الاقتباس والتضمين عند أهل البديع هو أن يُدخل الشاعر شطرًا (نصف بيت) أو بيتًا كاملًا من شعر غيره من الشعراء، أو أن يستعير آية قرآنية أو حديثًا من أحاديث المصطفى، صلى الله عليه وسلّم، فيجعلها في شعره لغرض أدبي محدد.
يتشابه الاقتباس والتضمين من جهة المعنى الاصطلاحي؛ إذ يشير كلاهما إلى استلاف نص إلى نص آخر. لكن معظم المشتغلين بالأدب يفرِّقون بين الاثنين؛ فالاقتباس يعني أن يُدخل صاحب الكلام أو الشعر أو النثر شيئًا من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، أما التضمين فهو أن يستلف من شاعر غيره. وهناك من يفرِّق بين الاقتباس والتضمين على معيار آخر، وهو التنبيه وعدم التنبيه إلى النص المُستعار. فيكون المأخوذ في حالة التنبيه اقتباسًا وفي حالة عدم التنبيه تضمينًا. والمعيار في التنبيه هو شهرة النص المستعار، فإن كان معروفًا للجميع لا يلزم التنبيه.
واتفقت كلمة أهل الأدب على أن أعلى مراتب الاستلاف وأجودها هي تلك التي يستمد فيها الشاعر من كتاب الله تعالى. وهذا ما جعل الشعراء يعمدون، في قرون سابقة، إلى الإكثار من التضمين حتى يتقوّى النص ويتمتّن وتُشاد عليه صروح الجودة والحُسن.
ويرى بعض النقاد أن الحاجة إلى الاقتباس والتضمين نشأت في عهود تراجع فيها الأدب وتدنّت فيها مواهب الشعراء، وتقاصرت كلماتهم عن بلوغ المعاني الدقيقة. لكن هذا الحكم ليس على إطلاقه، فالتضمين نوع من الفنون حجز مكانة له في دنيا الأدب.
من بين من برعوا في هذا الاتجاه الشاعر السوداني الشيخ عبدالرحيم محمد وقيع الله. وهذه البراعة، وإن جاءت على نحو تقليدي في زمن الحداثة، تشكِّل ملمحًا أدبيًا يُستحسن تناوله. وعندي أن إكثار هذا الشاعر الشيخ أو الشيخ الشاعر من التضمين من كتاب الله تعالى على نحو خلّاب وجذّاب، يشير إلى أن شاعرنا قد ضلُع في القرآن وعلومه، وتمكّنت فيه آلة الحفظ، حتى تيسّر له أن ينتقي ما يشاء من الآيات ومعانيها متى شاء وهو ينظم قصائده؛ هذه واحدة. والثانية أنه عمد إلى التضمين بوصفه نوعًا من الاستدلال والبرهان على ما ذهب إليه من حكمة أو موعظة، خاصة أن مجال شعره ذو طابع ديني بحت.
وُلِد الشاعر الشيخ عام 1921م، وتُوفِّي في عام 2005م. ولم يتلقَّ تعليمًا نظاميًا، وإنما حفظ القرآن الكريم ودرس مبادئ علوم النحو واللغة العربية في قريته التي تقع في السهول الغربية بالسودان. وظل ملازمًا لقريته يتولّى الإرشاد والتوجيه منذ الأربعينيات حتى وفاته. وله شعر بالعامية السودانية، كما له شعر بالفصيح، وكلها تعالج موضوعات ذات صلة بالعقيدة والآداب والأخلاق وسيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلّم. كما خصص جزءًا من أشعاره في التنويه بالعلماء والزهّاد، وبعضها في الرثاء. فمثلًا، قصيدته التي عنوانها “اِنهَ النهى” هي من غرر قصائد التوحيد، يدعو فيها الشاعر إلى تنزيه الله وتوحيده، فيقول:
اِنهَ النهى في صبحه وبياته لله عمّا لا يليق بذاته وازجره عن دَرَك التفكر فيه ولـ يَكُ دائمًا في سر مخلوقاتِه هو أولٌ هو آخر هو واحدٌ في ذاته أفعاله وصفاتِه لم يتخذ ولدًا وصاحبة ولم يولد تعالى الله في سَبَحاتِه ومخالف للخلق "ليس كمثله شيءٌ" تركّب شكل جزئياتِه
هكذا وضع الشاعر النص المقدس في نسقه البياني على نحو بديع. ويتحدث الشيخ عن خصائص المصطفى، صلى الله عليه وسلّم، وكيف أن قرينه من الجن أسلم فلا يأمره إلا بخير. وكيف أن الله، سبحانه وتعالى، سيجزل العطاء لنبيه، صلى الله عليه وسلّم، فيقول الشيخ:
صحائفه ابيضّت برسم رقيبه فأملى ولم يكتب عليه عتيدُه أُعينَ على من ظل بالخير آمرًا فأسلم، لم يأمر بسوء مَريدُه أتى في الضحى "ولسوف يعطيك ربك فترضى" تعالى الله جلّ مزيدُه وما كان مولانا يعذب أمة وأحمد فيهم لا يزال وجودُه
وفي قصيدة أخرى في الاتجاه نفسه يشير إلى عبادته وأخلاقه، صلى الله عليه وسلّم، فيقول:
يقوم دجى الأحلاك شكرًا لربه وغار حراء شاهد وحجونُه "عزيز عليه ما عنتم" وإنه "رؤوف رحيم" بالذين يلونه
والأمثلة كثيرة جدًا، ومن درس شعر هذا الرجل وطالع قصائده التي نظمها في العقائد والأخلاق والآداب والسيرة، يرى أن التضمين والبراعة في فن التضمين، هما من أوضح وأظهر السمات التي تتجلى في قصائده، بل لا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذا النوع، وهو إذ يفعل ذلك يفعله بيسر ودون تكلّف.
اترك تعليقاً