مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

التسويق أجمل بالفُصحى!


أصالة كنبيجة

قل للمليـحة بالخمـارِ الأسود
            مــاذا فعـلتِ بناسـكٍ متعبدِ
قد كان شمَّر للصلاة ثيابه
            حتى وقفتِ له بباب المسجدِ
ردِّي عليـه صــلاتهُ وصيــامه
            لا تقتليهِ بحـقِّ دِيـــنِ محـمدِ

العاملون في مجالات التسويق أو الدعاية والإعلان، يتداولون الرواية التسويقية لهذه الأبيات القائلة في مضمونها: “إنَّ تاجرًا كوفيًّا جاء إلى الحجاز ببضاعة من الأخمرة النسائية فباعها كلها عدا السوداء منها، لم تجد لها حظوة لدى النساء ولم يشترينها، فشكا التاجر إلى صديق له كان شاعرًا، بُغيةَ طلب الدَّعم والمواساة، فما كان من صديقه إلا أن أنشدَ عليه هذهِ الأبيات التي تركت أثَرها في نفوسهنَّ واسترعت اهتمامهنَّ، وجعلتهنَّ مقبلاتٍ على شراءِ الأخمرة السوداء حتى نفدت”.

تُعرَف اللغة بأنها أداة للتواصل الإنساني ووعاء للمعرفة والهوية الثقافية على حدٍّ سواء. وللغة العربية تحديدًا خصوصيتها فيما سبق، بما تحمله من موروث ثقافي عربي يضمُّ المعارف والآداب والقيم والمبادئ وغيرها، وهو ما ينعكس على واقع الروابط والصلات بين المجتمعات العربية وفنون التواصل بين الناس فيها على مرِّ العصور. غير أن العالم الرقمي اليوم، الذي ألقى بظلالِ سماته وخصائصه على كلِّ شيء وصبغ الأشياء، بل والأشخاص والمفاهيم بصبغة مغايرة لما ألفناه، فعل فعلته أيضًا مع اللغة وأساليب التأثير والتأثر فيما بين الناس. 

عند الحديث عن مجالات التسويق والدعاية والإعلان، نجد أن العاملين فيها، خاصة كتَّاب المحتوى، يتعاملون مع ” اللغة” على مستويين: العربية الفصيحة واللهجة المحلية؛ إذ يبرز دور اللغة المحوري في إيصال الرسائل التسويقية إلى الفئات المستهدفة من العملاء للتأثير فيهم، سواء كان الهدف تعزيز سلوكياتهم في شراء واستهلاك منتجات وخدمات بعينها، أو استبقاء ولاء العملاء للعلامة التجارية، أو بغرض رسم صورة ذهنية معينة لديهم عن العلامة التجارية وغيرها من الأهداف. وإن كان للأدوات التسويقية هرمٌ ثابت، فستكون اللغة بالتأكيد أعلاه، تُحدد اتجاهه، وتحمل على عاتقها توزيع بقية مسؤوليات الإقناع والتأثير على العناصر الأخرى، مثل: مظهر التصميم، أو مسار بناء الفيلم الإعلاني أو التسويقي، وغيرها من المخرجات.

إن اختيار كاتب المحتوى للمستوى اللغوي المناسب لكتابة النص التسويقي، أيًّا كان، يتأثر في العادة باعتبارات عديدة، منها: نبرة العلامة التجارية، وطبيعة الفئة المستهدفة من هذا النص، سواء كان مجرد محتوى نصي مكتوب، أو محتوى نصي مُعد لتدوينة صوتية، أو محتوى نصي مُعد لفيلم قصير. غير أنَّ معطيات العالم الرقمي تنحاز بالأكثر إلى مستوى اللهجة المحلية، ولا تكاد تخلو التوجيهات المرتبطة بالمهام الواردة على كاتب المحتوى من إحدى العبارات التالية: “استخدموا اللهجة البيضاء”، و”الأفضل يكون النص بالعامية”، و”قدّموا مقترحاتكم باللهجة المحلية عشان تلامس الناس”.

