهي بالتالي ذات تأثير على رؤيتنا لهذا العالم، فيختلف شرح الأمور ووصفها من شخص إلى آخر.
إن بنية اللغة تتطلَّب منا التعامل مع جوانب معينة من الواقع تكون ذات صلة بلغة ما وقت استخدامها.
تسمّى هذه الفكرة بفرضية التفكير في الكلام، أي إن المتحدثين بلغات متعدِّدة يفكرون بشكل مختلف أثناء تحضير المحتوى الكلامي ذهنياً، وتجبرنا اللغات المختلفة على التفكير في أشياء مختلفة قبل قولها. فإذا طلبنا من شخص عربي ترتيب أجزاء معينة، سيقوم بترتيبها من اليمين إلى اليسار، أما الأجنبي فسيرتبها من اليسار إلى اليمين. كما أن البعض يتصور مرور الزمن من الماضي إلى الحاضر على شكل “أمامنا وخلفنا”، أما في لغة “المندارين” فإنه يراه “أعلى وأسفل”. وهذا يثبت أن تعلم اللغات يوضح لنا العالم من منظور مختلف متنوِّع يمثل الحقيقة الإنسانية.
كيف يمكــن للغتين مختلفتين
أن تتعايشا معاً في الدماغ؟
يكشف التصوير المغناطيسي عن استقلالية الأنظمة الدماغية. فالتحفيز الكهربائي داخل الجمجمة المطبق على مناطق قشرية معيَّنة لا يمنع بشكل منهجي إنتاج لغتين. كما أن الشخص ثنائي اللغة لا يستخدم دائماً المناطق القشرية نفسها لفهم الجمل بهاتين اللغتين. ومن الممكن أن يفقد بعض الأشخاص ثنائيي اللغة استخدام لغة واحدة بعد حادث في الدماغ. وبيَّنت الدراسات أنه كلما كانت اللّغة الثانية مكتسبة باكراً، كانت المناطق الدماغية للفهم والإنتاج المرتبطة باللغتين أكثر تشابهاً.
ورغم الدراسات المتعدِّدة والتطورات التقنية، فإن فهم الدماغ ثنائي اللغة ما زال قيد التجارب، ومن الصعب التعامل مع ثنائية اللغة كظاهرة فريدة بسبب تداخل كثير من المتغيرات مع التنظيم الوظيفي كاللغة التي جرى اكتسابها، العمر، درجة المعرفة، إلخ. ونشير إلى أن الظواهر اللغوية التركيبية في اللغات اللاتينيّة تختلف عن تلك الخاصة باللغة العربية، فهل من الجائز الموازنة بين تعلّم الفرنسي للّغة الإيطالية وبين تعلّمه اللغة العربية؟ وماذا عن تعلّم اللغة الصينية التي تختلف في شكلها عن باقي اللغات وتتطلب تحفيزاً لمناطق دماغية تتعلق بالصورة وبالصوت وبالمعنى؟تشكّل هذه التساؤلات مجموعة من القضايا التي سيكون لها تأثير على تعلّم اللّغات. وفي مقال نُشر في مجلة (Nature Communications)، ذُكر أن التعرض المبكر للغة، يؤثر على كيفية معالجة الدماغ لأصوات لغة ثانية لاحقاً في الحياة، حتى لو لم يعد الفرد يتحدث تلك اللغة. ويتيح هذا الاكتشاف فهم الآليات التي تحكم الأسلاك الدماغية لتعلّم اللغة وكيفية تطوّرها استجابة للبيئات اللغويّة الجديدة. كما يوفّر فهماً أفضل للدونة الدماغ، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تطوير طرق تدريس اللّغات الأجنبية. وتبين من خلال تجارب أجريت على أطفال فرنسيين وأطفال متبنين من قبل فرنسيين ومن خلفيات لغوية فرنسية – صينية، أنه عند سماعهم لكلمات فرنسية زائفة اختلفت المناطق المتفاعلة في الدماغ. فعند الأطفال الفرنسيين الذين لم يتعرّضوا أبداً للغة الصينية، نشطت مناطق الدماغ التي تعالج الأصوات المرتبطة باللغة، وهي منطقة الفص الأمامي الأيسر السفلي والقشرة الأمامية. أما الأشخاص ثنائيو اللّغة وأولئك الذين تعرضوا للصينية في سن مبكرة ثم توقّفوا عن التحدث بها، فقد نشطت لديهم منطقة الفص الأمامي الأيمن الأوسط والقشرة الأمامية الوسطى إلى اليسار.
ومن منظور آخر، بعد دراسة أجريت على عشرين مترجماً إيطالياً من جميع الأعمار، تبيّن أن الدماغ تفاعل بطريقة مختلفة عند محاولة الترجمة من اللغة الأم، مما أدّى إلى زيادة النشاط الكهربائي. أما خلال التعامل مع اللغات المكتسبة لاحقاً، فقد لوحظ تراجع كبير في نشاط الدماغ. ووفقاً للباحثين، تشهد هذه النتائج على التأثير الفريد والدائم للتجارب اللغويّة المبكرة على التنظيم اللاحق للدماغ، فضلاً على قدرة الدماغ على التكيّف مع البيئات اللغوية المختلفة من أجل اكتساب مهارات جديدة في لغات أخرى.
اترك تعليقاً