تشهد مجتمعات العالم منذ ما يزيد على قرن تغيرات واسعة وحثيثة، وإن كانت متفاوتة في حدتها. وتتميز هذه التغيرات بأنها أنهت أساليب حياة كانت قائمة لقرون، بما تعنيه عبارة “أساليب حياة” من أنماط عمل وطرق تواصل وسبل تنظيم ومعايير وقيم وخلاف ذلك. انتهت الأساليب القديمة وحلّت مكانها أساليب حياة تتجه شيئاً فشيئاً لأن تكون متشابهة أكثر عبر العالم، وهذا أحد مظاهر “العولمة”. ويشارك علم الاجتماع في دراسة هذه الظاهرة، أي التغيرات المستمرة، عبر مفهوم متخصص يسمى “التغير الاجتماعي” (Social Change). فما المقصود بالتغير الاجتماعي؟
يُقصد بالتغير الاجتماعي التبدل العميق والمستمر في البناء الاجتماعي. أي، تغيرات في المعايير التي تحدِّد ما هو مقبول وغير مقبول في تفاعلاتنا اليومية، وكذلك تغيرات في الرموز الثقافية ومنظومات القيم ومؤسسات المجتمع، سواء أكانت مؤسسات رسمية، كمؤسسات التعليم مثلاً، أو مؤسسات غير رسمية، كمؤسسة الأسرة. ولو اتجهنا إلى مجتمع في عالم اليوم فسيسهل علينا ملاحظة شواهد على هذا التغير. أي إن التغير الاجتماعي اليوم يعم العالم وبدرجات متسارعة. فما الذي جعل التغير بهذه العمومية وهذا التسارع؟
يعدد علماء الاجتماع عدة مصادر للتغير الاجتماعي، مثل احتكاك مجتمع بمجتمع آخر، فتنتقل سمات ثقافية من أحدهما إلى الثاني، أو حصول تغير ديموغرافي كتزايد في عدد السكان أو تناقص له، أو قيام الدول بمعناها الحديث، حيث إن الدولة الحديثة أداة جبارة لتنظيم المجتمع وفرض نظم جديدة عليه، وبالتالي تغييره. غير أن أحد كبار علماء التغير الاجتماعي، وليم أوجبرن، كان يرى ومنذ ما قبل قرن تقريباً أن التقنية هي العامل الأهم في إحداث التغير الاجتماعي. وتبع أوجبرن عدد من العلماء من مختلف فروع العلوم، ممن يرون التاريخ البشري بوصفه تغيرات في الأسس التقنية للمجتمع، كانتقال المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة، وتحوّل الصناعة من الاعتماد على البخار إلى الكهرباء، ثم الانتقال من التقنيات التقليدية إلى التقنيات الحديثة، والانتشار الواسع للكمبيوتر والأتمتة والذكاء الصناعي. وهكذا أصبح التركيز أكثر على فهم دور تقنيات الاتصال في إحداث التغير الاجتماعي. وأسهمت كتابات مانويل كاستيلز في تقديم فهم أعمق لدور ثورة الاتصالات في جعل التغير الاجتماعي بهذا الشمول وهذه القوة التي لا ترد.
وبالنسبة لنا نحن أهل هذا الزمان، خاصة في المجتمعات التي تعيش رخاء اقتصادياً يُسهّل على أفرادها اقتناء أحدث منتجات الثورة الاتصالية، سيسهل علينا استيعاب مقولة كاستيلز. فالمجتمعات تشهد اليوم تغيرات عاصفة في عاداتها وتقاليدها ومعاييرها. ويقدِّم المجتمع السعودي في المرحلة الحالية أنموذجاً لهذا التغير. فقد شهد مجتمعنا في السنوات الخمس الأخيرة مثلاً تغيرات لم يكن يمكن تصور حدوثها، كالتغير في بنية الترفيه وتمكين المرأة وقيم العمل لدى الأجيال الجديدة واتجاه تواصل الجنسين إلى مزيد من الضبط الذاتي وسبل تواصل الناس مع بعضهم بعضاً وأساليب التعليم والعمل. وتتسم التغيرات التي نشهدها بالعموم والانتشار بشكل فاجأ كثيراً من أفراد المجتمع، وجعلهم يتساءلون كيف حدث هذا وبهذه السرعة! ولفهم آليات هذه التغيرات نشير إلى ثلاثة من عواملها الرئيسة، وهي: ظهور النفط في المملكة، مع ما يعني ذلك من توافر دخل مالي للدولة سهّل عليها تحديث المجتمع وتعميم الرخاء فيه ووصله بأكثر المجتمعات تقدماً. أي عامل الثروة. إضافة إلى الثورة الاتصالية المتمثلة في ظهور شبكة الإنترنت ومن ثم الهواتف الجوالة الذكية. أي عامل التقنية.
وأخيراً الإرادة السياسية المتكئة على نتائج العاملين أعلاه، والتي أعقبتها ظهور فئات اجتماعية جديدة مستعدة للتغير، بل ومتعطشة له. أي العامل السياسي، أو ظاهرة الدولة.
لقد مكّن الجوَّال الذكي من تسريع انتقال الأفكار، وبالتالي تبدّل المعايير وتغير القيم وتقبل ما كان مرفوضاً. وبناءً على هذا الاستعداد المجتمعي رأت القيادة السياسية أن المجتمع متطلع إلى التغيير، فأطلقت عملية التغير الموصوفة علاماتها أعلاه.
اترك تعليقاً