راج في عالم العمارة خلال السنوات الماضية مصطلح التصميم البيوفيلي، الذي يعتبر الطبيعة عاملًا مهمًا ضمن العوامل التي يجب الأخذ بها في تصميم كافة أنواع المنشآت المعمارية. ومن المتوقع لهذا الاتجاه في التصميم المعماري أن يطغى على غيره من الاتجاهات التقليدية في معظم أنحاء العالم. فما هو التصميم البيوفيلي؟ وبماذا يمتاز عن غيره من التصاميم المعمارية؟
تستهلك المباني، بتصميماتها السائدة حاليًا، نحو 34% من إجمالي استهلاك العالم من الطاقة، وتسهم بحوالي 37% من إجمالي انبعاثات الكربون. جاء ذلك في “تقرير الحالة العالمية 2022م” الصادر عن الأمم المتحدة، والمقدم إلى قمة المناخ “كوب 27” في مصر. وتنطوي هذه النسبة على إساءة كبيرة للبيئة والطبيعة وصحة الإنسان ومستقبل الحياة على الأرض. وما يفاقم الأوضاع سوءًا هو أن الإنسان المعاصر يعيش معظم أوقاته في العالم الافتراضي أمام الشاشات، بعيدًا عن الطبيعة وغير مكترث بما يحل بها من كوارث. وفي إطار الالتفات مجددًا صوب الطبيعة ووجوب حمايتها، الأمر الذي بدأ يشغل العلماء والمفكرين والمبدعين، دخل التصميم المعماري على الخط نفسه، وتبلور نتيجة ذلك مفهوم التصميم البيوفيلي.
ظهور هذا التصميم الجديد ونشأته
اشتُقت كلمة البيوفيلي من الكلمة اللاتينية “Biophilia” وهي مكونة من مقطعين، “Bio” وتعني حياة أو أحياء في اللّغة اليونانيّة القديمة، و“Philia” بمعنى الأُلفة أو الحبّ؛ أي حب الحياة. ويُعرف التصميم البيوفيلي بمسميات عديدة منها التصميم الحيوي؛ ويُقصد به التصميم الذي يوفّر حاجات الإنسان الفطرية والحيوية، ويعتمد على دمج الطبيعة وعناصرها في البناء الداخلي والخارجي على حد سواء، وإيجاد صلة دائمة بين أي عمل معماري والطبيعة.
نشأ هذا الاتجاه لمواجهة التأثيرات السيئة لهذه المباني الحديثة على البيئة في صورة استنزاف مواردها، وفي أسلوب استهلاك الطاقة والمياه وإنتاج النفايات، ما يهدّد استمرارية واستدامة الموارد والبيئة والحياة، إضافة إلى ما لذلك من تداعيات صحية سلبية على الصحة العامة لمستخدمي هذه المباني أو سكان هذه المدن. وهذا ما دفع كثيرين من الخبراء في مجالي البيئة والتصميم المعماري للدعوة إلى إعادة التفكير في تصميم المباني والمدن.
وصاحب ظهور التصميم البيوفيلي مصطلح “العمارة الخضراء”، وهي أحد الاتجاهات الحديثة في الفكر المعماري المهتمة بالعلاقة بين المباني والطبيعة. فالمباني الخضراء تراعي البيئة وتسعى إلى تقليل تكاليف إنشائها واستهلاكها للطاقة والمواد، وتضمن توازنًا طبيعيًا وظيفيًا مع البيئة ومحدداتها، وتتوافق مع محيطها الحيوي بأقل قدر من الأضرار الجانبية. لذا، فإن الحلول والمُعالجات البيئية التي تقدّمها العمارة الخضراء تقود إلى تحقيق فوائد اقتصادية كبيرة.
تاريخ التصميم البيوفيلي
ترجع جذور هذا التصميم إلى العصور القديمة؛ ويُعتبر البابليّون حسب ما نعرف أول من جسّده في عمارة حدائق بابل المعلّقة. واستمر هذا النمط من التصاميم خلال الفترات التاريخية اللاحقة خاصة في العصور الإسلامية وما بعدها حتى العصر الحديث، حيث ظهر مصطلح التصميم البيوفيلي. ويُعتبر عالم النفس الاجتماعي الألماني الأمريكي إريك فروم (1900-1980م) أول من ابتكر مصطلح البيوفيليا في كتابه “The heart of the Man” (قلب الرجل) الصادر عام 1964م، وعرّف هذا المصطلح بأنّه “الحب العاطفي للحياة وكل ما هو حي”.
ثم استُخدم هذا المصطلح لاحقًا عام 1984م من قبل عالم الأحياء الأمريكي إدوارد أو. ويلسون (1929-2021م) في مؤلَّفه “The Biophilia Hypothesis”. وقد وصف ويلسون البيوفيليا بميل الإنسان إلى الطبيعة، وطرح فرضية أنّ البشر مُهيؤون بيولوجيًا لذلك، ولديهم الرغبة في الاتصال مع الطبيعة والأنظمة الطبيعية المختلفة. واستندت فرضيته على أساس الأبعاد المتعددة للعلاقة الفطرية التي يتشاركها البشر مع الطبيعة، والتي تتجلّى بدورها كمصدر للإلهام والسلام والتعلُّق البشري بالطبيعة في شكل روابط عاطفية للمناظر الطبيعية والمساحات الخضراء. وأخيرًا تبنّى أستاذ علم البيئة الاجتماعية ستيفن كيلرت مع مجموعة من الأكاديميين فكرة ربط البشر بالطبيعة داخل بيئتهم المبنية.
عناصر التصميم البيوفيلي
العناصر الرئيسة في التصميم البيوفيلي مقتبسة من البيئة الطبيعية، كالماء والضوء والمساحات الخضراء. كما تُستخدم المواد الطبيعية، مثل الفلين والحجر والخشب وغيرها، في تشييد أجزاء البناء المختلفة؛ لأنها تُعطي إحساسًا بالراحة. ومن عناصر التصميم البيوفيلي المهمة السماح بدخول كمية كبيرة من الضوء الطبيعي إلى المكان، واختيار خامات من الطبيعة كالخشب والبامبو والراتان والحجر الطبيعي، وكذلك استخدام ألوان مستوحاة من الطبيعة كالأخضر والأزرق ودمجها مع النباتات الطبيعية، وهذا كله يُساعد على استحضار الطبيعة في البيئة الداخلية.
أثره على الصحة النفسية للإنسان
أظهرت الدراسات والبحوث العلمية أن الطبيعة هي علاج فعال لعدد من المشكلات النفسية، وأن التصميم البيوفيلي للمنشآت المعمارية له فوائد صحية وبيئية واقتصادية واجتماعية وتنموية وغيرها؛ فهو يساعد على تقليل التوتر والإجهاد والتعب ويخفّض ضغط الدم الانقباضي، ويُحسّن وظائف المناعة بشكل عام والوظائف الإدراكية، ويُنظّم العاطفة والمزاج، ويولّد شعورًا بالسلام والاسترخاء مما يُساعد بدوره على تعزيز الإبداع والابتكار.
والإنسان، كما سبق القول، بطبعه مُحبٌ للحياة، ويميل إلى السفر والتنزه وسط المساحات الخضراء والمحميات الطبيعية. وهذا ما يُوصي به علماء الصحة النفسية لتحسين الحالة المزاجية للإنسان. كما أشارت دراسة في جامعة ستانفورد الأمريكية أجريت على مجموعة من الأشخاص، أنّ المشي لمدة 90 دقيقة في بيئة خضراء له تأثيرٌ مهدّئ، ومفيد في تقليل القلق وعلاج الاكتئاب. وهذا ما حفّز المعماريين على توفير المساحات الخضراء في التصميمات البيوفيلية الداخلية والخارجية.
كما أن وجود النباتات والمساحات الخضراء ضمن العناصر الرئيسة في التصميم البيوفيلي يمتص المواد الضارة والسموم، ويُنتج بخار الماء في الهواء ويحسن جودته، ويجعل الناس أقل عرضة لمسبّبات الحساسية وأمراض الجهاز التنفسي. أما توافر الضوء الطبيعي في التصميم البيوفيلي فيساعد في تنظيم دورات النوم، مما يُؤدي بدوره إلى زيادة القدرة الإنتاجية؛ لأنها تنخفض بوجود الأمراض المرتبطة بالتوتر والضغط النفسي.
وتبيّن أن التصميم البيوفيلي يعزّز النمو الصحي طوال مرحلة الطفولة، لذا يُنصح بتطبيقه في تصميم المدارس. وقد أظهر بعض الطلاب تركيزًا أعلى وذاكرة أقوى لدى دراستهم في مثل هذه البيئات؛ لأن الدماغ البشري يعالج السمات الطبيعية والأنماط الحسيّة بسهولة مقارنة بالأنماط الاصطناعية. وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة إبداع الفرد ويحسن أداء الذاكـرة والقـدرة على التعلُّم. إضافة إلى أنه يسهم في صفاء الفكر والراحة الذهنية، كما يقوي الجهاز العصبي الداخلي والجهاز المناعي.
ويُنصح أيضًا بإدخال هذا النوع من التصميم في المستشفيات، إذ أثبتت دراسات جديدة أن توافر عناصره يساعد في تسريع عملية الشفاء للمرضى. ومما يجدر ذكره في هذا الجانب أن التصميم البيوفيلي استُخدم حديثًا ضمن الإجراءات المتبعة لعلاج فيروس كوفيد-19 لتعزيز مناعة الجسم؛ حيث إن التهوية الطبيعية تُخفّف من أثر وجود الفيروسات بشكل عام في الهواء.
أخيرًا، تفرض علينا التغيرات المناخية، وما ينتج عنها من تهديد لمستقبل الحياة على الأرض، إدخال تغييرات جذرية على نمط حياتنا. والتصميم البيوفيلي بدوره يسهم في تغيير قطاع مهم يتعلق بكيفية سكننا وعملنا وحياتنا، وإيقاف العبث بالطبيعة والبيئة، ويجعلنا متناغمين مع استدامتهما.
اترك تعليقاً