“تلامس الناس”، هذا الوصف الذي أقف عنده كثيرًا في كلِّ مرة. متى تفوَّقت اللهجة المحلية بالحصول على هذا الامتياز؟! دفء الاتصال بالناس على مستوى الشعور والأفكار، والقدرة النافذة برشاقتها على لفت انتباههم وترتيب دوافعهم أو تحفيزها.

على مستوى السوق وفرص العمل، أثَّر هذا التفوق للهجة المحلية في الكتابة التسويقية وفي تنوّع الفرص الوظيفية التي ترجح كفّتها لمصلحة المواطنين أو المقيمين المتشرّبين للهوية العربية السعودية، من المحيطين باللهجات وفقًا لسياقاتها الثقافية في مختلف المناطق؛ لأنهم الأقدر على تفادي إشكاليات الفهم الخطأ عند استخدام الكلمات في غير محلّها، وهم الأمهر في تخصيص النصوص المكتوبة تخصيصًا يُناسب السِّياق ويلائم الفئات المستهدفة لدى العلامة التجارية، فضلًا عن تعزيز بناء الرابطة المعنوية بين العلامة التجارية التي تفهم عملاءها وتلبي احتياجاتهم بحسب اهتمامهم. فهل تقصُر إمكانات الفصحى عن فعل ذلك؟

أزعم أنَّ الإجابة هي “لا”، ولا سيَّما أنَّ للفصحى امتيازات اللهجة المحلية نفسها عند الاستخدام، بل تزيد عليها بالرصانة والوفرة الكبيرة في المرادفات؛ وهو ما يتيح لنا استخدام مفردات فصيحة سهلة الفهم، يستوعبها المتلقِّي وتُثري ذائقته.

إنَّ استخدام الفصحى عند الكتابة التسويقية يُـكسبنا امتيازًا بلاغيًا وبيانيًا، فيه مراوغةٌ للمعاني، واستعارة للكلمات من سيـاقاتها ودلالاتها التي ألفتها واعتادتها، والزجّ بها في سياقات جديدة وخلَّاقة قادرة على إعادة حيويتها في تقديم معنى جديد لافت يستحوذ على انتباه العملاء. وفي حالات أخرى، تُقدِّم لنا الفصحى ميزة إيقاعية فريدة تخلق حالة من التناغم بين عبارتين كأنهما تتكاملان في نغمة أو رقصة.

ما زلتُ أذكر أحد المواقف الطريفة التي جمعتني بإحدى الزميلات، حيث وقفت على استخدامي لكلمة “حثيثة” في سياق تحدّث عن الجهود المبذولة في أمرٍ ما، فقالت لي، آنذاك: إنها كلمة ثقيلة وصعبة، وسينقسم الناس في استقبالها ما بين من يدرك معناها لكنه سيستنكر استخدامها ويرفض المخرجات جملة وتفصيلًا، وما بين من يقف مُستعجبًا مُستفهمًا.

تجاوزتُ تعليقها منحازة إلى تفضيلي الشخصي في اختيار الفصحى للتفكير والكتابة والتعبير؛ لأني ما زلت غير قادرة على استساغة استخدام اللهجة المحليّة في المخرجات التسويقية والإبداعية عند مخاطبة الناس.


مقالات ذات صلة

ما الذي يجعلنا نُحبُّ الاستشهاد بالأمثال؟

هل يمكن تعليم السعادة؟ وهل يمكن تحديد معايير قابلة للتطبيق من كل مَن ينشد الشعور بالسعادة؟ وهل الشعور بالسعادة يعدُّ مهارة يمكن ممارستها مثل الرياضة أو العزف الموسيقي؟

ماذا لو قلنا إن جزءًا كبيرًا من التراث الأدبي يُعنى بالسخرية التي تشمل الصعلكة من تكدية (الحيلة والتسول لاستجداء المال) وبخل وتطفُّل وغيرها من مساوئ الأخلاق التي يترفَّع عنها الناس!


0 تعليقات على “التسويق أجمل بالفُصحى!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *